fbpx .
لا مكان للغزل | أغاني الأحواز بين الريف والمدينة

لا مكان للغزل | أغاني الأحواز بين الريف والمدينة

حسين عبد الباقي ۲۰۲۵/۰۵/۲۷

في الأحواز، تصدح ليالي الأفراح بصوت يُشبه العزاء، ويُغنّى الحزن كما يُغنّى الفرح. تُفرش الأرض بالبُسط، وتُحيط بالمكان أسوار، فيصبح أشبه بحجرة قلب دافئة. في المنتصف، يُنصب موقد، وتُرتب دلّات القهوة، ليُعلن عن كرم الضيافة واستقبال المهنئين. يتوافد الناس ويترقب المكان كله لحظة الانطلاق.

قبيل أذان المغرب، تكتمل الصفوف، ليُفتتح الحفل بِطور العلوانية طور موسيقي من فصيلة مقام الحجاز.، الطقس الذي يأخذ بيد الحضور إلى عوالم بعيدة مع أنغام الأبوذية. طورٌ ابتدعه علوان شويع، وهو يُغَني ويعزف على الربابة ذات الوتر الواحد، والذي التقط من ألحان عشيرة العمورية إحدى عشائر الباوية. خيطًا من الذهب وحاكه ليصبح صوت طقسٍ شبه مقدس لدى الأحوازيين. حين يبدأ الغناء، تتوقف الأحاديث، ويغرق الجميع في صمت يشبه الإنصات لصوت الأرض.

لا يُغنى في هذا الطور عادة إلا الأبوذية نوع من أوزان الشعر الشعبي العراقي، قريب من شكل العتابا والموال في الشام. التي تحمل بين أبياتها القيم الكبرى مثل الشجاعة والمروءة والنخوة والكرم والأخوة. هنا، في العلوانية لا مكان للغزل ولا همس العشاق، بل هو ميدانٌ للرجال الذين تُختبر أرواحهم بكلمات وأنغام ثقيلة كالجمر.

في حضرة العلوانية، يتجلى المغني كحارس للذاكرة، ينتقي الأبيات بعناية، فلا مجال لزلل أو خطأ. إذ كل مستمعٍ هنا ناقد، ولكل حرف ميزان. العلوانية مقياس لجودة شعر الأبوذية، ومرجع يُعتمد عليه في حفظ ورصد أجود ما أبدعه شعراء الأحواز عبر الأجيال.

مثّلت موسيقى العلوانية صونًا للثقافة الشعبية الأحوازية، في زمن أغلقت فيه الأبواب أمام الكتابة والنشر باللغة العربية، وحملت على أكتافها مهمة حفظ الشعر والأدب الشفهي. إذ يذكر المُغني أثناء أدائه اسم صاحب الأبيات، لتصبح ملكية القصيدة حقًا محفوظًا لصاحبها في الذاكرة. هكذا، تحوّلت الحفلات إلى دواوين مفتوحة تُنقل فيها القصائد عبر الأجيال، وتُحفظ فيها حقوق الشعراء.

تستمر الحفلة إلى منتصف الليل، وتتجاوزه أحيانًا. يتخلل الحفل فواصل يُقدِّم فيها شعراء الشعر الشعبي والمهاويل قصائدهم وأهازيجهم؛ وعندما تقترب الليلة من نهايتها، يعود طور العلوانية ليكون مِسك الختام، فيغادر الضيوف وفي قلوبهم صدى ما سمعوه.

يتقاطع أسلوب الغناء في الأحواز مع جنوب العراق، فالأصل واحد والجذور ممتدة في تربة واحدة. اللغة نفسها، والعشائر واحدة متصاهرة، والمزاج مشترك؛ فلا عجب أن تتقاسم الأحواز والجنوب العراقي الأطوار الغنائية ذاتها تنقسم الأطوار الريفية إلى ثلاثة أقسام رئيسية، تتنوع بتنوع المنابع والأصول، عانى العديد منها من الإهمال والترك، وبعضها بات عرضة للاندثار؛ وهي على سبيل المثال لا الحصر (لكثرتها وتشعبها): الأطوار التي سمّيت بأسماء المدن والقرى: طور الشطراوي نسبة إلى مدينة الشطرة، الحياوي نسبة إلى مدينة الحي، المجراوي نسبة إلى منطقة المجرة، والسوكاوي نسبة إلى سوق الشيوخ. والأطوار التي تتبع أسماء عشائر وطوائف: المحمداوي نسبة إلى عشيرة (البو محمد)، الصبي نسبة إلى طائفة الصابئة المندائيين، الغافلي نسبة إلى عشيرة آل غافل، والحليوي (اللامي) نسبة إلى قبيلة الحليوي؛ والأطوار التي سميت بأسماء العشائر والقبائل أو الطوائف: المحمداوي، الصبي، الغافلي والحليوي (اللامي)؛ والأطوار التي سميت بأسماء الأشخاص: العنيسي، الطويرجاوي، المحبوب، الحميدي، مسعود العمارتلي، حسين سعيده، النوري، العياش، العبودي، سعدي الحلي، الصيهودي، عيسى حويله، جويسم وكريري، جبير الكون، المثكل (المثجل) وسلمان المنكوب..

