.
عندما حط الشاعر الجليدي العويني الرحال في العاصمة تونس قادمًا من الجنوب، استقبلته المدينة بوحشة قاتلة. من وحي قسوة المدينة كتب قصيدة يقول في مطلعها “آش جاب رجلي للمداين زحمة وآش جاب قلبي لناس ما يحبوه.” ما الذي جر قدماي إلى هذه المدن المزدحمة، ومالذي أتى بقلبي إلى أناس لا يحبونه تلقف عدنان الشواشي الكلمات وقام بتلحينها، لتصبح الأغنية نشيدًا ملازمًا للنازحين إلى المدينة. سطرت القصيدة بداية مسيرة مهمة للشاعر الغنائي الذي كتب فيما بعد للعديدين، أشهرهم أمينة فاخت وسمير العقربي والشاذلي الحاجي.
نرصد إليكم قائمة بأغاني المدن، أرخت لأحداث مؤثرة وقعت بها وحملت مواجع الرحيل عنها والحنين إليها. تطبّعت تلك الأغاني بالموسيقات التي انطلقت من المدن وحملت تضاريسها الصوتية. من المراثي التي قيلت في سقوط ممالك الأندلس إلى جماليات الحزن المغنى في بغداد، مرورًا بوهران التي احتضنت بدايات الراي والعصري، ووصولًا إلى تونس وحياتها اليومية وبيروت المنكوبة بفعل الحرب الأهلية.
رغم انتمائها إلى حقبةٍ متأخرةٍ نوعًا ما، إلا أن هذه الأغنية حملت بصمات الأغنية العراقية السبعينية. يعود التسجيل إلى سنة ١٩٨٢ في سوريا، حيث كان الملحن العراقي كمال السيد يقضي منفاه. انتمى السيد إلى جيل شكل انعطافةً مهمة كتابة وتلحينًا وأداءً، ففي الوقت التي شهدت فيه بغداد ملتقى لحركات النزوح ونشطت بها الحركية الاقتصادية على نحو غير مسبوق، حافظت الأغنية على حمولة من الحزن التي ناقضت صيرورة عصرها المبشر بموجة من البهجة والانفراج في تصريح للشاعر الغنائي عريان السيد خلف قال: 'الأغنية السبعينية أُمّ الحزن'. عاش كمال السيد حياته ممزقًا بين عدة منافي، فهاجر قسرًا إلى اليمن الديمقراطي بعد صعود البعث إلى السلطة ومن ثم سوريا والدنمارك، وجرّ وراءه حياة مثقلة بالمصائب والآلام، إذ أُعدمت زوجته هناء عثمان التي انتمت إلى الحزب الشيوعي العراقي، لتعتقل سنة ١٩٨٦ إلى جانب أشقائها سناء وإبراهيم، ويُنفذ حكم الإعدام في ثلاثتهم بنفس التاريخ مع مساجين آخرين من الحزب، بعد محاكمة صورية. تنطق الأغنية بما عاشه الملحن، وتكاد تكون سيرة ذاتية موغلة في الحزن البغدادي: “ويها يا أهلنا واحنه منها وبيها، بغداد شمعة ولا هوه ايطفيها.”
حضور الحزن في هذه الأغنية ونظيراتها من الأغاني السبعينية، جمع بين أن يكون جمالية تضاف إلى المكوّن النغمي لها، ولعنة تاريخية لم تخرج منها الأغنية العراقية.
عنوان القصيدة / الأغنية يشير إلى أبي تمام، ولكن النص من نظم ابن خفاجة الذي قام بتضمين أحد الأبيات لسلفه راثيًا مدينة فالنسيا، إحدى أكبر حواضر الأندلس، بعد سقوطها على يد آل سيد كومبياتور. يكاد رثاء الدول والممالك أن يكون خصوصيةً أندلسية تميز بها شعرائها بعيد سقوط الدولة الأموية وتفككها، نذكر منها رثاء ابن العسال لمدينة طليطلة بعد سقوطها، أو بكائيات ابن اللبانة إثر سقوط إشبيلية ودولة بني عياد، ومثله فعل ابن عبدون بعد خلع ملوك الطوائف من قبل المرابطين وسقوط بطليوس ومعها دولة بمي الأفطس.
