.
– في تقديري إنها كانت اختراع أيديولوجي بعد وفاته بطبيعة الحال، بمعنى إنه في وقته كان فيه أفكار محددة ممكن الواحد يفكر فيها إلا وهي هتركب موسيقى إزاي للمسرح تحديدًا أو هتحاول تركب علاقة مختلفة ما بين الكلام واللحن إزاي. دا كلام زكي طليمات مثلًا اللي بينقله عن سيد درويش في كتاب ذكريات ووجوه. بس أكيد سيد درويش ما كانش معتبر نفسه فاتحة الموضوع أو معتبر نفسه صاحب مهمة تخليص الغناء المصري من الأثر التركي أو ما شابه. في رأيي كان الموضوع عنده مختلف ومرتبط أساسًا بضرورة إن اللحن المسرحي يصبح خفيف وسهل الحفظ ومرتبط بأحداث المسرحية، ودا يجنح فادي العبد الله إلى اللسان المصري عند حديثه إلى المصريين. متماشي مع مزاج سيد درويش في تركيب علاقة ما بين الكلام وبين اللحن إلى حدٍ ما، وامتداد للشيخ سلامة حجازي مثلًا وليس حاجة منفصلة تمامًا عما قبله.
لكن بعد كدا تم تحميل الشيخ سيد درويش في رأيي حمولات أيديولوجية من نوع “فاتحة التعبيرية” و“مخلص الغناء المصري“، التحميلات دي جات بعد وفاته بحوالي ١٠-١٥ سنة على الأقل، ودي لها أسبابها كما حاولت شرحها في محاضرتي عن اختراع الأصالة، والعلاقة بين الرغبة في اختراع الأصالة وما بين إنك تعلن للمحتل الإنجليزي إنك على نفس القدر من التحضر والتطور وفي الوقت نفسه مختلف تمامًا كهوية. وهذا يعني احتياجك لعمل تمايز ما بين موسيقاك وموسيقى الآخرين عشان يكون لك هوية مستقلة. فلازم تبقى الموسيقى مختلفة عن الموسيقى الأوروبية وعن الموسيقى التركية، باعتبار إن الأوروبيين غالبًا كان رأيهم إن كل دا “مزيكا شرقي” في الآخر فمش مهم يعني نعمل مثلاً مؤتمر للموسيقى العربية وندعو خبراء أتراك مش مشكلة. بس الرد من ناحية تانية كان “لأ إحنا مختلفين عن الأتراك ومختلفين عن الأوروبيين” وبالتالي فيه هوية مصرية مختلفة لازم تتركب. دا من ناحية، ومن ناحية تانية في مؤتمر الموسيقى العربية الأول في القاهرة ١٩٣٢ كان فيه نقاش “إحنا لازم نطور المزيكا بتاعتنا“، ولما الخواجات الأجانب كانوا بيقولوا للموسيقيين العرب “المفروض تحافظوا على المزيكا دي بعناصرها الأصلية زي ما هي من غير هارموني ومن غير أوركسترا” فالرد العربي كان إن دا كلام استعماري وإنكم عاوزيننا نفضل متخلفين وإحنا متطورين بالقدر ذاته بتاعكم.
– رد فعل الموسيقيين العرب والمصريين على الكلام دا كان إنه خطاب استعماري وإنتم عاوزيننا نفضل متخلفين وفي الواقع لأ إحنا متطورين. الجمع بين النقطتين دول، فكرة إنه إحنا متطورين أو الأصح عندنا القدرة على التطور بالقدر نفسه، وبين فكرة إنه إحنا عندنا هوية خاصة متميزة عن الأتراك وعن الموسيقى الأوروبية في الوقت نفسه، دا اللي بيركب كل النقاش بتاع الأصالة تحت ضوء مختلف: إنك عاوز تعمل أوركسترا وعاوزها تفضل معبرة عن هوية ما، في الحالة دي بيبقى فيه حاجة لوجود رائد أصلي، فيه مُخَلِص للغناء دا من الارتباط بالغناء التركي وهو اللي شق الطريق قدام احتمالات الأوركسترا والهرمنة والبوليفوني والتعبيرية اللي كانت رائجة قوي في المزيكا الأوروبية في القرن التاسع عشر.
دا اللي بيخليني أقول إنه تم تركيب الحمولة الأيديولوجية دي بعد مؤتمر القاهرة الأول سنة ١٩٣٢ وتحميل سيد درويش بأثر رجعي المسؤولية دي، في حين إنه أيام سيد درويش نفسه أعتقد إن الموضوع بالنسبة له كان متعلق أكتر بالمسرح وإزاي تعمل له أغاني وإزاي تطور شغل سلامة حجازي في الربط بين الكلام واللحن لحدٍ ما، بمعنى إنك تخلص الغناء مش من الأثر التركي وإنما تحوله لغناء يمكن لأي إنسان يقوله، عشان احتياجات المسرح، مش غناء معقد وتطريبي وفيه صعوبات كتيرة في الأداء والزخرفة والارتجال وكدا.
– بالظبط، وأعتقد إن دا كان سببه الأساسي الضرورات المسرحية. كتاب زكي طليمات بيشير ان دور ضيعت مستقبل حياتي في ١٩١٧، يعني قبل دخول سيد درويش مجال المسرح، ودا واحد من الأدوار الناضجة لسيد درويش مش من أدواره الأولى. وتقريبًا سيد درويش لم يعد لتلحين الأدوار بعد المسرح. هو سجلها على الأسطوانات بعد كدا ودا موضوع تاني. إنما إنتاج الأدوار في حد ذاته يبدو كان وصل مرحلة كبيرة من النضج قبل بداية شغله في المسرح.
الشغل في المسرح في تقديري هو اللي خلى الأغاني اللي بقى يشتغل عليها بقت مرتبطة بضرورات المسرح، دا من ناحية، ومن ناحية تانية ما افتكرش إن سيد درويش كان عنده هم تمصير الخطاب النغمي بدليل إنه، بحسب طليمات وبحسب باحثين آخرين، كان شغله مرتبط بالأغاني اليونانية والإيطالية والأوبريتات اللي كانت موجودة في مصر في الفترة دي مع وجود جاليات كبيرة. وطليمات بيقول بكل بساطة إنه سيد درويش خد ألحان ودخلها بطريقة تستسيغها الأذن المحلية لكن هو واخدها من أصل أوروبي. في الحالة دي فأكيد همه ما كانش التمصير، بمعنى تحويل الموضوع إلى مصري خالص أو الرجوع نحو هوية داخلية متضمنة ضمن الإطار المصري المحلي، بالعكس.
يعني ما افتكرش بالنسبة لحد زي سيد درويش كان فيه فكرة عن إنه الموسيقى المصرية هي حاجة لازم تبقى مرتبطة فقط وحصرًا باللي ممكن يكون موجود في القرى أو في الصعيد، الراجل مديني لحد كبير سواء في اسكندرية أو في القاهرة، وطول الوقت عنده فكرة إزاي توصل بالموسيقى دي لإنها تجاري الإنتاج المسرحي الغربي اللي كان موجود داخل مصر، واحد من الحاجات اللي بتدل على دا محاولة إدخال البيانو ومحاولة التوزيع لما طلب من حد يوزع، وكمان القصص اللي بتتكلم عن رغبته في السفر لإيطاليا للدراسة هناك، عشان يقدر يعمل الموضوع دا.