بدأت الفروقات عند ضم الأحواز إلى إيران، في أعقاب الاتفاق الإيراني-البريطاني عام ١٩٢٥ الذي أنهى حكم الدولة الكعبية باعتقال وموت آخر حكامها الشيخ خزعل الكعبي. لخمسة قرون قبل ذلك، تمتعت الأحواز بحكم ذاتي على يد أمراء المشعشعين، حتى بزغ عهد الكعبيين عام ١٧٢٤.

بسطت إيران سيطرتها على عربستان (الاسم القديم للأحواز)، وبدأت سلسلة من السياسات التي استهدفت الهوية الثقافية لعرب الأحواز، لتترك أثرها العميق ليس فقط على الحياة اليومية، بل حتى على فنون الغناء وأطواره الريفية. منعت السلطات الأحوازيين من تعلم اللغة العربية أو استخدامها في المحافل والمناسبات، وحرمتهم من إطلاق الأسماء العربية على أطفالهم، وقلّصت فُرصهم في دخول الجامعات الإيرانية. كما عانى الأحوازيون من التمييز في التوظيف والرواتب والترقيات. مع تفريس الإقليم، جلبت السلطات آلاف العائلات الفارسية لِيستوطنوا المنطقة منذ عام ١٩٢٨.

على الصعيد الفني، ورغم قسوة الظروف، لم تكن النتائج دائمًا قاتمة أو سلبية. إذ انعكس هذا التداخل الثقافي على الأطوار الغنائية الريفية للأحوازيين، ليظهر في بعض الأماكن بشكل عفوي لدى المطربين والعازفين. 

في مقامات معينة، مثل مقام الحجاز، تتسلل لمسات فارسية أحيانًا، وأحيانًا أخرى تظهر أنفاس تركية أو كردية خفيفة، تضفي على الغناء الريفي الأحوازي طابعًا متفردًا ومشرقًا.

تعدّ حفلات الزفاف في الأحواز المنصة الأبرز لظهور الفنون الغنائية والموسيقية، على عكس المدن الكبرى حيث تقام الحفلات الموسيقية في المسارح والقاعات عبر شراء التذاكر، إذ فشلت معظم التجارب لإقامة حفلات وأمسيات خارج إطار الأعراس. 

بقيت الأحواز وفيّة لموروثها الفني الذي ينبض في ساحات الأفراح والمناسبات الشعبية. يعود هذا الأمر إلى عاملين أساسيين: الأول الاستمرارية والتوفر، إذ تقام حفلات الزفاف على مدار العام بلا انقطاع، خاصة بعد تغير موقف السلطات قبل ٢٥ عامًا، عندما جرى التصالح مع إقامة هذه الحفلات بعد أن كانت تُواجَه سابقا بالقمع والاعتقالات تحت ذرائع متنوعة. أما العامل الثاني فهو غياب منظومة إدارة الأعمال الفنية؛ فالمطرب الأحوازي هو من يدير كافة التفاصيل الفنية والتجارية لحياته الموسيقية، وهو من يحدد الأجور ويتفق على المواعيد وينظم أفراد فرقته.

رغم استمرار وانتعاش واقع هذه الحفلات، يعكس وضع الموسيقيين والعازفين في الأحواز جانبًا مؤلمًا من التجاهل والتهميش. إذ كثيرًا ما يُنتقص من حقوقهم ويُعاملون بأجور زهيدة لا تتناسب مع دورهم ومهاراتهم الفنية؛ ففي حين يتقاضى المطرب أجرًا يتراوح بين خمسمائة إلى ألف دولار مقابل الحفلة الواحدة، ما يعد أجرًا مجزيًا جدًا قياسًا بالوضع الاقتصادي المتدهور في إيران، لا يتجاوز أجر العازف الأساسيّ وقائد الفرقة – غالبا يكون الكمنجاتي – ثلاثين دولارًا. دفعت هذه الهوّة بكثير من عازفي الخط الأول، الذين يشكلون العمود الفقري للفرق الموسيقية، إلى الهجرة نحو العراق أو دول الخليج بحثًا عن التقدير وفرص مالية أفضل.

إلى جانب الغناء الريفي العريق في الأحواز، يبرز ما يمكن تسميته بـ غناء المدينة، وهو الشكل الحديث والسريع من الأغاني الشبابية التي تعكس روح العصر وتقترب في أسلوبها من أغاني البوب. إلا أن الملاحظة على هذا النمط تكمن في تواضع وتكرار ألحانه، التي غالبًا ما تقترب عناصرها من ألحان الردّات الحسينية والموالد. تأتي كلمات الأغاني بدورها مباشرة وسطحية في أغلب الأحيان. 

