.
في حزيران/ يونيو 2014، سيطر “تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشّام” على مدينة الموصل، واحدة من أكبر المدن العراقيّة. وعلى وقع هذه المفاجأة، بدأ العالم ووسائل الإعلام الدوليّة بالانتباه إلى تنظيم “داعش”. ومع إعلان “الخلافة” وتجلّي قدرتهم على تحقيق انتصارات حقيقيّة على الأرض، توقّف الإعلام عن التعامل بسخرية مع التنظيم الذي بات يهدّد شكل العالم كما عرفناه لسنوات.
على خلاف التنظيمات الإسلاميّة المتطرفّة الأخرى، ومن بينها القاعدة، يبرز تنظيم “داعش” على أنّه واحد من أقل التنظيمات الإسلاميّة إنتاجًا نظريّاً. فمحاولات العثور على تأصيلات شرعيّة لأفعال التنظيم لن تقود إلّا إلى مؤلّفات مختصرة للغاية، يعنى العديد منها بتكتيكات خوض المعارك، وأصول التفخيخ وصنع القنابل وغيرها من الأمور التقنيّة العسكريّة.
ومع ظهور المحاولات الكثيرة في تحليل التنظيم بأدوات دينيّة وسياسيّة واجتماعيّة، إلّا أنّنا، أيضاً، بحاجة إلى الاستماع والتعرّف على هذا التنظيم من داخله، وطرح التساؤلات الجوهريّة حول ماهية “داعش”، وما الذي يهدف إليه، وكيف يعمل. وعلى الرّغم من قدرة أي محلّل سياسي الإجابة على هذه الأسئلة، إلّا أنّني أحاول في هذا المقال تجنّب اليقنيّات السياسيّة تحديداً، والذهاب بدلاً من ذلك إلى تحليل خطاب التنظيم من خلال ما يفرجه هو عن نفسه. وذلك بالتركيز على “أغاني” التنظيم فقط.
حكم الموسيقى في الإسلام المعاصر
قبل الحديث عن أغاني “داعش”، سأقوم باستعراض بعض الآراء الفقهيّة السلفيّة بمدرستيها المصريّة والسعوديّة – والتي أتت داعش كتطوير كارثي لها- فيما يتعلق بالموسيقى. ففي مصر، يقول الباحث المصري عبده موسى حول رأي السلفيّة بالموسيقى: “الجدل حول الموسيقى أبعد من وقتنا هذا بكثير جداً، وهو جدل متّصل طوال عصور الاسلام، جدل قديم، وأمر خلافي حتى داخل البيت السلفي (..) وبين العلماء الكبار، لكن متشدّدي الحنابلة ونجوم السلفيّة في فضائيّاتنا – يحدّثون الجماهير العريضة – فيصرّون على أن الأمر محسوم، ويفسقون من يقول بغيره.”.
بينما يتبنّى محمد حسّان، المنظّر الأعلى صوتاً والأكثر انتشاراً، رأي تحريم الموسيقى والالآت الموسيقيّة صراحةً، ذاهباً إلى أبعد من ذلك في تحريم الإنشاد الديني الذي يعتبره إهانة لله وللنبي. ويجد من بين أسباب قوله بالتحريم “إحساسه بالغيرة على النساء عندما يسمعن أي غناء وأي موسيقي باعتبارها استثارة لشهواتهن”.
وفي السعودية، أجابت “الهيئة الدائمة للإفتاء”، أعلى هيئة إفتاء في البلاد، على سؤال حول احتفالات الزفاف بالآتي: “أمّا إذا كان إعلان النكاح بما لا يجوز شرعًا؛ من ضرب الرجال بالدف، ورقص رجال أو نساء، أو عمل تمثيليّات، أو استعمال آلات لهو؛ كأجهزة الموسيقى وسائر المعازف، فذلك غير جائز، ولو كان كل من الرجال والنساء على حدة”. لكنّها تفرّق بين الأغاني والأناشيد الدينيّة، فتقول في فتوى أخرى: “يجوز لك أن تستعيض عن هذه الأغاني بأناشيد إسلاميّة فيها من الحكم والمواعظ والعبر ما يثير الحماس والغيرة على الدين ويهز العواطف الإسلاميّة، وينفّر من الشّر ودواعيه، لتبعث نفس من ينشدها ومن يسمعها إلى طاعة الله وتنفر من معصيته تعالى، وتعدي حدوده إلى الاحتماء بحمى شرعه والجهاد في سبيله. لكن لا يتخذ من ذلك وِرْداً لنفسه يلتزمه، وعادة يستمر عليها، بل يكون ذلك في الفينة بعد الفينة عند وجود مناسبات ودواعٍ تدعو إليه كالأعراس والأسفار للجهاد ونحوه، وعند فتور الهمم لإثارة النفس والنهوض بها إلى فعل الخير، وعند نزوع النفس إلى الشر وجموحها لردعها عنه وتنفيرها منه”.
تقودنا هذه الآراء الفقهيّة الاجتهاديّة إلى التساؤل حول ماهية الأغنية الإسلاميّة، وإذا ما كانت هناك أصول لها، وبالتالي: خصائصها.
