.
كتب هذه القائمة كل من نور عز الدين وعبد الهادي بازرباشي وعمر ذوابه ورين حسن مشورب.
كلما انتفض شعب وجدنا بين ذخيرة الأغاني الخاصة بنضاله كنزَ أغانٍ، تتخطى حدود زمنها وتتجاوز الصراع الذي كُتبت ولاءً وتخليدًا له، فنجدها بعد عقود تصدح على مكبرات صوتية، في موطنها أو على بعد آلاف الكيلومترات منه. تكمن جمالية الأغنية المتمردة بكونها لا تجسد صراع محدد بعينه، بقدر ما تفخِّم نبرة مشاعر تنتاب كل منتفض على ظلم، كل مشاغب رافض أن يرضخ للأمر الواقع دون قتال؛ لكنها في الآن عينه تخدم قضيتها كرواية محكيّة، تطلعنا على الـ“لماذا؟ أين؟ متى؟“ من خلال ألسنة شعبية ونصوص عفوية. تجمع هذه القائمة خمسة عشر أغنية ثورية لبنانية وغير لبنانية، مهداة إلى لبنان اليوم.
أتت هذه الأغنية بعد انفصال سامي حواط عن زياد الرحباني عام ١٩٨٢ بعد سنوات من العمل، شاركه خلالها في أهم المسرحيات، مثل فيلم أميركي طويل، وفي رصيده عدد كبير من الأغاني السياسية الساخرة. كتبها جورج يمين ولحنها وغناها سامي حواط. تبدأ بحوار بسيط يقدم حواط نفسه فيه على أنه المتكلم باسم الرأي العام:
“حضرتنا الأكثرية تنين وتسعين بالمية
طرحنا من المية واحد
والواحد بعدو قاعد
قاعد عالراس وقدام حضرتنا من الرأي العام”
أغنت القوافي المتبعة التوزيع وانفعال حواط مع الكلمات واللحن، خاصةً في مقطع “تجوزنا وصار عنا ولاد / عم بننجد فرش جداد.”
في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وعندما كان عمر طالب المعهد المسرحي أحمد قعبور ١٩ عامًا، لحن قصيدة أناديكم لـ توفيق زياد، وغناها بصحبة مجموعة من أصدقائه الموسيقيين في ممر مستشفى ميداني يغص بالجرحى. كانت لحظة انفعالية أدخلت شغوف المسرح الوسط الغنائي دون نية مسبقة، ليصدر لاحقًا ألبوم بعنوان أناديكم، بين أغانيه المنسية اليوم نحنا الناس.
ذكر قعبور أن هذه الأغنية، ذات اللحن والتوزيع الحالمَين الأشبه بتهويدة، ضمن الأعمال التي زاوجت بين الهم اللبناني والفلسطيني، حيث سُلب من الناس حق المشي في شوارع مدينتهم وعلى رصيف البحر الذي تطل عليه المدينة. بحسب الأغنية هذه الأماكن “لكل الناس.”
بيلا تشاو أغنية فولكلوريّة إيطاليّة تعدّ نشيدًا ضد الفاشيّة. غناها المناضلون الإيطاليّون رفضًا للهيمنة النازيّة التي كانت تعمّ البلاد في الأربعينات. تروي كلمات الأغنية دنو المجتاح الغاشم، وتوق المغني للكفاح والموت في أرضه كي يتحول إلى وردة ينظر إليها المارّون فيما بعد بإعجاب. أصبحت الأغنية لاحقًا نشيدًا مألوفًا في المظاهرات المضادة للفاشية حول العالم، ورُددت في بعض المظاهرات الأخيرة في بيروت.
كُتب كثيرًا عن أصل لحن هذه الأغنية، بين قائلٍ بأنه من التراث وآخر يؤكد أنه لـ عمر الزعني، إلى جانب قصة اقتباس عبد الوهاب اللحن في أغنية عندك بحرية لـ وديع الصافي وكونه أعلن ذلك أم لم يعلنه، والتي كانت سببًا في أن ترى هذه الأغنية النور مرة أخرى بعد أكثر من ٧٠ عامًا على تسجيلها. من المؤسف أن يكون الجدل حول اقتباسات عبد الوهاب هو محور الحديث عن الأغنية، مهملين نصها البديع الذي لا يحلم معظم العرب اليوم بكتابة مثله والبقاء أحياء؛ حتى الزعني لم ينجُ من جرأة النص الذي أمعن في السخرية من الرئيس شارل دباس وقتها، بل أُجبر على ترك وظيفته وسُجن لفترة، لكنه بقي حيًا، وهذا في حد ذاته انتصار لحرية التعبير بمعايير اليوم، خاصةً باحتواء الأغنية مقاطع مثل: “الريح معاكس يا ريّس / والخشب مسوّس يا ريّس / وفرحان ومسرغس يا ريّس / لأنك ريّس يا ريّس” و”الريح سمية يا ريّس / فين رايح فينا يا ريّس / بقلك بـ حريّة يا ريّس / ما خرجك ريّس يا ريّس.”