يرجع هذا التوجه إلى غياب دور الشاعر والملحن المتخصص، فتُترك مهمة تلحين الأغاني في الغالب للمطرب نفسه. يأخذ المطرب أي نص يجد فيه صدى لدى الشارع، ويفضل معظمهم الكلمات التي تتضمن تعابير دارجة أو تريند، ليقوم بتلحينها بنفسه، متجاوزًَا بذلك الحاجة إلى دفع تكاليف كبيرة لِملحن محترف. يفرض هذا النهج الاقتصادي نفسه في ظل ارتفاع كلفة إنتاج الأغاني في المنطقة.

من هذا المنطلق، يبدو أن غناء المدينة في الأحواز لا يزال بعيدًا عن الدخول في دورة الإنتاج الاحترافية بالمقارنة مع الأغنية العراقية مثلًا. إلا أنه قد بدأ بعض المطربين الأحوازيين في السنوات الأخيرة بالاعتماد على تصوير الأغاني بطريقة الفيديو كليب، في محاولة لتعزيز انتشار أعمالهم واستقطاب جمهور أوسع عبر المنصات الرقمية؛ ورغم أن هذه الخطوة تُظهر تطلعًا لمواكبة المشهد الغنائي العربي الأوسع، إلا أن الحاجة تظل قائمة لإعادة النظر في بنية هذا الغناء، والارتقاء به على مستوى اللحن والكلمة والتوزيع ليعبر عن الهوية الموسيقية للأحواز بثرائها وتعقيداتها الجمالية.

كما شهدت الساحة الموسيقية في الأحواز دخول الآلات الحديثة التي باتت تشكل العمود الفقري في الحفلات والمناسبات، ليأخذ الأورغ والعود الكهربائي والكمان الكهربائي وجهاز البيركشن والدرامز مكان الربابة والسنطور، وهما من أعمدة الموسيقى الريفية والتراثية القديمة. كان لوقع هذه التغييرات أثر مزدوج، فمن جهة أسهمت في تحديث النغمات وإثراء التجربة السمعية، ومن جهة أخرى قلّصت من حضور الأصوات الآسرة للآلات التقليدية التي لطالما ارتبطت بالذاكرة الجمعية للأحوازيين.

كان الغناء في الأحواز وما يزال انعكاسًا حيًا لهويّة لا يمكن محوها أو تفريسها، إذ تحافظ مناطق مثل الخفاجية والبسيتين والحويزة والحميدية على لهجاتها وأطوارها الموسيقية، التي تكاد تتطابق مع ألوان الغناء في جنوب العراق، وخاصة في ميسان. بينما تميّزت مناطق مثل الفلاحية والدورك وعبادان والمحمرة والخَلْفية والأحواز بأسلوبها الغنائي الخاص، وقدمت كل منها إضافة لافتة إلى النسيج الموسيقي العام.

هكذا، يتحول الغناء إلى ذاكرة موسيقية حيّة، صدحت بأسماء رواد خالدين مثل عبد الأمير إدريس، الذي خلّد اسمه في طور خاص ينتمي إلى فصيلة البيات، وخضير أبو عنب الذي كان أول أحوازي يسجل أغانٍ بالعربية، وغيرهم. يمضي هذا الإرث في طريقه عبر أصوات معاصرة تحمل اللواء بحرفية عالية، مثل ضاحي الأهوازي وعباس سحاكي وناصر عباداني. لم يكتف هؤلاء الفنانين بالحفاظ على التراث، بل أضافوا بصماتهم الخاصة.

بالرغم من النزاعات والتحولات السياسية والتهميش الذي طال الإقليم، ظل الغناء الأحوازي مساحة تحفظ من خلالها الذاكرة وتُمارَس فيها الهوية. من الأطوار الريفية إلى غناء المدينة، ومن وتر الربابة إلى الآلات الحديثة، يتجاوز الغناء في الأحواز مجرّد التراث المحفوظ إلى كونه فعلًا حيًّا يتداخل فيه الصوت مع الأرض، في علاقة وثيقة ومستمرة ما دام هناك من يُغني ومن يُصغي.


للمهتمين بالغوص أكثر في موسيقى الأحواز ومعرفة أعلامها، يضاف إلى الأسماء المذكورة في المقال يونس خلف الخزرجي وعاصي الزنبوري وعبد الأمير العيداني ورزاق شاخورا وحبيب بندقيلي وثامر الزركاني وجابر عبادي وحسان كزار؛ ومن المعاصرين عزيز التميمي ومهدي الساري وأبو ستار الجلالي وحسين الأهوازي وسليم آل بونائي والراحل عبد السادة المذحجي النيسي.

المزيـــد علــى معـــازف