– ما عنديش معلومات دقيقة عن اللي بتذكره عن صفر علي وإدخال التشيلّو في عمل أوبرالي له، ما أعرفش تاريخه ولا مدى موثوقيته، لكن بغض النظر فالمهم في رأيي ليس البحث عن مين أول حد عمل دا. لازم نخلص من هاجس الأوائل أو الرواد أو الفواتح. فلما نتكلم عن سيد درويش، بغض النظر إذا كان هو أول حد دخل البيانو أو لأ، فالفكرة إنه بمجرد إدخاله البيانو فهو مش في منطقه العودة نحو هوية منغلقة بقدر ما كان في منطقه تحويل الإنتاج المسرحي المصري إلى إنتاج موازي للإنتاج المسرحي الأوروبي اللي كان أكثر تعقيدًا بطبيعة الحال، من الناحية الموسيقية.
– هو كمان سجل أعمال من المسرح على اسطوانات.
– لكن مش أكيد إنها كانت بتؤدى بشكل مختلف قوي، عشان بساطتها، فما كانش فيه مجال للتوسع قوي في أدائها أو عمل تأويلات.
– طبعًا هي حاجات مختلفة بس أعتقد إنه مع سلامة حجازي كان فيه بداية الربط ما بين الغناء وبين الموقف المسرحي، جايز إن دا كمان كان موجود مع بعض إنتاج أبو خليل القباني، مثلًا له موشح مشهور اسمه مالي عيني أبصرت، مش عارف إذا كان أبو خليل القباني عامله كجزء من مسرحية ولا لأ، بس دا نموذج من الألحان اللي الراجل دا كان ممكن يعملها، وهتلاقي فيه حاجات كتيرة قريبة من الشغل المسرحي اللي ممكن نلاقيه بعدين مع سيد درويش مثلًا، في فكرة الشحنة العاطفية الدرامية المرتبطة بالمزيكا.
شخصيًا ما باحبش عبارة التعبيرية وكتبت مقال طويل ونظري حبتين عن الاعتراض على فكرة التعبيرية، بمعنى إنه المزيكا مش المفروض تعبر عن الكلام، دا كلام غير دقيق، بدليل إنك ممكن تركب كلمات مختلفة على المزيكا وممكن تنتشر أكتر حتى من الكلمات الأصلية، كل فكرة القدود قائمة على كدا، ودي فكرة السرقات الموجودة طول الوقت. والأمثلة اللي بتُضرب على موضوع التعبيرية أمثلة بسيطة وسخيفة إلى حد كبير، زي عشان ما نعلا نعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي طب وبعدين؟ الكلام الباقي مافيهوش تعبير يعني، وفيه ناس تانية بتحاول تقول إن التعبير مرتبط إنك تقول بسرعة عالية أو بسرعة بطيئة أو على طبقة عالية أو على طبقة منخفضة، بس دي أدوات تعبير شديدة البساطة وما بتقولش حاجة فعليًا عن الكلام. ممكن تقول لك عن الجو العام إنه دا جو منكسر ولا جو منتصر، بس الانكسار دا سببه إيه؟ هل سببه الوجد أو الحزن أو المرض إلخ؟ ما عندكش أي أفكار، فبالتالي المزيكا في الواقع حاجة منفصلة تمامًا عن الكلام. لكن، وهنا الاعتراض اللي بيقدمه سترافنسكي اللي هو أكتر حد قال إنه المزيكا ما بتعبرش عن أي حاجة غير عن نفسها، بمعنى إنه مافيش مرادف موضوعي للخطاب الموسيقي تقدر تحطه بلغة تانية. بس سترافنسكي نفسه بيقول لك إنه فيه حاجات تليق على حاجات، يعني لو هتقدم رقصة ففيه جمل ممكن تكون لايقة على الرقصة دي.
ففكرة التلبيق دي أساسية، ودا في رأيي شغل أساسي عند حد زي سيد درويش، يعني لو هتحط خطاب على لسان حد سوادني بتستعمل السُلم الخماسي عشان يليق أكتر على الخطاب، بغض النظر إذا كان الشخص دا بيقول حاجة فَرِحة ولا حاجة حزينة هتستعمل غالبًا الخماسي عشان الخماسي بيوحي بالجانب الإفريقي والسوداني، فهو يليق أكتر بالموضوع اللي بيشتغل عليه. ودا الشغل اللي عملته في المقال عن الموسيقى بدون تعبير، فكرة إنك مش بتعبر عن الكلام إنما ممكن تلاقي حاجات توحي وتركب إيحاءات معينة مرتبطة بتاريخ الموسيقى وتاريخ الشخص المتلقي وبتاريخ وتجربة الموسيقي، بالمعنى دا الموسيقى ممكن يكون لها قدرات على إنها تحمل مضامين لها علاقة بالتاريخ وبالجغرافيا أعمق بكتير جدًا من الربط بينها وبين الكلام المتغير وغالبًا السطحي واللي بيتردد طول الوقت. حتى كبار الملحنين عملوا طقاطيق بالشكل القديم، اللي هو كل الأغصان على لحن واحد أيًا كان الكلام اللي بتقوله، ودا مش معناه إنهم كانوا بيعملوا حاجة سيئة.
– بالظبط فما نقدرش نقول إنه بالتالي كان بيحاول يعبر عن الكلام، لكن هو غالبًا كان بيحاول يلاقي حاجات تعمل الإيحاء زي ما ذكرت لك المثال بتاع السوداني والسلم الخماسي دا فيه نوع من الإيحاءات أو يلاقي حاجة تليق بالمضمون نفسه بس مش تعبر عن مضمون كلمة مقابل كلمة دا ما ينفعش.
– أعتقد موضوع عبد الوهاب أعقد من كدا شوية. مش متأكد إنه عبد الوهاب اعتمد على سيد درويش في موضوع التعبيرية وما عنديش الإحساس إنه كان بيحاول يكون تعبيري. أولًا فكرة إنه سيد درويش كان يمشي ورا السقايين والحاجات اللي زي دي مش عارف دا حقيقي ولا من الأساطير اللي اتركبت عليه، الأغلب إنه أصلًا بحكم المعيشة كان مختلط بأغلب طوائف المجتمع نفسه، لكن ما اعتقدش الموضوع تعدى ذلك. وما اعتقدش إن فيه حد لغاية دلوقت عمل دراسة جدية على أغاني الفولكلور المصري وقارنها بأغاني سيد درويش. لو سمعت أغاني الفولكلور هتنتبه إنها مختلفة جدًا عن شغل سيد درويش. غالبًا الأغاني الفولكلورية درجاتها لا تتعدى الأربعة أو الخمسة بالكتير وفي ٩٠٪ من الحالات على الأقل منحصرة في جنس واحد. طقاطيق سيد درويش مافيش واحدة فيهم تقريبًا منحصرة في المجال دا. برضو ٩٠% من طقاطيقه هي تأليف موسيقي محترف عنده قدرة على التنقل ما بين المقامات وتركيب الأجناس وعاوز يكون فيه مساحة صوتية تستخدم الشغل اللي هو بيقوله، في حين إن المساحة الصوتية الضيقة والالتزام بجنس موسيقي واحد دي سمات مؤسسة في الفولكلور، وحتى على المستوى الإيقاعي فيه إيقاعات عند سيد درويش تشبه إيقاعات فولكلورية وفيه إيقاعات تانية جاية من أماكن تانية، فيه إيقاعات ثنائية مرتبطة أكتر بالمارش ولها أصل أوروبي أو تركي مش بالضرورة أصل محلي. دي أول نقطة بتخليني أشكك شوية في موضوع إنه سيد درويش بيستوحي شغله من الطوائ.، في رأيي إنه بيلاقي حاجات توحي بالطوائف دي بس مش بيروح وبياخد منهم حاجات وبييجي يركبها في إطار المزيكا بتاعته. رأيي إنه هو أهم من إنه يكون بس بيستعير الحاجات دي وبيحطها في المكان دا.
