اسعفيني يا عين | ١١ من أغاني الحزن عند العرب

من الوقفات الطللية وبكائيات الشعراء القدامى إلى رثائيات الموتى والقتلى في الحروب والمصائب، تردد حضور الحزن في أغراض الشعر العربي من الرثاء والتفجع والغزل وذكر المناقب. حتى في الأعمال الفلسفية الأولى للعرب كان الحزن موضوعًا دارجًا، فالكندي وضع: رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، بطلب من صديق له أراد التخلص من حزن ألم به. كما وشّح الحزن أغاني العرب وخامات أصواتهم.

نرصد لكم قائمة من أغاني الحزن التي كان الحزن فيها موضوعًا للنص أو سمةً أدائية أو جزءًا من طبيعة اللحن. من حمولة الشجن في أبوذيات العراق ومواويل العتابا، إلى نواحات التفجع في الفرات، فالوجع الذي حضر في أغاني الراي الجزائري وتأوهات مغني البوادي بين مصر وليبيا، وأحزان المزود التونسي والبوب التسعيني.

فتحية | الصديق بوعبعاب

بدأ الصديق بوعبعاب مسيرته مقرئًا في مساجد الاسكندرية، وتعلم العزف على السمسمية التي رافقته في أغانيه. المعروف أن هذه الآلة منتشرة على السواحل البحرية، لكن بوعبعاب طوّعها لأغاني البادية التي نشأ فيها، فأوجد توليفةً مميزة لأسلوبه.

كتب هذه الأغنية الشاعر عبد المنعم مرسي الذي كان وراء أغلب النصوص التي تغنى بها الصديق بوعبعاب. غلب طابع البداوة على تلك النصوص، وتشبعت أغلبها بحمولة من الوجع والتشكي من ضنك الحياة وتقلبات الزمان.

في فتحية، يفصح الشاعر عن وجعه من البداية: “قلبي يا زين اللي تشرد / قلبي يا زين ياللي كيفه عيوني لثنين”، مساويًا بين قلبه وعينيه، وكأنه يتكلم على لسان بوعبعاب المكفوف. يعدد مرسي النساء اللواتي عرفهن ويسرد خيباته مع عدد منهن: مريم، حليمة، فتحية، سعيدة، ويستمر في إبراز وطأة وجعه منتقلًا بين معاجم عدة. تتكثف الصورة في مستويات عدة من النص، ويدفع الشاعر وجعه إلى أقاصي مجازية: “حتى الملح ما يغطيه”.

لا يتأتى الحزن في هذه الأغنية من تواتر مفردات الألم والوجع فقط، فأسلوب بوعبعاب الذي حمل ملامح مشتركة مع أساليب الغناء المميزة للحدود الشرقية التي تجمع مصر وليبيا، يفيض بالتلوّع ويستحضر فيه صدى التلاوات المأتمية المشبعة بالنبر والزخارف. يتّضح ذلك من خلال تردد صوت النون في اللازمة وتكرار إيقاعه للإشارة إلى الأسى والأنين، بالإضافة إلى تكرار كلمة قلبي التي اصطبغت بإيقاعية ملفتة من خلال التفخيم الغالب على اللهجة البدوية، وتصرف النص الأصلي بإضافة التلوينات: “قلبي نا نا مستاجع نشكي من قلبي أ يا قلبي.”

نواح | امرأة سورية تنعي

يعود هذا التسجيل إلى إحدى النساء السوريات بمنطقة الرقة تبكي موت أحد أقربائها.

يطلق على هذا النوع من الأغاني النوائح أو النعاوات، ويسمونه التعديد في العراق، لعلاقته بتعديد خصال الميت عند البكاء عليه. ارتبطت النوائح بالنساء في أغلب المناسبات، كونهن الأكثر مقدرة على التعبير عن اللوعة من خلال الغناء والتوجد والتنفيس عن الجزع. الحزن المأتمي له أوجهه المغايرة أيضًا، ففي بعض المناطق من تونس، تُزف جنازة العازب بالزغاريد، لتكسر احتكار الأفراح للزغرودة.

قلبِك صخر جلمود | سليمة باشا مراد

يكاد الحزن أن يكون خصوصيةً غنائية عراقية صرفة، وكأنه اختزال لتاريخ البلد المثقل بالمحن. يشير تاريخ العراق القديم إلى ارتباط النواحات الجماعية بأساطير الميثولوجيا السومرية، حيث المواكب الطقوسية التي كانت تندب الإله تموز، ونواح عشتار ومراثيها الحزينة من أجل عودته إلى الحياة. كما استمرت في مرحلة لاحقة مع طقوس الحزن الكربلائي التي قدمت مشاهد أسطورية لفجيعة عاشوراء، عبر الملاطم ومواكب العزاء الحسينية.

