.
تذهب الأسطورة المتداولة إلى أن ثلاثة من البحارة خرجوا بحثًا عن مكان للهو، وجدوا في طريقهم مسجدًا تصدح منه أصوات غريبة. حين اقتربوا انهالت عليهم الحجارة، ثم صُدموا لمنظر من كانوا في المسجد، إذ كان نصف جسدهم العلوي له هيئة البشر بينما أرجلهم كانت على هيئة الحيوان. حين استجمع أحد البحارة شجاعته وألقي السلام، ردوا السلام عليه، ثم دعوا ثلاثتهم للانضمام إلى غنائهم. بعد انتهاء السمر لم يسمح كبير المتسامرين من الجان للبحارة بالانصراف قبل أن يقسموا على ألا يخبروا أحدًا من البشر بتلك الأغاني وإلا كانت عقوبتهم الموت. مع ذلك وجدت موسيقى الفجري البحريني طريقها إلينا، إذ أفشى السر البحار الثالث المتبقي بعد وفاة الاثنين الآخرين بعد الواقعة بسنوات. عاجله الموت بعدها بأسبوعٍ واحد.
الأغنية من صنف الفجري العدساني، حيث ينقسم فن الفجري إلى خمسة صنوف موسيقية رئيسية هي: بحري، عدساني، مخوالفي، حدادي، حساوي
ينتمي فن الفجري إلى تقاليد أغاني غطاسي وبحارة صيد اللؤلؤ في الخليج العربي، والذي تعود أصوله إلي المنطقة التي يوجد بها اليوم، بالإضافة إلي البحرين، دول الكويت والإمارات وقطر وشرق المملكة العربية السعودية (وإن كنا سنكتفي بالإشارة للفن البحريني بوصفه نموذجًا للثقافة الموسيقية لمنطقة غرب الخليج إجمالًا). رغم أنه من الصعب التيقن من التاريخ الذي بدأت فيه تقاليد أغاني الغوص في المنطقة، فإن أول إشارات مدونة عن تلك الموسيقي تعود إلى البعثة الدنماركية إلى جنوب شبة الجزيرة العربية، والتي انطلقت عام ١٧٦١، وانتهت عام ١٧٦٧ بعد أن توفي معظم أعضائها، عدا عن واحدٍ فقط كان هو من حمل لنا تدوينًا عن موسيقى مجتمعات صيد اللؤلؤ.
اعتمد النشاط الاقتصادي البحريني، حتى مطلع القرن العشرين، في معظمه على صيد اللؤلؤ وتجارته، ولذا فإن الأغاني البحرية التي ارتبطت بدورة العمل والملاحة ومواسم صيد اللؤلؤ، سواءً على ظهر السفن أو على البر، لم تكن مجرد أغاني للعمل، بل تداخلت تقاليدها في بنية الطقوس والعلاقات الإجتماعية بشكل أوسع. يقسم الفن البحري إلى نوعين من الفنون الغنائية بحسب تقسيمة دورة الغوص: فأولًا أغاني العمل التي تمارس على ظهر المركب أثناء موسم صيد اللؤلؤ، وثانيًا أغاني السمر التي تمارس خلال الاستراحات على الموانئ القريبة أثناء موسم الغوص، أو في البر بعد انقضاء موسم العمل.
يقضي صيادو اللؤلؤ معظم موسم الغطس الممتد لأربعة أشهر في عرض البحر. لا يقتصر دور المغني (النهّام) الذي يصطحبونه على الترفيه، بل يوكل إلى غنائه دورٌ وظيفيّ في تنظيم دورة العمل، حيث ترتبط عمليات الملاحة والغطس المختلفة بألحان وإيقاعات بعينها، يقوم النهَّام بأدائها مع البحارة. ترتبط بعض الأغاني بسحب المرساة، وأخرى برفع الشراع، وغيرها بالتجديف. يترجم النهّام أوامر ربان السفينة موسيقيًا وينقلها إلى البحارة، ويلعب مدى تمكنه الأدائي دورًا جوهريًا في اجتذاب البحارة للعمل على مركب بعينه أو تركه في الموسم اللاحق. بعد العودة من موسم الغوص، وفي الفترة التي تمتد لأكثر من ثمانية أشهر دون عملٍ تقريبًا، تغنى الفجري في الدور الشعبية التي يجتمع فيها الأهالي للتسامر بعد صلاة العشاء وإلى ساعاتٍ متأخرة من الليل. يصاحب الغناء رقص له دور مركزي في تأطير العلاقات والطقوس الاجتماعية والسياسية للمجتمع المحلي، وتجذير تماسكه في أمسيات السمر التي يتخللها جلسات عرفية لعقد الصفقات، والتحكيم في الخصومات العائلية، وكذلك مناقشة الأمور ذات الطبيعة السياسية.