ظهرت الأغنية الإسلاميّة الحديثة مع الجهاد الأفغاني مطلع ثمانينيّات القرن الماضي، وخاصة مع ذهاب الآلاف من المجاهدين العرب للجهاد في أفغانستان- بدعم من الدول العربيّة والولايات المتحدة- ضد الاتحاد السوفييتي. ومع تطوّر هذه الأغنية، صار بالإمكان الحديث عن نوع فنّي داخل الأغنية الإسلاميّة تحت عنوان فضفاض آخر: الأغنية الجهاديّة، والتي تطورت كثيرًا، بدورها، في فترتين: فترة الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى، والتي برزت فيها حركة المقاومة الإسلاميّة “حماس”. وعلى الرغم من أن الحركة ومناصريها أنتجت العديد من الأعمال الغنائيّة امتزج فيها البعد الوطني بالبعد الإسلامي للقضيّة الفلسطينيّة، إلّا أنّه من الصعب وسم ما انتجته الحركة في تلك الفترة بـ”الأغنية الإسلاميّة” إلا عند مقارنتها مع ما كانت تنتجه فصائل منظمات التحرير من أغانٍ. لكن، ومع بداية التسعينيّات، برز مهرجان “الأنشودة الإسلاميّة” والذي كان للحث على الجهاد نصيب وافر من أغانيه. وفي مكان آخر، ومنذ منتصف التسعينيّات، انتشرت الأغنية الجهاديّة الشيشانيّة التي تتغنّى ببطولات المجاهدين الشيشان في حربهم ضد الروس، سواءً الشيشان أبناء البلد أو المقاتلين العرب الذين انضموا إليهم.
ومن بين الأغاني التي ظهرت وقتها أذكر هذين المثالين:
ظهرت هاتين الأغنيتان وغيرها في سلسلة “جحيم الروس” التي انتشرت بين الشباب في تلك الفترة بشكل كبير بالتزامن مع انتشار الأقراص المضغوطة (CDs) للترويج لـ”بطولات” المقاتلين وخاصّة العرب منهم، وعن الأذى الذي يتعرض له المسلمون في الشيشان. توسّعت، في تلك الفترة، الأغنية الجهاديّة والأنشودة الإسلاميّة بشكل كبير جداً، لتفرخ الظاهرة عشرات الفرق مختلفة المناهج والتوجهات الدينيّة والأشكال “الموسيقيّة”. لتبرز بينها سلسلتان جهاديتان على امتداد سنوات التسعينيّات، وهي: سلسلة “قوافل الشهداء”، وسلسلة “حيّ على الجهاد” بأيقونتها “سنخوض معاركنا معهم”.
لعلّ احتلال العراق كان لحظة فارقة في تاريخ الأغنية الجهاديّة، لتظهر عشرات منها لتحثّ الشعب العراقي على مقاومة الاحتلال، خاصّة بعد سقوط النظام. حثّت تلك الأغاني- في البداية على الأقل- على مقاومة الاحتلال الأميركيّ والوحدة الوطنيّة. وإن كان بعضها تغنّى بحزب البعث، فأغلبيّة تلك الأغاني اندرجت تحت تصنيف الأغاني الوطنيّة. وفي الفترة التالية، “تطيّفت” الأغنية الجهاديّة، وبات لكل طائفة أغانيها. لتتحوّل مواضيعها من التغنّي بمقاومة أبناء الطائفة المعيّنة للاحتلال، إلى التغنّي بتنكيل كل طائفة بالأخرى، واستحضار “جرائم” الطائفة الأخرى.
هدأ صخب الأغنية الجهاديّة قليلاً مع لحظات الهدوء التي سادت المنطقة مع حصول الاستقرار الأمني في العراق، خاصة بعد ما بدا أنّه قضاء على تنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين”. إلى أن عادت وبرزت على الساحة من جديد مع الثورة السوريّة 2011، متّخذة نفس مسارها في التسعينيّات. لتنتقل من الأغنية الوطنيّة والهتافات والأهازيج إلى أغانٍ جهاديّة صرف مع البدء بتسليح الثورة وبروز الجماعات الجهاديّة، وتحوّل البلاد إلى ساحة صراع دولي تضم العشرات من التنظيمات المقاتلة ذات الآيدلوجيّات المختلفة.
أما المرحلة الأخيرة التي أريد التركيز عليها، فهي مرحلة “تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام” (داعش). وفي المادة التالية، سأحاول قدر الإمكان شرح صفات الأغنية الجهاديّة في مرحلة “داعش” وأهدافها، وأشكالها.