انعكست حمولة الحزن التاريخية على الموسيقى، فكانت حاضرةً بقوة في المقام العراقي. منذ بداية الثلاثينات، بدأت هوية الأغنية العراقية تتشكل شيئًا فشيئًا خارج أطر التقليد الموسيقي القديم. مع قدوم الأخوين الكويتي، تأسست الأغنية العراقية الحديثة المتأثرة بجماليات المقام العراقي. عندما قدمت أم كلثوم إلى بغداد سنة ١٩٣٢، طلبت أن تؤدي أشهر الأغاني العراقية في تلك الفترة، فأوصوها بقلبِك صخر جلمود.

كتب الشاعر عبد الكريم العلاف كلمات الأغنية، ولحنها صالح الكويتي. تبوأ الثنائي مكانةً مميزة في تاريخ الأغنية العراقية، إذ ترسخ حضورهما كرواد الأغنية الثلاثينية المبكرة. كما قاما بصقل الإنتاج الموسيقي العراقي على مدى عقود لاحقة، وكانوا وراء بزوغ نجم العديد من الأصوات المهمة على غرار زكية جورج وسليمة باشا وعفيفة اسكندر ومنيرة الهوزوز.

الأداء مشبع بالتبكي، ويستحضر تقنيات الغناء التقليدي للمقام العراقي مع مسحةٍ أدائية تفردت بها سليمة باشا مراد لم تحصل سليمة مراد على لقب الباشوية التشريفية، لكن خصها الجمهور بذلك وبقي اللقب ملازمًا لها. هناك تلوّع في أدائها كأنه انهمار جرعة من الحزن دفعة واحدة عند كلمة صخر. هنا تحايلنا اللغة إذ نستدرك معلقة امرئ القيس في وصفه: “كجلمود صخر حطه السيل من علِ”، لتتطابق الصورة الشعرية القديمة مع وقع الكلمة لدى سليمة وأدائها.

على جالك يا جارحة الكبيدة | الهادي حبوبة

ارتبطت أغاني المزود في تونس بالمجال الحضري لمدينة تونس، وانتشرت بين الفئات الشعبية لتصبح لسان حالهم المعبر عن محنهم وهمومهم. تعددت مواضيع المزود، من فقدان الحبيبة إلى التشكي من نبذ مجتمع المدينة المتحدث وتقلبات الزمن يذكر أحمد خواجة في كتابه الذاكرة الجماعية والتحولات الاجتماعية من مرآة الأغنية الشعبية أن 'ظاهرة المزاودية ظاهرة فنية ثقافية تميزت بها، خاصة، مدينة تونس ابتداءً من السبعينات مع تضخم القاعدة الاجتماعية للمدن المضادة (السيجومي، حي التضامن، الزهروني..) وشيوع البطالة والفقر، فجاءت هذه الظاهرة لتملأ الفراغات التي تركها هذا الخطاب في نفوس الناس وذاكرتهم الجمعية ولتحرير الجسد المنهك من إرهاقات الواقع اليومي، ولتعبر عن نقمتها على نظام المدينة الاستبعادي وظلمها وتفصح عن حنينها إلى علاقات الجوار والقرابة.' (صفحتي ٢٢٦-٢٢٧).

تندرج أغنية على جالك يا جارحة الكبيدة ضمن أغاني المزود، يخاطب فيها حبوبة حبيبته المتمنعة القاسية، لكنه رغم كل الأسى الذي تعرض له من طرفها، يصر على إهدائها قصيدة أو أغنية جديدة. يظهر هنا تأثر حبوبة باللهجة المصرية وأسلوب عدوية الغنائي، من خلال حضور بعض الكلمات المشرقية، وحتى اللحن الافتتاحي الذي احتوى على زخارف كثيرة، ما أكسب الأغنية حزنًا مضاعفًا.

