.
ما العمل؟ لا شيء. هكذا يجيب الكسالى أو أولئك الذين سئموا أثقال العمل وجدواه، ولهم في الحياة فلسفة جديرة بالاهتمام قوامها التسكع والاستلقاء في عرض الشمس والتفكير بلاشيء. نرصد لكم قائمة من الأغاني تقف على النقيض من دلي الشيكارة وأناشيد الأممية العمالية.
نشأ الجراري في حي باب الجزيرة، أحد الأحياء الشعبية في تونس العاصمة. اقترب من عالم الغناء مبكرًا حيث تمرّس على الموشحات القديمة واختلط بموسيقيين مغمورين من أقرانه. انضم إلى فرقة موسيقية للأعراس يقودها عازف قانون يهودي. كان يشتغل نهارًا ويغني ليلًا، فعمل كبائع تبغ ومساعد مطبخ واشتغل بأسواق المدينة العتيقة في تونس.
كتب الجراري وغنى في العديد من المواضيع المجتمعية والظواهر المنتشرة، وظلت أغانيه حاضرة في الأهازيج والمناسبات التونسية لما احتوت إيقاعاتها وكلماتها على بساطة ملفتة. اشتهر كذلك بأغانيه النقدية الساخرة التي تناول فيها مشاهد من الحياة اليومية التونسية، من أبرزها القسم على الله من الكريطة التي ذاع صيتها في الخمسينيات بتونس، التي يسرد فيها الجراري وقائع معاناته مع الكريطة العربة التي يجرها الباعة ويتذمر من عمله اليومي المنهك. مع أغنية أنا مدلل سيدي الناس، انتقل الجراري إلى مرحلة قصوى من التذمر حيث بلغ به الأمر مبلغ الدعوة إلى العزوف عن كل أشكال العمل والاحتفال باللامبالاة المطلقة: “أنا مدلل سيدي الناس، والخدمة ما نجمهاش” أنا المدلل بين الناس، والعمل لا أستطيع إليه سبيلا. يستعرض الجراري الأعمال التي عُرِضت عليه وبقي في كل مرة يرفضها، مستعينًا بأعذار شتى مردها إما عيوب جسدية يختلقها ويبالغ في تصويرها كاريكاتوريًا، أو لنواقص يراها هو دون غيره في هذه الأعمال، فيعرض عنها لمجرد ذكر اسمها.
يجتمع أحمد غولي مع رفاقه من فرقة دجماوي إفريقيا بأحد موانئ الجزائر ويبدؤون في أداء لحن على إيقاعات الشعبي الجزائري فيه نفحة ريغي، ليدمجونها فيما بعد بالقنبري والمندول وآلات إيقاعية لموسيقى الغناوة. يغني أحمد عن يوميات زوالي جزائري الزوالي كلمة متداولة في المغرب الكبير تعني بسيط الحال في حيّه الشعبي ويسرد قصة حبّه المستحيلة مع حبيبته الثرية في مقارنةٍ تدفع إلى البكاء والضحك معًا: هي عايشة في الريش وأنا عشايا حشيش وبواشيش أي هي تعيش في سعادة ورخاء بينما أنا عشائي حشائش وحمص.
أغنية حشيش وبواشيش تكاد تكون نشيد المتسكع الجزائري الذي احترف الجلوس تحت الحيطان والتبزنيس (المعاكسة)، يحلم بالهجرة إلى خارج الجزائر، ويقضي يومه غير عابئ برفض طلبات الشغل ليغرق ليلًا مغيّباً بسكرة الخمر أو نشوة الحشيش.