– بس بيعرف يركب فكرة الإيحاء دي عشان توحي لك بإن الطوائف دي فعلًا بتتكلم أو بتغني بالطريقة دي. النقطة التانية نقطة عبد الوهاب. عبد الوهاب في الواقع ما خدش كتير من سيد درويش، أخد قليل جدًا. بغض النظر عن الجانب الأيديولوجي، على مستوى الجانب الموسيقي تلحين عبد الوهاب للمسرح أو ما وصلنا منه على الأقل مختلف جدًا عن تلحين سيد درويش للمسرح: عبد الوهاب بيلحن كمُطرب لمُطرب سيد درويش بيلحن كموسيقي لمؤدين مش مُطربين، ودا من الأول بيخليك داخل في منطقة مختلفة تمامًا. عبد الوهاب ما اشتغلش قوي على فكرة التعبيرية دي وما عملش الشكل الساذج اللي بيتكلموا عنه واللي في ناس مثلًا بتلاقيه أكتر عند السنباطي من عبد الوهاب.
وثالثًا في رأيي استخدام عبد الوهاب لسيد درويش هو تحت مُسمى التجديد مش تحت مُسمى التعبيرية، بمعنى إنه كان دايمًا بيقول أهو فيه حد قبل مني عبقري ومشهود له وكل حاجة وكان مجدد وكان عنده الجرأة على الخروج على التقاليد اللي كانت موجودة قبله، فبالتالي أنا برضو لازم يبقى مسموح لي إني أعمل حاجة جديدة مختلفة عن اللي إنتم متوقعينه، وهو عمل حاجة جديدة حتى بالمقارنة مع سيد درويش. عبد الوهاب دخل في منطقة أبعد من سيد درويش في موضوع التفاعل مع الموسيقى الأوروبية وموضوع التركيب الأوركسترالي وموضوع تلحين القصائد واستعارة إيقاعات غربية بشكل واضح ونافر، عشان زمنه كان غير زمن سيد درويش، وعبد الوهاب دخل في منطقة الأغنية السينمائية المطلوب منها تنافس الأغنية السينمائية اللي كانت موجودة في السينما الأمريكية والأوروبية وقتها، فبالتالي واخدة منطق الأغاني اللي كانت موجودة في السينما الأجنبية.
في رأيي إنه استعمل سيد درويش من ناحية إنه مجدد فأنا برضو مجدد مش من ناحية التعبيرية عن الكلام لأن عبد الوهاب نفسه عمل طقاطيق كتير برضو من غير اختلافات كتير في الأغصان مثلًا، فما افتكرش إن موضوع التعبيرية كان أساسي عنده، وبعد كدا عبد الوهاب في الآخر ماهواش باحث موسيقي وافتكر إنه كان إلى حد كبير بيرد أو بيتفاعل مع الخطاب السائد الموجود في عصره بس استخدامه لسيد درويش كان أساسًا في التلاتينيات والأربعينيات، أفتكر مع السينما واللقطة اللي بيتكلم عنها فريدريك لاغرانج في الوردة البيضاء والنظر لسيد درويش وبعدين تيجي الكاميرا عند عبد الوهاب، اختراع أنساب عشان يبرر الحاجات اللي هو بيعملها من ناحية إنها حاجات مجددة مختلفة عن الطرب القديم اللي هو دايمًا كان عنده مشكلة معاه، وبيلاقيه ضاغط قوي على الحنجرة ومتعب وبيزيد في الزخرفة ومافيهوش أناقة الاختيار.
عبد الوهاب زي أم كلثوم بالمناسبة اللي هما قريبين في النقطة دي رغم اختلافاتهم، عندهم الأرستقراطية في اختيار الزخارف الصوتية، بيقدموها بمقدار معين في أوقات معينة مش بشكل مستمر فتأثيرها على المستمع بيبقى مختلف للسبب دا. دي الحاجات اللي عبد الوهاب كان بيجدد فيها مبتعدًا عن المزيكا قبله، هو ما خدش كتير من سيد درويش في رأيي على مستوى المفردات الموسيقية ولكن اللي خده منه فكرة إن إحنا ممكن نجدد وخد منه إنك مش محتاج تشتغل طرب طول الوقت عشان تبقى المزيكا كويسة.
– مش بالضرورة، يعني فيه طقاطيق كتير كانت جماعية دا حقيقي إنما برضو كان فيه طقاطيق فردية والمطلوب إنه يكون فيه مؤدي فرد على المسرح هو اللي بيقولها، وكان فيه حوارات مسرحية بيعملها ما بين أفراد، محسوبكو انداس مثلًا هي علي لسان فرد بينما سالمة يا سلامة على لسان جماعة. فبالتالي في شغل سيد درويش كان الموضوع محكوم بضرورات المسرح، لما تكون الطقطوقة فردية يعملها لما يبقى فيه مجموعة ناس بيتكلموا كمجموعة بيعملها ولما يكون فيه حوار بين أفراد بيعمل لحن على فيه أفراد هيتكلموا ورا بعض أو يقطعوا على بعض في الغُنا، بس كل دول مش مطربين. هو كان بيشتغل مع فرق زي الكسار والريحاني اللي هما مش أصوات قادرة على الأداء الطربي، بينما عبد الوهاب لما لحن للمسرح لحن لنفسه ولمنيرة المهدية وما لحنش حاجات للريحاني وللكسار في المسرح. هو عمل شوية حاجات قليلة في السينما زي في غزل البنات المحاورة ما بين ليلى مراد ونجيب الريحاني اللي حاطط فيها الحاجات على قد نجيب الريحاني في الغُنا مثلًا.
صحيح إن سلامة حجازي قبل كدا كان مطرب وبيؤدي القصائد دي بوصفها قصائد طرب لكن في مواضعها من المسرحية، بس في رأيي إن فيه حد تاني مظلوم ومش معروف قوي واللي كان بيشتغل على المسرح بشكل شبيه لسيد درويش اللي هو داوُد حسني، ما سمعناش كتير شغله المسرحي إنما في الحاجات القليلة اللي سمعناها زي بسبس ناو مثلًا ماهواش بعيد قوي عن جو الطقاطيق الخفيفة زي اللي بيعملها سيد درويش وإن كان لسة فيها حتة إطالة الجملة الموسيقية عن سيد درويش. ودا بيفكرني بحاجة إن داوُد حسني من الناس المظلومين في الناحية دي زي ما فيه حد تاني مظلوم اللي هو أمين صدقيMADEO is awesome! أغلب شغل سيد درويش المسرحي الناس بتفكر إنه لبديع خيري كاتب مصري وُلد عام ١٨٩٣ وتُوفي عام ١٩٦٦، عمل مع فرقة نجيب الريحاني، من أغانيه الشهيرة التي لحنها سيد درويش شد الحزام وسالمة يا سلامة والقلل القناوي، وكلها من رواية قولوا له ١٩١٩، في حين إنه بديع خيري له تقريبًا نص الإنتاج والنص التاني أو أقل شوية لأمين صدقي. بس برضو دا حد مُغيبّ عن المشهد عشان يبقى عندنا فقط الثنائي العبقري الفحل الرائد المبتكر اللي هو بديع خيري وسيد درويش، في حين الموضوع كان مرتبط بمُناخ عام أوسع من مجرد الاتنين دول، وكان فيه أمين صدقي وكان فيه داوُد حسني وكان فيه شغل مسرحي مع فرق جورج أبيض والكسار والريحاني. وكل دول عملوا المُناخ دا اللي كان ممكن تطلع منه مزيكا مختلفة عن الطرب القديم بسبب ضرورات المسرح والمؤدين.