دخل آل سيد وهو أحد الفرسان القشتاليين مدينة فالنسيا بعد خضوع أميرها ذو النون، فأقام المحارق وعاث فيها نهبًا وتقتيلًا. بعد حصارٍ مطول دام سنوات، استفحلت الأوبئة بالمدينة وأتى سكانها على أكل الجيفة والجرذان، في مشهد مأساوي طبع الشاعر ابن خفاجة الذي رثى المدينة باكيا:
عاثت بساحتك العدا يا دار / ومحا محاسنك البلى والنار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها / وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها / لا أنتِ أنتِ ولا الديار ديار
الأغنية من ألبوم الجنة الضائعة لفرقة محمد الأمين الإكرامي وكابيلا دي مينيسترس، الموسيقى والشعر الأندلسي من فالنسيا في القرن الحادي عشر.
ربما لم يكن لمدينة جزائرية أخرى غير وهران تلك الحظوة التي غنمتها من خلال الأغاني. عرفت المدينة استقرار البدو الذين رسخوا تقاليد الأغنية البدوية وظهرت أصوات في الملحون والأندلسي وموسيقى الحوز. انطلق الراي من أزقتها وأحيائها، وظهر العصري الوهراني على يد كل من بلاوي الهواري وأحمد وهبي الذي تأثر بالمدرسة المصرية وعلى رأسها محمد عبد الوهاب. رسخ وهبي لأسلوب جمع بين مدرسة العزف الشرقي على العود والإيقاعات والأشعار الوهرانية، وعبر عن نضج مدرسة العصري من خلال أغنية وهران التي وصف فيها تجربة أبيه مع الغربة في فرنسا وابتعاده عن مسقط رأسه. نالت الأغنية حظوة مميزة أطلقت مسيرة وهبي، وتلقفها فيما بعد الشاب خالد في استعادة ناجحة لتكتمل رمزيا صورة المدينة الجامعة لمشاربٍ موسيقية مختلفة.
دفعت الحرب الأهلية بلبنان عائلة معلوف إلى مغادرة بيروت نحو باريس. كان إبراهيم صغيرًا، ولم يعد إلى مسقط رأسه إلا في سن الثالثة عشرة، بعد انتهاء الحرب الأهلية التي مزقت المدينة وأغرقتها في فوضى من الدمار. خلفت تلك التجربة أثرا عميقًا لدى الموسيقي الشاب الذي تتلمذ على يد أبيه، نسيم معلوف، في العزف على آلة الترومبيت. كان إبراهيم يتجول بين شوارع المدينة الملطخة بآثار التفجيرات، وجدران المباني التي لا تزال تحمل مخلفات الرصاص والقنابل، ومن ثم استوقفه مشهد دمار هائل سببته سيارة مفخخة فيما كان يستمع إلى ليد زيبلين على الووكمان. ألهمته تلك التجربة مقطوعة بيروت، التي وضع مسودتها الأولى في سن الثالثة عشر، وعاد إلى العمل عليها سنة ٢٠٠٦ لتحل في ألبوم دياغنوستيك الذي صدر سنة ٢٠١٠. نجح إبراهيم معلوف في ترسيخ انطباعه الأول عن بيروت المنكوبة بالحرب، المقطوعة تبدأ على وتيرة واحدة وصوت مكرر في الخلفية توحي بثقل الزمن الذي مر على المدينة وقت الحرب، قبل أن تصل إلى الذروة في آخرها مع انفجارات إيقاعية وارتجالات روك قوية جدًا تشير بدون أدنى شك إلى لحظة ليد زيبلبن التي ختم بها إبراهيم جولته في بيروت المدمرة بفعل الحرب.
تختزل الأغنية مفردات الحياة اليومية لبوهيمي عاشق بمدينة تونس. النص لغسان عمامي الذي فتح مدرسة شعرية جديدة بالعامية، انتصر فيها لجماليات اليومي والبساطة. حتى لفظ عشيرتي، يكاد يكون خصوصية تونسية صرفة في دلالاته. فالعشرة في المنطوق التونسي تتجاوز مفهوم القرابة لتسطّر أفقًا أبعد بكثير، فهي “أن يكون الواحد في المتكثّر والكثير في الواحد” في أعمالهما الفلسفية، حاول كل من سنان العزابي وكمال الزغباني أن يؤسسا لمفهوم العشرة في الحالة التونسية وخصوصياتها.