حزينة علاش | صلاح مصباح

لهذه الأغنية امتياز معجمي، فهي تكاد تكون الأغنية التونسية الوحيدة التي ترد بها كلمة وجد، وهي تعد من أوائل الأغاني التي أداها صلاح مصباح في مسيرته. هنالك تلازم معجمي بين كلمتي وجد وحزن. يقال وَجِدَ فلان وجدًا، أي حزِن، ولكن المعنى ينقلب عند القول: وجد به، لتصبح أحبه، وهكذا يصبح الحزن والحب وجهان لوجدٍ واحد. يخاطب الشاعر حبيبته الحزينة بنفس النبرة المشرفة على البكاء، ثم ينتقل إلى التطريب في الشطر الثاني من الأغنية تزامنًا مع تساؤلٍ يائس عند المقطع: “علاش خدّك صابح مذبال؟ / وعيونك سرحانة وين؟ / وفين هي الضحكة الهبال؟ / وصوتك الدافي الحنين؟”

الحزن في هذه الأغنية شفاف غير متكلف، يفيض بالرقة، ويتطبّع بملامح الموجة الرومانسية لأغاني البوب التونسية خلال التسعينات، مع أسماء كثيرة مثل نجاة عطية وصابر الرباعي في بداياته ونوال غشام وآخرين.

أبوذية لامي | محمد القبانجي

في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي (صفحة ٣٠٧)، أورد الدكتور علي الوردي قصة أحد الطلاب العراقيين الذين ذهبوا للدراسة في الولايات المتحدة. كان قد تلقى زيارة من أحد أصدقائه، وعندما لم يجده في البيت جلس يتحدث مع صاحبة المنزل التي أسرّت له بأن صديقه يكاد لا يدخل الحمام حتى يشرع بالبكاء. لكن اتضح فيما بعد بأن ذلك الشاب كان فقط يغني أبوذية.

هنالك قصة تكاد تلامس الأسطورة حول تسجيل القبانجي لهذه الأبوذية في ألمانيا. تقول القصة أن القبانجي سافر إلى برلين في أواخر العشرينات، وكان منهمكًا بالتسجيل حينما وافاه نبأ موت والده. أصر العراقي على إتمام التسجيل، وكان من المفترض أن يستمر في غناء أبوذية على مقام الراست تعتبر الأبوذية من أنواع الشعر الشعبي في العراق، يتألف كل بيت فيه من أربعة أشطر. تنتهي الأشطر الثلاث الأولى بقافية مؤلفة من كلمة واحدة أو متقاربة جدًا، والشطر الرابع لا بدّ أن ينتهي بكلمة نهايتها (يه) ويسمّى الرباط، وهو سبب تسميتها بالـ أبو-ذيه. دأب شعراء العراق على نظم الأبوذيات لمواساة بعضهم عند وقوع مصاب جلل.، لكن القبانجي غنى بنغمة بعيدة عن المقامات الموسيقية المعروفة وبأداء تاريخي يعتصر القلب. لاحقًا، سُمي مقام الأبوذية الغريب والجديد وقتها لامي، باشتقاق اسمه من اللوم الذي أوقعه القبانجي على نفسه لأنه ترك أباه على فراش المرض وسافر:

“يا ويلاه

علاما الدهر شتتنة وطَرنة

عكب ذاك الطرب ويلي بالهم آااه

ياويلي عكب ذاك الطرب وحيد أبوية

عكب ذاك الطرب بالهم وطرنة

ألف ياحيف يابة يا ويلي آاه

ألف يا حيف يا بوية مكضينة وطرنة”

ما تجبدوليش | شابة جنات

في مرحلة ما من التسعينات المتأخرة، غزت كاسيتات الراي الأسواق المغاربية، وتنافست أغلب الشركات على استمالة أذواق السميعة بتشكيلات متنوعة من العناوين (مترو الراي، مجاريح الراي)، لكن ظل العنوان الأبرز هو أحزان الراي. في تعريف الشاب خالد للراي، ذكر ارتباط الراي في شوارع وهران بالوجع والحزن والفراق وقصص الحب الملتاعة. لا تخرج أغنية ما تجبدوليش عن دائرة التعريف التي سطرها خالد، وعلاوة على أنها أغنية نموذجية عن تلك الأحزان لها أهمية تاريخية، فمن خلالها تسرب الأوتوتيون إلى أغاني الراي. بدأت وقتها موجة ترقيق الصوت بهدف إضفاء سحابة حزن مبطنة في أداء الأغاني.

الحزن في هذه الأغنية ليس حزن النص والخامة، لكنه أيضًا الحزن النابع من الأوتوتيون.