https://www.youtube.com/watch?v=V5n35jaZ47U
موسيقى ورقصة الليوه البحرينية، واحدة من عدة صنوف موسيقية أفريقية الأصل هي الليوة والطنبورة والزار
لا يقتصر تعقيد الفنون الغنائية البحرية على علاقاتها الوظيفية بدورة العمل وبنية العلاقات الاجتماعية خارجه، بل يرتبط أيضًا بتنوع أصولها الإثنية والثقافية. حيث ارتبطت مجتمعات صيادي فاللؤلؤ – الذي كان يتم تصدير معظمه إلى مهراجات الهند – بشبه القارة وتقاليدها الموسيقية، جنبًا إلي جنب مع تأثرهم بتقاليد الموسيقى الفارسية نظرًا للقرب الجغرافي والحركة الدائمة بين ساحلَي الخليج. قد نسمع بوضوح التأثيرات الهندية والفارسية على الغناء البحري، بينما تكشف الإيقاعات تأثير التقاليد الموسيقية الإفريقية التي حملها العبيد معهم من شرق إفريقيا، والذين تسارعت وتيرة جلبهم من زنزبار وتنجنيقة وتشغيلهم في أعمال الغوص منذ مطلع القرن التاسع عشر، وإن كان وجودهم في المنطقة مثبت منذ بداية العصر العباسي. فيما يبدو إن استخدام اللغة السواحيلية في أغاني الفنون البحرية قد اندثر بشكلٍ كامل، فإن البحرينيين والخليجيين من أصول أفريقية لا يزالون محافظين على موسيقى ورقصة الليوه، والتي يتشاركونها مع إثنية البلوج والشيدي في شبة القارة الهندية، ذات الأصول شرق الإفريقية أيضًا.
ارتبط تراجع فن الفجري بتراجع كلٍّ من نشاط صيد اللؤلؤ وكذلك تآكل شبكة الدور الشعبية. في عام ١٨٣٣ كان عدد مراكب الصيد العاملة في البحرين حوالي ١٥٠٠، وفي عام ١٩٣٦ لم يتجاوز العدد أكثر من ٢٤٦، وفي ١٩٤٨ تداعى العدد إلى ٨٣. كان نجاح اليابانيين في تطوير مزارع اللؤلؤ بداية النهاية لأفول نشاط الغوص الخليجي في عقد الثلاثينات، مصحوبًا بالأزمة المالية الكبرى في الغرب، فيما قضى إعلان الجمهورية الهندية عام ١٩٤٧ على طبقة مهراجات الهند التي كانت المستهلك الرئيسي للإنتاج الخليجي من اللؤلؤ. كما ساهم تدمير البريطانيين لجزء من أسطول الصيد البحريني، أثناء محاولتهم للقضاء على نشاط القرصنة في الخليج العربي، في تدمير الحاضنة البحرية للتقاليد الموسيقية البحرينية. قام البريطانيون بالتضييق الشديد على الدور الشعبية – الحاضنة الحضرية لها – كونها كانت مركزًا لتبلور نشاط سياسي مناهض للاحتلال البريطاني. ثم جاء ظهور النفط ليستكمل التغيرات الجذرية التي كان قد شهدها المجتمع البحريني والخليجي بالفعل، لينتهي نشاط الغوص بشكلٍ شبة كامل، وتتوارى الفنون الموسيقية المرتبطة به مع هيمنة وسائل الإعلام والترفيه واسعة الانتشار، وتحول العادات الاستهلاكية للمجتمع الخليجي بشكل جذري.
لكن، وإن كانت موسيقى الغوص الخليجية واحدة من أسطع النماذج وأكثرها معاصرة عن العلاقة بين النشاط الاقتصادي والمنتج الموسيقى للمجتمعات، وشاهدةً على التحولات الراديكالية والجذرية للمجتمعات المحلية وثقافتها، بفعل التحولات التكنولوجية والسياسية والاقتصادية الداخلية في الداخل وعبر البحار، فإنها أيضًا ومنذ السبعينات قد وُظفت في تشكيل وتدعيم هوية الدول الخليجية حديثة الاستقلال، حيث تبنت الحكومات الخليجية في معظمها عملية حفظ الفولكلور البحري، وتسجيله، وتوثيقه، وإعادة إنتاجه وعرضه، كعنصر من عناصر الهوية الثقافية الوطنية، وعامل جذب سياحي وترويجي أحيانًا أقل، وهو الأمر الذي شهد صعودًا في وتيرته في العقد الأخير، مع تعاظم الدور الإقليمي للدول الخليجية.
كما تخبرنا أغاني الغوص شيئًا عن الموسيقى، فإنها تخبرنا شيئًا أيضًا عن المروية المختزلة عن المجتمعات الخليجية وتاريخها وثقافتها وعصرها النفطي، كاشفًة عن تاريخ أكثر ثراءً وتعقيدًا وتعددًا، وتركيبًا إثنيًا وثقافيًا شديد الغنى والتنوع في الخليج العربي، كان تحطيمه وتآكله سابقًا على ظهور النفط، ومحاولة استعادته الأخيرة مرهونة بنفي تنوعه لصالح الأحادية الهوياتية وادعاء الأصالة، محاولة ربما ستصيبها لعنة الموت التي حملتها موسيقى الغوص دائمًا.
المصادر:
الولع الأوروبي بالموسيقى والغناء في البحرين 2 – 3 تجربة من الدنمارك
الفنون الشعبية الغنائية في البحرين (نظرة تأملية واستكشافية)
Africans in the Arabian (Persian) Gulf
These Songs Bring Tears To Your Eyes, or Worse
الفنون الشعبية الغنائية في البحرين: أغاني الغوص والسمر في العمل والترفيه
فنون الفرق النسائية الشعبية في البحرين
Music and Traditions of the Arabian Peninsula: Saudi Arabia, Kuwait, Bahrain, and Qatar