كتب الروائي المصري ابراهيم أصلان رواية مالك الحزين التي تحولت فيما بعد إلى الكيت كات، أحد أهم منتجات السينما المصرية. لعب محمود عبد العزيز دور البطولة كالشيخ حسني، رجل فقد زوجته وبصره وعمله وبقي ليعيش في حي الكيت كات مع أمه العجوز وابنه. يرصد الشيخ حسني يوميات الحي وقصصه الخلفية، لتبتلعه عوالم السمر الليلي عن طواعية في محاولة منه لنسيان هموم حياته القاسية بعد أن باع منزله ولم يجد ابنه شغلًا إثر تخرجه، فيدمن على الغناء والحشيش. أغنية يللا بينا تعالوا تنطق بلسان الشيخ حسني لتلخص فلسفته الحياتية القائمة على ترك كل المشقات والانطلاق نحو آفاق اللذة والخيال: “يللا بينا تعالوا نسيب اليوم في حاله، وكل واحد منا يركب حصان خياله”، ليتخلص من أثقال هذا العالم وسجنية المكان والزمان: “هانهرب مالنهارده ونهرب مالمكان ونطير نطير نطير” وكأنه يقول صراحة: امرح لدنياك وكأنك تموت غدًا، وانسى آخرتك وكأنك تعيش أبدا.
الشيخ حسني نموذج لشخصية كثيرة الحضور في السينما المصرية، خصوصًا تلك التي تحتفل بالحياة في تجرد من كل انضباط أو فرط تعلق بالعالم المادي، كشحاتة أفندي (فريد شوقي) في فيلم السقا مات لصلاح أبو سيف الذي ترك سبيل الأعمال الجادّة وأخذ من اللذة واللامبالاة طريقًا في الحياة.
ترأس محمد القبانجي الوفد العراقي في المؤتمر الأول للموسيقى العربية سنة ١٩٣٢، ونال بإجماع الحاضرين لقب أفضل مطرب وقتها. أدّى القبانجي أبوذية خذ من العيش، والأبوذية نوعٌ من أنواع الشعر الشعبي ينظم في الأحزان والمصائب. رغم هذه الخصوصية إلا أن النص يحيل إلى اغتنام فرص الحياة تجنبًا من تقلبات الدهر: “خذ من العيش واغنم من زمانك ما صفا، فما كل وقتٍ دهرنا بمساعد”. الدعوة هنا ليست ضربًا من الزهد المتكلف، بل هي إقبال على الحياة وإن كانت النبرة مسجعة بالحزنيات العراقية التي نتلمس حضورها في عديد الأنوع الشعرية والغنائية.
في أواخر التسعينيات، ظهرت في تونس فرقة موسيقية تتجرأ على نصوص موغلة في العبثية واللامبالاة وتغامر بالتجديد. اسم الفرقة نشاز. لم يكن هيكل قيزة واسكندر بوعصيدة قد أسسا الفرقة لغرض الدعابة، بل كانت موقفًا ضد تمزق العالم وتخرّب جمالياته الانضباطية.
في أغنية الشمس زارقة (أي ساطعة)، اقتبس الثنائي اللحن عن أغنية سَن إز شايننغ لبوب مارلي. من خلال النص العامي، يرصد هيكل واسكندر جماليات اللامبالاة التونسية التي طبعها المزاج المتوسطي للبلد بانفتاحه على حوضي البحر، لتتشكل بذلك الشخصية التونسية الكسلانة التي تقضي نهاراتها في الاستلقاء في عرض الشمس والاسترخاء لساعاتٍ طويلة في المقاهي مع الخوض في مواضيع سريالية بنبرة الجاد كتحليل مباريات كرة القدم وأحوال الطقس. أعادت نشاز رسم تلك الملامح في الشمس زارقة، التي كانت بالفعل نشيد الاحتفاء بالتفاصيل البسيطة في لذة قلق موسيقيّة: ريح الشهيلي عندما تهب، صوت الباب عندما يطرق، وقارورة البيرة التي تنتظر: “الشمس زارقة والطقس حلو، مبنك في السقيفة والنسمة خفيف. الشمس زارقة والطقس حلو، كعبة فرشكة تستنى فيا.”