يا بنادم | حسين نعمة

انتمى حسين نعمة إلى جيل السبعينات، وتعامل مع شعراء وملحنين من تلك الحقبة، وكانت أثمر تعاوناته مع أبو سرحان كتابةً وكوكب حمزة تلحينًا. تعد أغنية يا بنادم أحد أبرز عناوين تلك المرحلة. يروي كوكب حمزة قصة تأليفه للحن يا بنادم من كلمات أبي سرحان الذي اغتيل في بيروت: “كان أبو سرحان يكتب عن الوجع العراقي، كنا أبناء الخيبة الكبرى. أثناء تلحيني للأغنية، استعرت مشهدًا من مشاهد الزنجيل بالبصرة في الإضافات إلى الإيقاعات وصوت الرادود.” نكاد نلمح صدى لطمية حسينية في إيقاعات الأغنية، مع صوت حسين نعمة الرخيم الذي يماثل بين خامته الحزينة الدافئة والكلمات التي تضج بالأنين والوجع.

مقطوعة حنين | مجيد مرهون

عاش مجيد مرهون تجربة سجن قاسية في البحرين بسبب تورطه في عملية اغتيال القنصل البريطاني. في السجن، لقن نفسه أصول النظرية الموسيقية، وشرع بتأليف مقطوعات استطاع تهريبها، حاملةً لتأثيرات تجربته في مواكب العزاء الحسينية – حيث كانت تسير فرقة نحاسية متصدرةً تلك الطقوس التي تنعي مقتل الحسين. إلى جانب اعتقاله، اختبر مرهون طفولةً مؤلمة مع موت أخته بين يديه، تبعها فشل قصص الحب الأولى التي عاشها، ثم وفاة أمه وعدم تمكنه من حضور جنازتها.

تعد حنين أبرز مقطوعات مجيد التي ارتبطت بالموجة الرومانسية التي انسحبت على أعماله. يسترجع مرهون رمزيًا رنين السلاسل التي كان يجرها في المعتقل موسيقيًا، من خلال الحركة الثقيلة الحاضرة في أنغام الفلوت، وصوت الأوبوا الذي يقحم نفسه في تدخلاتٍ مفاجئة كدلالة على الجروح العميقة التي تعيد الذكريات فتحها من جديد، مع الوتريات بتكراراتها البطيئة التي تشير إلى رتابة العيش بين القضبان. تكاد المقطوعة أن تكون موسيقى جنائزية.

ما دايم والو | سمارا

تكسر هذه الأغنية فكرة تقليدية، مفادها أن الحزن مرتبط حصريًا بالمغنى العربي القديم أو الطربيات الكلاسيكية. يحتوي الراب أيضًا على جماليات ذات صلة بالحزن من خلال محاكاةٍ أوتوتيونية للنبر والزخارف التنغيمية، مثلما هو الحال في ما دايم والو. الحزن في هذه الأغنية لا يتصنع تعففًا أو نبلًا مزيفًا، لكنه شفاف ونلمسه من خلال الأداء والنص والموسيقى وتطويع الأوتوتيون. استطاع سمارا محاكاة تقنيات الغناء العربي القديم، ما أضاف خامةً متلوّعة في صوته. الحزن أيضًا مرتبط بالمضمون، ولعل العنوان وحده يفصح عن ذلك: “ما دايم والو”. تتردد الجملة كزفرة كائن ملكوم أو لازمة حزنية يرددها سائرٌ عرَضي في جنازة ما. يتكلم سمارا عن أقرانه وأبناء حيه، وينطق باسم الحزن الجماعي الذي أغرق من حوله: “كي تشوف وجوههم الحزينة / دولة وباعتنا في المرشي / أحنا في أعمارنا ترزينا.”

حطيت على القلب إيدي (من الأولة في الغرام) | أم كلثوم

القصة معروفة. توفي نجل الملحن زكريا أحمد وابنه الوحيد، فأصابه حزن شديد. لم تتمكن أم كلثوم من مواساة زكريا، فلجأت إلى صديقه المقرب محمود بيرم التونسي. كان اللقاء مؤلمًا ومفعمًا بالحزن، ما ألهم الشاعر: “الأولة في الغرام والحب شبكوني”. لم يتمالك زكريا نفسه، فأمسك العود وساير صديقه مع الكلمات. تطلّب تلحين الأغنية كاملة قرابة الثلاثة أيام، لتسارع أم كلثوم إلى تسجيلها، مصرةً على تكرار المقطع الذي يشير إلى حادثة الفقدان من خلال وصلةٍ تطريبية طويلة ملؤها الشجن: “حطيت على القلب إيدي / وأنا بودع وحيدي / وأقول يا عين اسعفيني يا عين / وابكي وبالدمع جودي.”