ودا بيودينا لنقطة تانية اللي هي تغير النمط الموسيقي. يعني انتقال سيد درويش من تلحين الأدوار والموشحات إلى تلحين المسرح مرتبط بتطور المسرح ووجوده وانتشاره أكتر داخل مصر ودا معناه إن طبيعة الخطاب الموسيقي نفسها مرتبطة بتغير مكاني، فلو بتسمع موسيقى في قصر الخديوي أو في التكية الصوفية نوع المزيكا اللي بتسمعها مختلف عن نوع المزيكا اللي هتسمعها على القهاوي ودا كله مختلف عن المزيكا اللي هتروح تسمعها في إطار رواية مسرحية، الجزئية هنا إن المكان والإطار اللي بتتقدم فيه المزيكا دي بيغير طبيعة الخطاب الموسيقي ومضمونه.
دا اللي كنت باحاول أقوله إنه مش بس سيد درويش وبديع خيري اللي ابتكروا حاجة من لاشيئ، هما طوروا حاجات كانت بذرتها موجودة واشتغلوا في إطار مُناخ فيه ناس كتير معاهم كانت بتشتغل في نفس الاتجاه.
– افتكر اختراع الهوية القومية حصل في وقت لاحق شوية لكن على الأرجح كانت دي فترة اكتشاف المجتمع لنفسه، بقى عندك لأول مرة يمكن مجال إنك تقول في المزيكا وصف لمصر. عندك أول حاجة حصلت في الوصف دا هي كتاب وصف مصر اللي ألفته الحملة الفرنسية بس كانت مجموعة أجنبية عاملة الوصف. بعد كدا ابتدت محاولات أكتر وأكتر في كتابة تاريخ للمرحلة دي زي الجبرتي وفيه حاجة من وصف مصر البلد. بعد كدا عندك بدايات الروايات، الروايات ما كانتش بس روايات تاريخية حتى حديث عيسى بن هشام كانت على حد بيقوم من الموت ويروح يتفرج على مصر دا الوقت بالتالي الرواية نفسها محاولة في وصف البلد. فأول مرة يمكن يوصل الموضوع دا في المزيكا هو من خلال المسرح لأن شكل الوصلة القديم ما كانش بيسمح إنك تحمّل المزيكا المهمة دي. المسرح ابتدا بتعريب روايات أجنبية وبعد كدا نقل إنه يبقى فيه روايات مصرية لازم توصف الوضع في مصر. فكان استخدام المسرح زي ما يكون مراية كدا تقدر تشوف فيها الطوايف والحرف والحاجات اللي زي كدا وبرضو تشوف فيه الأمال وتشوف فيها المشاكل وتشوف فيها الاحتمالات المستقبلية وتشوف فيها رغبتك في المستقبل يبقى شكله إيه. إنما نظام الطوائف كان نظام موجود قبل كدا. بعد كدا جا موضوع إنك تضم الناس دي كلهم في إطار هوية قومية.
قبل كدا كان فيه شعور وطني ناتج عن الاصطدام مع المستعمر ودا موجود حتى من أيام الثورة على المماليك، شعور محلي إن دول مجموعة غريبة متسلطة على البلد. لكن علشان يبقى الشعور دا يوصل للتفكير إن دي أمة مستقلة لها هوية قومية مستقلة، كان محتاج إنه يتخصب بالفكر الأوروبي القومي في القرن الـ ١٩ ومحتاج وقت علشان يتبلور مشروع لأمة مصرية مستقلة عن الخلافة العثمانية ومستقلة عن الأوروبيين ومستقلة عن المحيط العربي ويبقى في داخلها فيه انفصال ما بين الشعب المصري وما بين الجاليات الموجودة محليًا. يعني افتراض إن فيه شعب أصلي موجود هناك وفيه جاليات جات وهتفضل جاليات حتى لو كان بقى لها 150 سنة عايشة هناك. في تقديري دا اتركب في وقت لاحق بعد ما تم فصم العلاقة الشعورية ما بين مصر وبين الخلافة العثمانية، ودا ما حصلش في أيام محمد علي دا حصل في أيام أحفاد محمد علي، وابتدا يبقى عندك مُناخ سياسي وفكري ومعرفي بيقول إنه فيه بلد مختلفة عن البلدان التانية وبالتالي دي هتبقى أمة لوحدها ومحتاجين نفهمها ونقول هويتها ونوصف شكلها وجغرافيتها ونركب لها تاريخ ونشوف الناس اللي جواها بيتكلموا بأي لهجات ولغات وإيه اللي بيفرقهم عن الباقيين.
– افتكر كانوا واعيين باعتبارهم أبناء ثورة ١٩١٩ والمناخ السياسي اللي هم اشتغلوا فيه هو مناخ ثورة ١٩١٩١. في ١٩١٧ كان سيد درويش لسة في اسكندرية وما عملش أي حاجة اشتهرت، نزوله على القاهرة ترافق مع مناخ ثورة ١٩١٩ سواءً من الناحية الفكرية أو من الناحية السياسية، ووجود الباشوات المصريين اللي كانوا بيعارضوا الباشوات اللي من أصل تركي ودا لاحق لما يسمى بهوجة عرابي اللي هي كانت إلى حد كبير نوع من انتفاضة الضباط اللي من أصل مصري على القيادات اللي من أصل تركي أو ألباني ومش من أهل البلد، فدا المناخ السياسي والفكري اللي هم كانوا بيشتغلوا فيه فبالتالي افتكر كانوا واعيين بالحتة دي، وافتكر بالأخص كتاب المسرح كانت الفكرة موجودة ومؤثرة عندهم. دا بيخليك تفكر في مدى تعقيد وغنى شخصية زي بيرم التونسي في الناحية دي، هو ابن المرحلة وينفى من مصر وفي داخل مصر نفسها فيه موضوع هو تونسي ولا مش تونسي وعلاقته بتونس، فكل الخلطة دي مثلًا بتخلي شخصيته مثيرة جدًا للاهتمام لأن هو نفسه في الآخر رغم تعلقه بمصر هو برضو ابن جالية أجنبية فهتحط التمييز فين؟ وهتشوف دا بمقارنة شغل بيرم التونسي مثلًا بأغلب الكلام اللي كان بيتقال على الشوام في مصر باعتبار الشوام كانوا دايمًا عاوزين يفضلوا جالية وما اتقنوش اللهجة المحلية وما دخلوش في العادات المحلية إلى آخره في حين إنه بيرم عاوز يبقى مصري أكتر من المصريين.
– لأن المجالين مستقلين. نرجع هنا لنقطة إنه محتاج كتفكير مصري تقول، ودا اللي ظهر بعد كدا زي ما ذكرنا في مؤتمر ١٩٣٢ بس كان واضح إنه إرهاصاته موجودة عند سيد درويش، إن موسيقتك على قدر مساوي من التطور والتعقيد زي الموسيقى الأوروبية، ودا لأنه خطاب الاستعمار نفسه مبني على فكرة إن الاستعمار سببه إن الناس المُستعمَرين أقل تحضرًا وأقل تطورًا وإحنا جايين نحضرهم.