انطلقت مسيرة رضا بن الحاج خليفة الذي عرف باسم رضا ديكي نسبةً إلى أغنيته الشهيرة ديكي ديكي أواخر السبعينيات. حافظ الفنان الساخر على تهكمه الغنائي وجديته اللحنية طوال رحلته. في كالزربوط الزربوط هو البلبل الدوار أو الخذروف، وهو لعبة شعبية تونسية يمسك فيها الصغار البلبل بخيط طويل ويلقونه بسرعة لولبية ليبقى يدور على الأرض، يتغنى رضا ديكي بيوميات شاب كسول يستيفظ صباحًا وكل همّه التفاصيل الدقيقة وكيف يغتسل ويبحث عن نعله. لا شيء يتغير من حوله. نفس التفاصيل ونفس التقاليد الصباحية. ذات الطريق المسلوكة ونفس الحيطان التي يتكئ عليها. الحافلة تتأخر كالعادة. “كالزربوط اللي يدور بلاش خيوط”، هكذا يصف حاله إذ يظل في حركةٍ عبثية دائرية حول محور اللاشيء، لا شغل لديه ولا هم ولا مشاكل. حياته حركة ميكانيكية تنطلق من النوم نحو صباحات كسولة ويوميات تتكرر بنفس سير الأحداث وتواترها. كالزربوط هي أغنية العبثيين الكسالى التي تمجّد عدميات الفراغ.
“الفقر جميل وأنا إنسان طول عمره الفقر مهنيني، اللهم إفقرني كمان اللهم اغني عدويني”. هكذا يغني المونولوجيست والممثل الكوميدي اسماعيل ياسين في فيلم صاحب العصمة الصادر سنة ١٩٥٦ للمخرج حسن الصيفي. الأغنية من تأليف فتحي قورة واشترك في تلحينها كلٌّ من عطية شرارة ومحمود الشريف ومنير مراد. في هذا الفيلم، قام اسماعيل ياسين بدور رجل فقير تحسّنت أوضاعه المادية فجأة بعد زواجه من امرأة ثرية (تحية كاريوكا) اشترطت أن تكون العصمة في يدها، أي أن تطلق متى شاءت.
طوال مسيرته السينمائية، رسّخ ياسين -المكنى بأبو ضحكة جنان- صورة المتسكع فقير الحال الذي لا يسعه أي انضباط لرب عمل أو مؤسسة (مثل فيلم اسماعيل ياسين في الجيش). مونولوج الفقر جميل لا يبتعد عن فلسفة اسماعيل ياسين الكسلية التي سخر لها شخصياته السينمائية التي تقمصها، فالعمل ليس بالضرورة طريقًا لصنع الثروة في صاحب العصمة، إذ هنالك حتمًا مسالك أقوم ليست بالضرورة شاقة ومتطلبة.
في مقهى تحت السور بحي باب سويقة الشعبي في العاصمة تونس، تجمّعت زمرة من المبدعين الشبان، شعراء وموسيقيين وكتّاب وناقدين، لتنطلق أهم حركة ثقافية فعلية في تونس في الثلاثينيات، سميت بتحت السور. تقاطع أفراد الجماعة في نفس الهواجس بعد الحرب العالمية الثانية واشتركوا في نفس البيئة التي كانت مظالم الاستعمار الفرنسي خانقة لمعالمها. كان الفنان الساخر وعازف الناي صالح الخميسي أحد رواد هذا المكان. نشأ الخميسي بسوق سيدي بلخير في حي الحلفاوين، انضم إلى جمعية الرشيدية للموسيقى العربية وبدأ بأداء المعارضات الغنائية وتقليد الفنانين ليمر إثرها إلى مرحلة أكثر نضجًا مع علي الدوعاجي وحسين الجزيري، من تحت السور أيضًا، إذ نظما له أزجالًا وأغانٍ خاصة. استمر الخميسي على نهج النقد اللاذع والساخر، وهو ما كلّفه حرمانه من حضوره في الإذاعة بسبب سكتشاته وأغانيه السياسية، فالتجأ إلى بيع الفحم وسرد معاناته في أغنية تدوير الدم ولا الهم التي يحتقر فيها حاله بشكلٍ فكاهي عندما كان يبيع الفحم حتى يجد قوته. الأغنية تعبر بقوة عن الانحدار المعيشي ورفض الأعمال الحرة التي يلتجئ إليها المرء. الخميسي الذي كان في قمة مجده مغنيًا وفكاهيًا، رفض وضعيته كبائع فحم وصوّر نفسه بشكلٍ كاريكاتوري عن مسيرته المتقلبة: “تدوير الدم ولا الهم، مالفن لخدمة الفحم.”