“سرقونا ما احكينا
شرّدونا، بكينا
قالوا: ارجعوا، جينا
سرقونا من جديد”
لو استثنينا مغازلة نجوى كرم لحافظ الأسد في منرفع إيدينا، يمكن اعتبار ليش مغرَّب أغنيتها السياسية الوحيدة. تضمّن فيديو كليب الأغنية الصادر عام ٢٠٠٤ مشاهد لمعالم من بيروت مثل الوسط التجاري والمتحف الوطني والمطار وهي خالية تمامًا من الناس، في تحذير من تبعات الهجرة الجماعية بسبب بطش الدولة وتفقير الشعب. تسبب هذا الفيديو كليب بإرباك للأمن العام اللبناني الذي أوقف بثه، بسبب احتوائه مشاهد تمثيلية لمظاهرات تقمعها العناصر الأمنية بالعنف والدروع وخراطيم المياه، ما اضطر المخرج سعيد الماروق لحذف هذه المشاهد.
في ألبوم خطيرة الذي أطلقه شربل روحانا عام ٢٠٠٦، أدخل الكلمات على موسيقاه لأول مرة. تناول روحانا عدد من القضايا الاجتماعية كأحلام الشبان بوهم الغربة والمفاهيم الواهية لمعنى الوطن، في ثلاثة أغاني منها لشو التغيير.
اللازمة هي سؤال لشو التغيير بعد أن تسبقها جملة ساخرة تتهكم على الأوضاع السياسية في البلد: “ما هنّي الطوايف ذاتن وبيجتمعوا مع ذاتن حتى يختاروا ذاتن / لشو التغيير؟” تترافق هذه الكلمات مع موسيقى شرقية وإيقاع محمس في لحن سهل التعلق بالأذن، يدفعك إلى إعادة الكورس أكثر من مرة.
هذه الأغنية الصادرة عام ١٩٩٤ من الأكثر ترديدًا وسط بيروت خلال التظاهرات التي اندلعت مساء ١٧ تشرين الأول / أكتوبر الحالي. ظهرت قوم اتحدى ضمن ألبوم ابحث عني، إلا أن مقابلة تلفزيونية مع إيلي شويري عائدة إلى العام ١٩٩٠ تكشف عن بداية عمله على كلماتها ولحنها بصحبة ماجدة الرومي، وعن نسخة أولية ذات كلمات مختلفة. سبقت تلك الحقبة تحول ماجدة الرومي لإحدى أبرز المغنيات المحابيات للأنظمة العربية قبل وخلال وبعد عام ٢٠١١، حينما عدلت عن تصريحاتها المؤيدة لحق الشعوب العربية في تقرير مصيرها وانتقلت إلى الجوقة المنادية بخطاب المؤامرة.
تخبرنا هذه الأغنية الفلكلورية الفلسطينية عن شاب يسمى مشعل، قرر التمرد ورفض خوض حرب ليست حربه أيام الاحتلال العثماني، ففر من التجنيد وظل مختبئًا لعدم قدرته على دفع الديّة، إلى أن وجده الأتراك بالقرب من جدول ماء وأصرّ الضابط على اقتياده لموته وسط نواح النساء. قد لا تعبر قصة مشعل عن حال اللبنانيين اليوم، لكن الأغنية تفعل، خاصةً مقطع:
“عليش تقتلني وأنا اسمي جارَك
متهومة بعشرتَك محروقة بنارك”
https://youtu.be/Q3LUO9KaKB4
أغنية ناقدة لاذعة من العيار الثقيل. تقال هنا الكلمات كما هي، لدرجة أن الحكومة اللبنانية في منتصف السبعينات صادرت أسطوانات الأغنية من السوق وسمحت بتأديتها فقط على المسرح.
الأغنية من كلمات ميشال طعمة وألحان الياس الرحباني، أداها حسن علاء الدين المعروف بـ شوشو في مسرحيته آخ يا بلدنا، ولاقت شهرة كبيرة بسبب انتقاداتها المباشرة التي وجهت إلى صدور جميع أطراف الدولة، من الصحافة حتى رؤساء الحكومة: “جرايدنا للبيع للسفارات يا بلدنا / وزرا ونواب للبيع / شعرا وكتاب للبيع.”