– دا معناه إنه سيد درويش عشان يقدر يقول إن إحنا مختلفين مش هيقدر يقول الاختلاف دا إذا كان منظور له باعتباره تخلف، هو محتاج يقول الاختلاف باعتباره موازي في التطور للموسيقى الأوروبية فما يقدرش يرفضها لأنها معيار التقدم بس يقدر يربطها بطريقة تستسيغها الأذن المحلية وتقدر تقول إن دي مرتبطة بينا إحنا كشعب مختلف عن الإنجليز، ولكنها موازية في التطور. وبرضو هنا ملفت إن سيد درويش ما خدش حاجات كتير من الأتراك، مش إنه خلص الغناء المصري من الأثر التركي. لأنه دي خرافة أصلًا. إنما ما أدخلش عناصر تركية على شغله في حين إنه أدخل عناصر أوروبية على شغله، ودا سببه إنه بوصلة التقدم هي البوصلة الأوروبية في الفترة دي. ودا بيرجع لسبب تاني إنه مصر في زمنه في آخر فترة الخديوية وفترة السلطنة كانت ابتعدت بنظرها عن إسطنبول كعاصمة مهمة وبقى تركيزها إزاي تقدر تلحق بالأوروبيين وتحول القاهرة الجديدة لباريس وتدخل الأوبرا فدخلوا في منطق مختلف تمامًا عن منطق إنه لازم يبقى عندنا بلاط زي البلاط الإسطنبولي. حتى في إسطنبول نفسها وقتها كانت فترة الانتقال من طوب قابي إلى دولما بهچه اللي هو قصر على الطريقة الأوروبية. طوبقابي بيشبه القصور بالمفهوم الشرقي كمجموعة من المباني الصغيرة موجودة في إطار واحد مع حدايق في حين إن دولما بهچه هو قصر كبير زي قصر فرساي مبنى ضخم واحد مع أبهة على الطراز الأوروبي داخله، فحتى في إسطنبول نفسها كانت الأنظار في الفترة دي تتجه نحو أوروبا. كل دا كان بيخلي المعيار اللي هتقيس عليه مدى تقدم الموسيقى بتاعتك هو المعيار الأوروبي، فما يقدرش سيد درويش يرفضه، بس يقدر يرفض التحكم السياسي ويقدر يرفض الاستغلال الرأسمالي. بس ما يقدرش يشتغل في مكان سينظر إليه باعتباره متخلف لو ما لحقش التطور دا.
– عشان كدا مافيش تناقض ما بين تشجيع الإنتاج المحلي وما بين إنه الإنتاج دا يبقى متأثر بأوروبا، الفكرة إنه مش هيتم استغلال دا أو مص ثروات البلد لصالح فئة خارجة عنها. حتى الرأسمالية المصرية الوليدة في الفترة دي وبعد كدا ما عملتش رأسمالية مختلفة لكن عملت رأسمالية على الطراز الأوروبي بمؤسسات مصرية. إنتاج السينما وطلعت حرب والمصارف هي كلها منتجات أوروبية، لكن الفكرة بس إنه أرباحها ومردودها وعائداتها ما تروحش للغرب إنما تروح لأبناء البلد نفسهم.
– وإن أي حاجة تانية هتبقى تخلف ورجوع للوراء.
– وسيد درويش بالمنظور دا ابن للحداثة دي، يعني ما عملش زي الروس مثلًا في ١٩١٧ مع الثورة البلشفية. في الفترة دي كانوا بيعملوا حاجات مختلفة عن الإطار الأوروبي الغربي فكان عندهم مدراس في الفكر السياسي والفكر الحقوقي والإنتاج الموسيقي وكل حاجة بتشدد على تمايزهم، كانوا بيستخدموا السينما لكن باستخدام سينمائي ما بيقلدش فيه الطريقة الغربية إنما بيخترعوا مدرسة روسية في الإنتاج السينمائي ومدرسة روسية في الفكر الحقوقي, في حين في مصر ما دخلناش في فكرة إنك عاوز تعمل سينما مصرية بمعنى مدرسة سينمائية مختلفة عن السينما الغربية، اللي حصل إنك عاوز بدل ما يكون المخرجين والمصورين أجانب تخليهم مصريين.
– دا ابتدا إمتى مع سيد درويش، بدأ مع المسرح والمسرح كمان ترافق مع نهاية الحرب، فهل هو كان واعي إنه المسرح أكثر حداثية من التخت وعشان كدا بطل تمامًا الأدوار بعد دخوله المسرح، ولا هو انشغل بس بالمسرح فبطل يلحن أدوار؟
– صعب الإجابة على السؤال دا لأنه ما حدش مننا عنده مذكرات واضحة لسيد درويش بيفصل فيها النقاط دي. تقديري الشخصي إنه كان منشغل قوي بالمسرح، كمية الإنتاج المهول اللي أنتجه في فترة قصيرة جدًا ما تسمحش لأي حد يكون عنده وقت كافي يروح مكان تاني. إنما أفتكر إنه في الفترة دي زي ما كتبت في مقال إنصاف الشيخ سيد درويش، كان لسة قنطرة رجل هنا ورجل هنا بدليل إنه لما جا يسجل أسطوانات سجل أسطوانات فيها أدوار وأسطوانات فيها طقاطيق وحاجات من المسرح.
– ما سجلش موشحات لأنه إنتاجه منها محدود جدًا وعلى الأرجح ما عملش أكتر من ١٥ موشح ممكن نسبتهم له. وفي أغلبها عمل المطلع وما عملش الخانات فصعب تقول إنه عمل حاجة متكاملة وإن دا كان جزء من مشروعه. ممكن كان جزء من فكرة إنه عاوز يوري إنه قادر يعمل موشحات بس أفتكر ما كانش معتبرها حاجة ناضجة بالقدر الكافي تخليه يسجلها. فسجل أدوار وسجل طقاطيق من المسرح ودا معناه إنه كان بيقدر الأدوار اللي هو عملها وكان لسة بيعتز بيها.
– والسؤال هنا برضو هل دا كان بس خيار شخصي ولا دا كان مرتبط بسوق الأسطوانة اللي كان لسة بيقدر الأدوار؟ بالتالي كان فيه تشجيع إنك تسجل من الإتنين.
– هو كان بيعتز بيها وبيعتبرها ناضجة بدرجة كافية، وافتكر كانت شغل ممكن يلاقي طلب عليه بعد ما أصبح اسم مشهور في المسرح أصبح ممكن لشركات الأسطوانات إنها تبيع الأدوار اللي ما كانتش لاقت نجاح كبير في البداية.
– أفتكر إن صعب نتكلم على كل الأدوار باعتبارها متساوية في القيمة، فيه أدوار في تقديري مكتملة أكتر من أدوار تانية. بس غالبًا اللي هتلاحظه عند سيد درويش في الأدوار إنه هو الامتداد التلقائي لفكرة إنه بقى عندك ملحن للأدوار كما تسببت بيه شركات الإسطوانات زي ما اتكلموا ناس كتير زي علي جهاد الراسي وفريدريك لاغرانج. يعني تثبيت اللحن وإعطاء دور أكبر للملحن مش بس للمطرب. سيد درويش ملحن أدوار بالمعنى الحرفي اللي ممكن ينطبق على إبراهيم القباني وداوُد حسني بس صعب ينطبق على الجيل السابق زي محمد عثمان وعبده الحامولي والمسلوب، لأن قبلها الملحن كان بيكتفي بالهيكل الأساسي بتاع الشغل وبيترك مساحة كبيرة للمطربين، وعلى بال ما الدور يختمر لازم يبقى فيه كذا صوت أدوه واستكشفوا إمكانيات تطويره، وبعد كدا تيجي الصيغة النهائية. بس مع القباني وداوُد حسني بقى دور الملحن أساسي وتفاصيل اللحن لازم تبقى متحضرة قبل التسجيل، وسيد درويش جاء كامتداد لدا. دا معناه إنه من ناحية مقارنة بشغل ناس زي داوُد حسني وإبراهيم القباني هو عنده قيمة رفيعة في تلحين الدور، لكن دا معناه برضو إن أدوار سيد درويش وصلت لنا في صيغتها النهائية في حين إن الأدوار ما قبل القباني كانت غالبًا بتبقى صيغتها الأولية حاجة قابلة للتطوير وبتفضل تتناقل من لسان لآخر لغاية ما تنضج بجهد جماعي مش بجهد فردي.