قام بنديرمان بأداء الأغنية التي التصقت بالشارع الرئيسي بتونس العاصمة، شارع الحبيب بورقيبة، كونه شريان المدينة وعصبها الحي. أتى النص على ذكر أماكن أخرى لها حضور قوي في ذاكرة سكان تونس وحياتهم اليومية، كسوق سيدي البحري وخسة الحلفاوي نافورة كانت تقع في ساحة الحلفاوين بتونس العاصمة ومطعم الحطاب الشهير بأكلة اللبلابي طبق تونسي يقدم ساخنًا بخلط الخبز المجفف مع الحمص المغلى والهريسة والبلفيدير منتزه كبير عبارة عن مساحة خضراء واسعة تتوسط مدينة تونس وتتواجد بها حديقة الحيوانات. لم يكتف الشاعر بذكر الأمكنة، فسرد تفاصيل المشاغبات اليومية وعناء المواصلات وصخب الحانات المنتصبة في الشارع الرئيسي لتونس. الأغنية سيرة حياة نموذجية لبوهيميي العاصمة، واحتوت على مشهد مكثّف للمدينة المركز، معماريًّا وحياتيًا، من خلال معاجم تونسية صرفة في استعمالاتها وإحالاتها. لعل ذروة النص تقع في المقطع الذي صور مجازًا حزن العاشق على فراق حبيبته، وبكاءه الذي فاض وأغرق المدينة في بحر جعل من الشاب الملتاع يهاجر خلسة إلى حبيبته رغمًا عن أعين العسس وتعنت المسافة رغم قصرها رمزيًا:
“تشدك بكية المطر، وتفيض دموعك سيالة. يولي الكورنيش في باب بحر، ونحرقلك مالصنبة للمنقالة.”
احترف يهود الجزائر من الموسيقيين مواضيع الغربة في أغانيهم، وأدمنوا على استحضار صور مدنهم التي نشأوا فيها وهجروها فيما بعد. ولدت ليلي مونتي بالجزائر العاصمة، وهاجرت إلى فرنسا وبدأت هناك مسيرة ملفتة. انتقلت بين الكاباريهات والمسارح الباريسية وقارنها كثيرون بـ إديت بياف. غلّبت مونتي صورة الجزائر على إغراءات باريس وصخبها وحياتها الممتلئة من خلال أغنية جزائر جزائر، التي صورت فيها حياة الطفولة الحنين إلى الحي والعائلة بالبيضاء الجزائر البيضاء هو لفظ يطلق على الجزائر، معتمدة على الفرانكو-آراب، وهو أسلوب غنائي انتشر بين يهود المغرب الكبير في بدايات القرن الماضي واستمر إلى فترة طويلة. يعتمد هذا النمط من الغناء على الجمع بين الفرنسية واللهجة المحلية، وكان له حضور ملفت في عواصم تلك البلدان التي تواجد بها الموسيقيين اليهود وخاصة تونس والجزائر. في أغنية جزائر جزائر، تراوح لين مونتي بين اللهجة العاصمية الجزائرية المشبعة بلكنة يهودها، والفرنسية المدينية.
الأغنية من تراث منطقة العكارة، وهو ما يطلق على جرجيس (تقع على الساحل الجنوب الشرقي لتونس) نسبة إلى القبائل التي استقرت بها قادمةً من الغرب. تعرض نص الأغنية لقراءات عديدة، ولكن المرجح أنها من نظم أحد الشعراء الذين مروا بالمدينة بعدما استوقفه مشهد فتيات من المدينة يرقصن في إحدى الزوايا. تأتي الأغنية على ذكر محاسن المدينة وخاصة مغارس الزيتون، وتنحرف قراءات أخرى للنص لتحيله على حادثة استعمارية ضعيفة المتن من خلال مقطع لا تتفق عليه أغلب الروايات: “ناري على جرجيس وبناويته، جاو النصارى وهدموا زاويته”. بقيت الأغنية علامة ملازمة للمدينة وشهدت استعادات مهمة تبقى أبرزها لرضا القلعي.