زخر آخر ظهور لفيروز برفقة زياد الرحباني ضمن مهرجانات بيت الدين عام ٢٠٠٣ بأغنيات قدمتها للمرة الأولى، صدر بعضها لاحقًا في تسجيل استوديو ضمن ألبوم إيه في أمل، وبقي البعض الآخر حبيس الأدراج. حصلت إحدى أكبر مفاجآت الحفل في نهاية فصله الأول، عند انبعاث المقدمة الموسيقية لأغنية اعتاد الجمهور على سماعها مسجلة بصوت الكورال الرجالي من مسرحية نزل السرور من عام ١٩٧٤، غنت فيروز منها المذهب فقط، ولم تُعد الكرة بعد بيت الدين:
“جايي مع الشعب المسكين
جايي تأعرف أرضي لمين
لمين عم بيموتوا ولادي
بأرض بلادي جوعانين”
رغم أنها أغنية لـ سيد درويش، إلا أن نسختها بصوت وعود حازم شاهين أطرب وأعمق تأثيرًا. عزف العود الذي تتكئ عليه الأغنية كاسم حامله، حازم، ذو ضربات رصينة وموزونة، وموجعة أحيانًا. تصدر الكلمات عن شعب اكتفى، ولم يعد يفهم ”إيه العبارة؟“
في مسرحية المحطة للأخوين رحباني، تدخل فتاة اسمها وردة إلى بلدة وقف فيها الزمن فتماثلت الأيام وماتت الأحلام، وأصبحت زراعة البطاطا تختصر كل نشاطات أهلها. تزرع وردة في أذهان سكان القرية حلمًا بذكرها أن محطةً وهميّة قائمة فوق حقل البطاطا، وأن قطارًا سيصل إليها في أي لحظة.
في أغنية الدبكة المفعمة بالحيوية هذه، من كلمات وألحان الأخوين رحباني والتي ظهرت ضمن أحداث المسرحية، يُذكر القطار اللي بـ “يجي بلا خط” كأحد العجائب الكثيرة التي يمكن أن تحل في هذه البلدة، المتضمنة لقطع اشتراكات التليفونات بدون فواتير وإنذارات، والسهل الذي يتحول إلى مطار (يعتقد البعض أن هذه إشارة إلى طائرات صبري حمادة رئيس المجلس النيابي وقتها، التي كانت تهبط في مزارع الحشيش خاصته للتصدير)، وأن لا تحصد ما زرعت “زرعنا دوّار الشمس طلع قنبز وسواجير”. في النهاية، يتضح أنه طالما حصلت كل هذه العجائب، قد يصل بالفعل قطار بلا خط، ووصل بالفعل ونقل السكان البائسين إلى عالمٍ أوسع وأكثر حركة.
شهد صيف عام ٢٠١٣ سلسلة أحداث دموية توزعت بين مصر ولبنان وسوريا ممهدة لوأد مناخ الأمل الذي ساد مع بداية الانتفاضات العربية عام ٢٠١١. في آب / أغسطس ٢٠١٣، نجحت مشروع ليلى في جمع التمويل المطلوب لإطلاق ألبومها الثالث رقصوك، فأصدرت أول أغنية منفردة قبل إطلاق العمل كاملًا، سبق أن قدمتها الفرقة سابقًا تحت عنوان سوسن. جاءت الأغنية الجديدة بكلمات مختلفة كليًا تدعو أن “نكون صامدين خلال هذه الأوقات العصيبة”، كما يذكر التعليق المكتوب بالإنجليزية في رابط الأغنية على اليوتيوب.
عام ٢٠١٥ خرجت مظاهرات إلى الشارع اللبناني بعد أزمة النفايات. حاول الفنانون مواكبة الثورة والخروج بأغاني حماسية، لكن باءت معظم المحاولات بالفشل، في وقت طفت على وجه هذه الصحراء أغاني الراب. في هذه الأغنية تكلم الراس وبوناصر الطفار عن التعامل الوحشي للدولة اللبنانية مع المظاهرات، كفحوص البول التي أجريت للمعتقلين من المظاهرات: “بنعمل فحص البول / بس هني اللي تحتون شخّوا”، كما حوّل الراس صوته إلى وحش يطارد الرؤساء ويعد لهم الدقائق قبل سقوطهم: “ساعتك تك تك تكت.” تكوّن فيديو الأغنية من لقطات المظاهرات في ساحة رياض الصلح، خاصةً أعمال الشغب والهروب من قنابل الغاز المسيلة للدموع.
https://youtu.be/kD2wBnjoOdo
ربما أفخم أعمال القائمة موسيقيًا، باللحن المهيب منذ البداية، الحامل لروح الأناشيد الشيوعية الحماسية الروسية ولصوت الدبكة اللبنانية، بانسجامٍ عجيب يليق بواضع اللحن ومغنيه زكي ناصيف. بالإضافة إلى ذلك، يعود جزء كبير من الدفء والأمل اللذَين تبثهما الأغنية إلى أداء ناصيف في عامه الثانية والسبعين وقتها (١٩٨٨)، الذي بدا وكأن انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية قد بث فيه الشباب من جديد، فلم يبدُ العمر على أدائه، بينما ظهر بشكل محبب في خامة صوته، مانحًا إياه مهابة ووصاية تجعل حلم الأغنية أقرب من مجرّد حلم.
قال أحدهم عن الأحداث اللبنانية الأخيرة “اليوم انتهت الحرب الأهلية.” ربما تناسب هذه الأغنية واقع اليوم أكثر مما فعلت وقت صدورها.