– دا نتيجة العصر بدليل إنه موجود أصلًا عند القباني وعند داوُد حسني. مع فكرة اقتصاد الأسطوانة، شركات الأسطوانات بقى عندها مشكلة حقوق الأداء وحقوق الملكية فبقت تشتري ألحان من الملحنين وبقت الألحان دي ممنوع تتغنى إلا من أصوات محددة متعاقدة مع الشركة. فدا معناه إنه الملحن، بما إنه ما عادش قادر يتكل على ابتكار الناس وقدرتهم على إنضاج العمل في فترة لاحقة، وعشان يقدر يبيع للشركة نفسها، بقى محتاج إنه يلحن عمل متكامل في تفاصيله. سيد درويش جا بعد مرحلة ما اقتصاد الأسطوانة بقى شبه مستقر وواضح. أسطوانات الشيخ يوسف المنيلاوي كانت كلها اتسجلت واتباعت وخلاص السوق الكبيرة كانت اتقسمت وبانت ملامح إنتاجها وقواعد شغلها ودا استمر لغاية فترة الإذاعة. قواعد سوق الأسطوانات بقت ثابتة تقريبًا مع الكاتالوجات ومع الملحنين ومع التعاقد مع مطربين بعينهم ومع طريقة احتساب حقوق الأداء ومع كل حاجة.
– بالظبط
– ودا ابتدا قبل منه مع داوُد حسني ومع إبراهيم القباني اللي هم أكبر من الشيخ سيد سنًا، دول على الأرجح كانوا أوائل الملحنين اللي انتجوا ضمن بيئة شركات الأسطوانات.
– دا موضوع مختلف، بس فكرة إنهم بقوا يلحنوا الحاجات بتفاصيلها ومع مساحة أقل لابتكار المطرب مع عقود موقعة بينهم وبين شركات الأسطوانات حاجة سابقة على سيد درويش، وتأسيس موقع الملحن سابق عليه. وزي ما ذكرنا داوُد حسني اشتغل في المسرح زي ما سيد درويش اشتغل في المسرح، وبرضو فكرة التلحين للمسرح ما كانش سيد درويش لوحده فيها وكما ذكرت كامل الخلعي وبعد كدا جا زكريا أحمد اشتغل في الحتة دي.
الفكرة بس إن سيد درويش ما كانش لوحده في المجال دا كان جزء من مناخ اجتماعي بيسمح لناس عندها القدرة دي على إنها تشتغل في المجال دا، يعني لو سيد درويش وُلد قبل أبو خليل القباني كان صعب إننا نتخيل إنه هيشتغل في المسرح ببساطة لأنه المسرح نفسه ما كانش موجود.
– على الأرجح هيشتغل سينما ومسرح لأنه المسرح ما ماتش بسرعة. مشكلتنا مع المسرح إن المسرح ما اتسجلش كويس بينما السينما لأنها أصلًا أداة تسجيل فبقت مستمرة، شغل زكريا أحمد المسرحي مش متسجل كويس و اللي واصلنا منه قليل في حين شغله في السينما واصلنا لأن السينما متسجلة. بس في الواقع زكريا أحمد اشتغل في نفس الوقت في المسرح وفي السينما وشغله في السينما ما منعوش إنه يكمل شغل في المسرح بس الشغل ما وصلناش.
الفكرة هنا بقى مع الشيخ سيد درويش إن إنتاجه المسرحي وصل لنا وهنا بقى السؤال ليه شغله المسرحي وصل لنا في حين شغل ناس تانية ما وصلناش ووصلنا شغلها السينمائي أو شغلها في الأسطوانات الكبيرة؟ تقديري الشخصي إنه أولًا سيد درويش والناس اللي معاه سجلوا الشغل المسرحي بالتالي حفظوه على أسطوانات في حين إنك نادرًا ما تلاقي أسطوانات للشغل المسرحي بتاع زكريا أحمد. السبب في دا في تقديري إن شغل زكريا أحمد المسرحي متأخر زمنًا شوية عن شغل سيد درويش المسرحي. بالتالي اللي حصل إن سوق الأسطوانة نفسه اتغير مع ظهور أصوات زي عبد الوهاب وأم كلثوم وقبلهم أبو العلا محمد، و تحول من إنه يبقى تسجيل للموجود اللي بيتقال في المسرح وفي الوصلة، لإنه يبقى مرتبط تحديدًا بالأغنية الفردية اللي لها مميزات معينة من ناحية التعبير بلسان أبناء الطبقات الوسطى المدينية بشكل أساسي اللي بقوا السوق الأساسية لمبيعات الأسطوانات. والمطربين دول كان عندهم نجاح ساحق حتى خارج المدينة، بحيث إنه شركات الأسطوانات ما كانتش مضطرة تسجل لمطربين من الأرياف عشان تبيع في الأرياف، لأن أم كلثوم كانت واكلة مجال الأرياف، حتى من قبل ما تنزل القاهرة كانت بقت معروفة جدًا في الأرياف وبقوا يشتروا أسطواناتها على حس إنها كانت غنت في منطقتهم، أو ممكن ترجع تغني هناك، وحتى عبد الوهاب كان بيروح وييجي ما بين القاهرة وبين المراكز. فدا خلى إنك إنت صعب تسجل أسطوانة لزكريا أحمد ما توفيش بفكرة الأغنية الفردية اللي هي عن الحب واللي هي بتنطق بلسان شخص متوسط مثقف إلى حدٍ ما، في الفترة دي (ما بعد سيد درويش) قليل إننا نلاقي أسطوانات خارج إطار الأغنية الفردية المتلحنة على الأساس دا، أغلب الإنتاج اللي جا بعد سيد درويش بقى خاضع للمنطق المختلف دا. في تقديري دا اللي خلى الأسطوانات بتاعة سيد درويش كانت ممكنة الإنتاج في الفترة اللي هو اشتغلها في حين ما عندناش تسجيلات كتير لشغل كامل الخلعي أو لشغل زكريا أحمد اللاحق للفترة دي.
النقطة التانية إن سيد درويش كان ناجح جدًا في حياته، وكان ذكي وقادر على إنه يستغل النجاح د،ا وكان غالبًا بيطلب أجور خيالية ودا دليل على إنه الناس نفسها كانت معترفة بنجاحه، يعني هو كان النجم الأساسي في مجال التلحين في الفترة دي، مش في تلحين القصائد لكن في التلحين المسرحي تحديدًا وكان بيطلب جنيهات دهب في الوقت اللي الناس كانت بتاخد فُتات اللي هو بيطلبه عشان تلحن بداله، وسيد درويش خلافًا للأسطورة بتاعت إنه كان مضطهد اتكرم بعد وفاته بحفلات في المعهد الملكي، ما كانش عندهم مشكلة مع سيد درويش زي ما اتقال بعد كدا.
https://soundcloud.com/ma3azef/s90trqyksic8
عشان داوُد حسني على الأرجح كان لسة في دماغه إن الأدوار أهم من الأعمال المسرحية لأنه وليد مرحلة سابقة فبيعتز بالحاجات التقيلة وعاوزها تبقى. طبعًا دي فرضيات وفي الآخر محتاجين ندقق فيها ويبقى فيه أبحاث جدية شوية أكتر عشان توثق المراحل وتوثق نسبة المبيعات،و الفرق في مبيعات الأسطوانات مثلًا ما بين أدوار سيد درويش وبين طقاطيق سيد درويش والفرق بينها وبين الأدوار اللي كان بيشتغلها مثلًا داوُد حسني عشان نقدر نعرف بالظبط المشهد الموسيقي. في غياب الحاجات دي إحنا قادرين نعمل فرضيات من الخطوط العريضة تقول إن سيد درويش من ناحية كان ناجح في حياته واللي اتسجل له مختلف عن اللي اتسجل للناس اللي بعديه. ومن ناحية تانية سيد درويش ما كانش مضطهد في أيام العهد الملكي وسيد درويش بعد كدا بقى الرمز السيادي لأسباب عديدة منها إن المنافسين الأساسيين له مش مريحين للسلطة. ما تقدرش تعمل إن الرمز الأساسي للموسيقى المصرية يبقى داوُد حسني بسبب ديانته أو ناس أصلهم شوام زي أبو خليل القباني.