تكاد اليمن أن تكون محراب الغناء العربي، فأغلب المصادر التاريخية تخصها باحتضان الغناء منذ القدم، أثناء فترة ازدهار الحضارات الحميرية والسبئية. أشار القلشقندي إلى أن أصول الغناء العربي تعود إلى عهود عاد الغابرة، وذهب آخرون إلى القول بأن طويس اليمني كان أول من أتقن الغناء في عهد الإسلام.
أغنية وامغرد بوادي الدور من أقدم الأغاني التراثية في اليمن. النص من نظم القاضي علي بن محمد بن أحمد العنسي الصنعاني الذي عاش بين القرنين السابع عشر والثامن عشر في اليمن، وهو من أكبر رواد الشعر الحميني الشعر الشعبي المغنى في اليمن. تولى القضاء في مدينة العدين التي يقع بها وادي الدور، وكتب هذه القصيدة بعد أن تملكه الحنين إلى أهله وموطنه الأصلي بصنعاء. مر الشاعر بفترة عصيبة، إذ تم عزله وحبسه لوشاية من أحدهم للإمام المتوكل، إمام الدولة الزيدية في اليمن وقتها.
تشتد نبرة الحنين إلى المدينة الأم صنعاء في القصيدة، التي يأتي على ذكر اسمها القديم سام “أخرجه من مدينة سام دار التهاني”، ويمر في شطرها الثاني إلى مخاطبة أهله “يا أحبة ربى صنعاء”. تداول كثيرون على أداء الأغنية، فيما اقتصر أداء البعض على الجزء الأخير من القصيدة لتبدأ بأحبة ربى صنعاء. قدمها أبو بكر سالم بأسلوبه الخاص الذي طور به الأغنية الصنعانية، بعد أن قام بتحديث تقاليدها العزفية بالاعتماد على آلات جديدة لم تكن مستخدمة من قبل.
مر الشاعر السعودي الطاهر الزمخشري بتجربة الغربة وأقام مطولًا في مصر. حركه الحنين إلى مراسلة صديقه الملحن طارق عبد الحكيم، بعد أن تعذر عليه قضاء إحدى الأعياد بمكة مثل عادته، فكتب قصيدة عن الحنين إلى مسقط رأسه. استعان عبد الحكيم بلحن حجازي قديم لقصيدة صديقه، يعود إلى أغنية غزلية بعنوان ترفق عذولي فماذا الصياح. أصبح اللحن فيما بعد حمالًا لموضوع ديني مع قصيدة أهيم بروحي من الرابية التي تشير إلى مراحل الحج وتأتي على ذكر الأماكن بمكة كالمروتين ومسجد الخيف وجبال الأخشبين.
أغنية العلوة هي أيقونة فن العيطة غناء يقوم على النداء والترميز، انتشر بقوة في المغرب أثناء الاستعمار الفرنسي بغرض استنهاض همم المقاومين وحثهم على الصمود بمنطقة الشاوية الكبرى في المغرب، وتحديدًا مدينة بن أحمد التي تقع في إقليم سطات غربًا. تستمد المدينة أهميتها من الحضور الكبير للعلامات الصوفية بها وما درج على تسميتهم بالأولياء الصالحين. العلوة تشير إلى مدينة بني أحمد، كما تعني الهضبة المرتفعة، وتحيل إلى رمزيات مختلفة كالأم والأرض والهوية. تأتي كلمات القصيدة الزجلية على ذكر مكارم أهل المدينة وتعلقهم بأرضهم: “يا لغادي العلوة، آجي نوصيك بعدا، إيلا لحكتي العلوة، سلم سلم سلم، وفي العلوة لا تتكلم، العلوة ومواليها، والصلاح اللي فيها”، وتعدد من مناقب فرسانها وأمجادهم الغابرة: “هز عيونك وشوف العلوة كاع سيوف”.
أعطى بن قدور للأغنية نفسًا عيطاويًا مميزًا واعتمد على آلات تقليدية.