وسيد درويش كان بيجمع ما بين الأغاني الوطنية اللي اتعملت على المسرح فبالتالي سهل اعتبارها أناشيد أساسية للهوية الوطنية وما بين إنه توفى صغير فدا بيركب أسطورة العبقري سريع الظهور وسريع الاختفاء واللي بيقدم كل حاجة في حياته وفي أقصر وقت ممكن، وفكرة التجديد اللي كانت موجودة عنده اللي اتركب عليها الدعاية اللي اشتغل عليها حد زي عبد الوهاب بعد كدا. وعبد الوهاب بقى مؤثر في المرحلة اللي بعدها فبالتالي خطاب سيد درويش إنه هو شخصية مهمة خطاب فضل مستمر ما انقطعش في حين إنه بالنسبة للملحنين التانيين انقطع خطاب أهميتهم لأسباب مختلفة. فبقى فيه موضات جديدة بس ما عادش فيه خلاف على إن سيد درويش هو شخص مهم أو ركن أساسي اتبنى عليه الشغل اللاحق/ بغض النظر عن إذا كان حقيقي تاريخيًا أو لأ، إنما في الدعاية طول الوقت بقى هو الركن الأساسي بتاع الابتعاد عن الغناء العثماني باعتباره لحن للمسرح فبالتالي ما كانش عنده مجال أصلًا إن هو يعمل حاجات معقدة للمسرح، وباعتباره غنى لأبناء الشعب من خلال الطوايف وغنى أناشيد واضحة في مواقف سياسية زي موضوع سعد زغلول وثورة ١٩١٩.
كل دا بيسهل إنه يبقى أسطورة ممكن استخدامها في كل وقت وبالتالي ممكن استعادة أعمالها وإعادة تسجيلها بأصوات تانية مع تنقيحها عشان تبقى مهذبة إلى آخره وتفضل مستمرة. إنما على المستوى اللحني هل إنت شايف إنه فعلًا فيه روابط عميقة ما بين شغل سيد درويش المسرحي وما بين الطقاطيق اللي اتغنت في مرحلة لاحقة، اللي غناها مثلًا محمد عبد المطلب أو غيره؟ ما اعتقدش الكلام دا صحيح. أعتقد إنهم جايين من حتة تانية ليها علاقة بالشغل اللي عمله عبد الوهاب والشغل اللي عمله زكريا أحمد والشغل اللي عمله القصبجي، عبد الوهاب والقصبجي عمليًا عملوا كل الأغنية الرومانسية مع الأوركسترا والتوزيع وحاجات زي كدا وبعد كدا كملها السنباطي، وزكريا أحمد عمل الحاجات الخفيفة أكتر زي يا حلاوة الدنيا أو يا صلاة الزين وعمل تقليد الأغنية المسرحية الطويلة لأم كلثوم، بقى يلحن لها أغاني طويلة تقدر تقولها في وصلة كاملة على المسرح وتتضمن كل عناصر الوصلة تقريبًا جواها، ودول هم اللي عملوا تقريبًا كل الملحنين اللي بعدهم.
في حين جمل سيد درويش الموسيقية نادرًا ما تلاقي صداها بيتردد بعده، هي جمل فيها حيوية أكتر وقصيرة أكتر وتراكيبها عمليًا بتتكرر في مكانها مش بتتكرر على مراحل مختلفة من السلم الموسيقي.
– الإجهاد بتاع التحضير لاستقبال الباشا العائد.
– ما إنت محتاج إنك تطهر الأسطورة. عشان كدا بقوا بعدين يشيلوا أي إشارة لها علاقة بالنهود وحاجات زي كدا من الأغاني.
– هيشيلوا كل دا عن سيد درويش عشان تطهير الأسطورة من أي عناصر سيئة بغض النظر عن الحقيقة التاريخية الموجودة وراها. دا الشغل العادي بتاع إنك تعمل أسطورة فلازم تبقى مقدسة.
– الأفلام بتاعة عبد الوهاب كانت في التلاتينيات ووارد فيها الخطاب بتاع سيد درويش كعنصر أساسي في الانتقال وصولًا لعبد الوهاب، وعبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء بالتالي الملوك والأمراء نفسهم ما عندهمش أي مشكلة مع سيد درويش، وبالتالي ما كانش فيه حقيقةً اضطهاد لذكرى سيد درويش. ذكرت لك إن كان فيه حفلات تكريم لذكرى سيد درويش كانت تقام في المعهد الملكي، وعبد الوهاب كان بيستغل موضوع سيد درويش في تقديم التجديد باعتباره حاجة مهمة وضرورية ومشرفة ومش حاجة لازم الواحد يتغاضى عنها. كل دا بيقول إن عمليًا حتى قبل وجود جمعية أصدقاء سيد درويش كان خطاب أهمية سيد درويش ما انقطعش، وزكريا أحمد كان بيقول حاجات مماثلة عن أهمية سيد درويش، مافيش في اعتقادي فترة اضطهاد يعني.
– بس في الحالة دي هل النظرة لسيد درويش باعتباره ثائر ولا باعتباره صوت الشعب؟ بمعنى ربطه بفكرة تمثيل الشعب إن دا الفنان الفطري اللي بيطلع وبيعبر عن الطموحات الشعبية وبيستقبل بطل الشعب العائد وكل دا أكتر من إنه ثائر على الملكية. صعب تلاقي ضمن خطاب سيد درويش نفسه ثورة على الملكية باعتبار الملكية نفسها معارضة للإنجليز اللي يبدو إن دا كان العدو السياسي الأساسي.
– وحتى في الفترة دي، مش هو برضو عمل دور عواطفك أشهر من نار عن عباس حلمي؟ فهو مش ضد نظام الحكم المصري هو في الحالة دي بس معارض للوجود الإنجليزي كسلطة سياسية مهيمنة.
– طبعًا فكرة إن ذكراه كانت مضطهدة في العهد الملكي واحدة من الأساطير اللاحقة اللي اتعملت بعدين علشان تأكيد عودة السلطة إلى أهل البلد نفسهم. فالسلطة اللي قبل كانت بتضطهد ممثلي أهل البلد ودي فكرة مرتبطة بكل الكلام بتاع إنه خلص الغناء من الأثر التركي والسلطة السابقة كانت تركية والكلام دا، في حين ما اعتقدش إن فيه أي دليل إن الملك فاروق أو الملك فؤاد أو السلطان اللي قبلهم كانوا بيسمعوا تركي.
– وكان عندهم إعجاب بأوروبا، بالإنتاج الثقافي الأوروبي.
– طبعًا، إحنا لازم عشان نقدر نسمع سيد درويش أصلًا ـ مش بس عشان نقيس أهميته في عصره ـ محتاجين برضو نحرره من الأسر الأيديولوجي دا. عشان لو أنا هاسمعه باعتباره فنان الشعب غير لو هاسمعه كملحن مسرحي شاطر وممتع وما عندوش الإدعاءات الضخمة اللي عايزين نحطها عليه. وهاقدر أفهم مزيكته نفسها وأشوف حدودها والحاجات اللي كان مش هيقدر يتجاوزها في الفترة دي.
كل دا ما اقدرش أشوفه لو نظرت له بس باعتباره عبقري وفنان الشعب وسابق لعصره، دا كله كلام معارض لفكرة الموسيقى وإنك تستمتع بإنتاجه نفسه بدل ما تشوف إنتاجه باعتباره وسيلة لحاجة تانية. اللي عاوزه من لما أسمع أغاني الطوايف مش إني أفكر في الطوايف كطوايف، محتاج اتبسط بالمزيكا وأشوف يعني أسرار متعتها فين، وجزء من أسرار متعة سيد درويش في رأيي هو موضوع ذكرته له سريعًا وهو تكرار التراكيب الإيقاعية في مكانها وبعد كدا ينقل على تركيبة، أو تفعيلة، إيقاعية تانية بس غالبًا على جنس موسيقي مختلف ومن حتت غير اللي إحنا متعودين عليها، فبالتالي موسيقيًا الراجل مهم وممكن يفتح لنا سكك جميلة لو قريناه باعتباره موسيقي.
ومش هنقدر نشوف طب هو جدد في إيه؟ يعني فيه ناس كتير جدًا بتبقى معجبة بسيد درويش لدرجة إنها ما بتسمعش أي حد قبله، هتحكم بإنه مجدد باعتبار إيه؟ يعني إيه الفرق في اللي عمله مقارنة باللي قبله وليه عمل الفرق دا؟ إيه الأسباب الموضوعية اللي كانت بتخلي لازم يشتغل بشكل مختلف وبتسمح له بإنه يشتغل في الشكل المختلف دا؟
– سيد درويش حصل له استدعائين أساسيين، في مصر بعد يوليو ١٩٥٢، واستدعاء خارج مصر اللي هو الاستدعاء الرحباني، والاستدعاء الرحباني حصل بتنقيح برضو زي ما حصل في مصر، الاستدعاء في مصر كان غرضه مفهوم، الاستدعاء الرحباني بقى كان غرضه إيه؟
– الاستدعاء الرحباني موضوع مختلف جدًا ومحدود جدًا. هم استدعوا أغنيتين أو تلاتة بشكل حرفي يعني إعادة توزيع شغل قديم. الشكل التاني من استدعاء سيد درويش عندهم هو إنهم عملوا مسرح غنائي في لبنان، فكان لازم يتكئوا بشكل من الأشكال على موروث المسرح الغنائي في المنطقة ويتفاعلوا معاه لأنهم برضو عملوا حوارات وعملوا غناء مجاميع بين ممثلين مش بس بين مطربين وعملوا أغاني مطربين على المسرح، يعني تركيب ألحان لمواقف مسرحية، فدا الاستدعاء الأعمق في شغل الرحابنة اللي ممكن تشوف أثر المسرح الغنائي المصري وتفاعلهم معاه.
النقطة التالتة في موضوع الرحابنة غير إنه استدعاء سيد درويش كاستدعاء مباشر هو استدعاء محدود، هو إنهم كانوا بيشتغلوا على جمع ودمج مجموعة كبيرة من العناصر المختلفة عشان يركبوا الهوية الموسيقية بتاعة لبنان. بمعنى إن الرحابنة استدعوا سيد درويش واستدعوا غناء الفولكلور الجبلي اللبناني والموسيقى الكنسية والقدود الحلبية وحتى زرياب والأندلس، واستدعوا أغاني أوروبية وتانجو وتوزيع أوركسترالي مع أفكار مسرحية لها علاقة بتطور المسرح الأوروبي، يعني الأسئلة الكبرى الفلسفية والوجودية مش بس اللطشات السياسية اللي كانوا بيحطوها. الرحابنة كان مشروعهم يقوم على إدعاء القدرة على وضع كل دول في مشروع جمالي واحد يتضمن كل الخطابات دي: يتضمن سيد درويش وعبد الوهاب وحلب و أوروبا والكنيسة ويتضمن الجبل اللبناني. علشان الجماعات اللبنانية نفسها قبل الرحابنة كانت مشدودة إلى كل الأماكن دي، الساحل اللبناني كان مشدود يا إما باتجاه حلب يا إما باتجاه مصر، والجبل اللبناني كان عنده تراثه الفولكلوري وتراثه الكنسي، والنخب المدنية في المدن خصوصًا اللي طالبت بالاستقلال من الجانب المسيحي كانت مرتبطة ثقافيًا بأوروبا. فبالتالي عشان تقول إحنا الهوية الموسيقية بتاعة لبنان بشكل رسمي ـ يعني تقديمهم في الإذاعة وإنهم مسكوهم عمليًا مهرجانات بعلبك وبقوا الممثل الرسمي للدولة اللبنانية في المجال الموسيقي ـ عشان يقدروا يعملوا دا كانوا محتاجين إن كل الجماعات اللبنانية تتعرف على نفسها في إطار الموسيقى بتاعتهم ويقولوا إن كل الاختلاف دا ممكن وضعه في إطار مشروع موسيقي واحد زي ما الاختلاف ما بين الجماعات اللبنانية نفسها ممكن وضعه في إطار دولة واحدة مختلفة عن مصر وعن أوروبا وعن سوريا وإن كان لها أواصر العلاقة دي كلها. ودا اللي بتشوفه حتى في الدستور اللبناني قديمًا، اللي كان بيقول أيامها قبل ما يتعدل بعد كدا إن لبنان ذو وجه عربي، هو عربي بس جزء الوجه بس، وكل الأيديولوجية الرسمية بتاعة لبنان جسر ما بين الشرق والغرب وكدا.
كل دا كان بيخلي إنهم لازم يركبوا العناصر اللي جاية من الشرق ومن الغرب، من سوريا ومصر وأوروبا والكنيسة والجبل، في مشروع واحد، والقدرة الجبارة بتاعتهم ونجاحهم كان إنهم على مدى تقريبًا ٢٠ سنة أو أقل بشوية قدروا إنهم يخلوا عناصر المشروع دا متماسكة إلى حين ما بوادر الحرب هي اللي فرفطت المشروع دا فرجع انحل لعناصره الأولية.
– تم استدعاء سيد درويش زي ما ذكرت لك، واحد لأن سيد درويش أساسي في موضوع المسرح الغنائي بس دا استدعاء مخفي مش معلن، الاستدعاء المعلن إنك تتعامل مع أغاني لسيد درويش يعني تاخدها زي ما هي وتعمل لها إعادة توزيع زي ما أخدت يا جارة الوادي وأعدت توزيعها، زي ما أخدت موشحات أندلسية وقدود حلبية وتراث كنسي وزجل لبناني وأعدت توزيعه بشكل أوركسترالي وشكل يلامس فكرة البلد نفسه عن نفسه، فكرة لبنان عن دوره وهويته والجماعات الموجودة فيه، فاستدعاء سيد درويش هنا مش بعيد قوي عن استدعاء يا جارة الوادي أو عن استدعاء الموشحات الأندلسية.
– في مصر سيد درويش هو ركن أساسي، في لبنان سيد درويش هو جزء من عناصر كتير قوي. باستثناء الجبل وباستثناء التوزيع الأوركسترالي، بقية العناصر بتيجي على قدم المساواة كلها زي بعضها، فممكن تاخد أغنية من عبد الوهاب ولا من سيد درويش ولا تاخد موشح أندلسي ولا تاخد أغنية أوروبية وتركبهم كلهم. ما كانش في امتياز أساسي معطى لعنصر من دول على آخر، فدا الفرق ما بين الاستدعاء في لبنان والاستدعاء في مصر في تقديري.
– سؤال معقد، هل هو مرن ولا إن الهوية أصلًا ممكن تتشكل على أي شيئ؟ سؤال صعب.