مقدّمة: ما هي “داعش”؟
بعد الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، وبعد الفوضى العارمة التي تسبب بها العدوان وهدم الدولة العراقيّة، دخلت القاعدة من ضمن من دخل إلى العراق ليطلق على هذا الفرع العراقي “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” بزعامة أبو مصعب الزرقاوي. ثم تم تغيير الاسم إلى “دولة العراق الإسلاميّة”. امتد حكم هذه “الدولة” إلى عدّة مدن عراقية سنّية، ولكنه لم يستمر طويلاً، إذ قامت الحكومة العراقيّة المرتبطة بالاحتلال بتشجيع قيام ما سيطلق عليه بـ”الصحوات”، وهي قوات من العشائر السنيّة عملت على تقويض دولة الزرقاوي الذي اغتيل في حزيران/ يونيو 2006. وبعد العام 2011، تواجد تنظيم القاعدة بشكل كبير في سوريّة، وانضم إليه آلاف المقاتلين من مختلف أنحاء العالم، حتى بات اليوم يشكّل تنظيماً مسلّحاً يقدّر عدد أفراده بالآلاف، وتمتد سيطرته على مدن كبيرة في العراق وسوريّة، وتم تحويل الاسم، مرة أخرى، إلى “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام”.
ما يميّز هذا التنظيم، وعلى الرغم من تنظيمه الهرمي، أنّه وكما الأصل الذي أتى منه، القاعدة، يعمل بلا مركزّية ومرونة عجيبتين: فيكفي أن تنتمي مجموعة ما إلى الفكر الذي يؤمن به التنظيم، ويقرّر رفع السلاح ومبايعة “الخليفة” حتى يصار إلى اعتباره جزءًا من التنظيم حتى وإن لم يلتق أفراد الجماعتين إطلاقًا. هذه النقطة، بالتحديد، ساعدت وتساعد على انتشار التنظيم. ومن يتابع أخباره سيرى أن تنظيمات متشددة في مناطق مختلفة من العالم بايعته مثل: “أنصار بيت المقدس” والذي ينشط في منطقة سيناء، والذي غيّر اسمه مؤخرًا إلى “ولاية سيناء”. إضافة إلى تنظيم “أنصار الشريعة” في ليبيا، ونوعاً ما “بوكو حرام” في نيجيريا، و”جماعة أبو سيّاف” في الفلبين، وكذلك “حركة التوحيد والجهاد” في مالي.
أما عن علاقة هذه المسألة بالأغنية الداعشية فهو أن داعش ليست بحاجة إلى شركة إنتاج أغان لنقرّ بداعشيّة هذه الأغاني، فيكفي أن ينتمي مناصر ما للتنظيم ولو في أقاصي الأرض ويقوم بنشر أغنية تدعم التنظيم لتعتبر هذه الأغنية داعشية، ويصار إلى تحليلها على هذا الأساس.
نماذج على الأغنية الداعشيّة
سأقوم هنا بالتعامل مع ثلاثة أنواع من الأغنية الداعشية: الأوّل، وهي التي ظهرت في التسجيلات الرسميّة الصادرة عن التنظيم، مثل تلك التي ظهرت في “لهيب الحرب” و”على منهاج النبوّة” وغيرها. والثاني، الأغاني التي أصدرتها “مؤسسة أجناد” والتي تكاد تكون فرعاً إعلاميّاً للتنظيم، منها: صليل الصوارم، لنا المرهفات الغضاب البواسم، بان الطريق ولم يعد محظورًا، وغيرها. والثالث، وهي الأغاني التي كتبها وألقاها مناصرون للتنظيم ومؤمنون به من دون أن تربطهم به علاقة حقيقيّة، منها: مهرجان الدولجية، يا رايح على الشام سلملي على الدولة، بو بكر يا بغدادي يا مرهب الأعادي.
قبل الشروع في محاولة تحليل كلمات الأغنية الداعشيّة لا بد من الإشارة إلى أن أغنية “داعش” هي كما باقي أغاني الحركات الجهاديّة والثوريّة، تحمل نفس الخصائص الترويجيّة القتاليّة، تمامًا كما للجيوش أغانٍ وأهازيج، وكما للدول وخصوصًا العالم-ثالثيّة أغانٍ، وحتى أقوى الجيوش في العالم لديها أغانيها الخاصة بها، والتي يمكن من خلالها قراءة عقيدتها العسكريّة، ومنطلقاتها، وربما سلوكياتها. ففي الوثائقي الشهير الذي أخرجه مايكل مور “فيهرنهايت 9/11“، تعرض أغنيتان كان الجنود الأميركيّون يستمعون إليها في دباباتهم أثناء اجتياحهم للمدن العراقيّة، وهي:
خصائص الأغنية الداعشيّة
أولاً: بين الفصحى والعاميّة
على الرغم من أن معظم أغاني التنظيم وخطابات قادته والمتحدثين باسمه كانت بالفصحى، إلّا أن العاميّة، وخصوصاً اللهجة اليمنيّة كانت حاضرة وبقوة في الأغاني التي تنسب إليه. وهذا يدلنا على الأماكن التي ينتسب إليها العديد من أنصار التنظيم وأعضائه. كما أن في استعمال العامية مؤشرًا على تساهل ما يمارسه التنظيم السلفي الذي يرى في العاميّة خطرًا على لغة القرآن الفصيحة. كما أنه من الممكن ملاحظة أن اللغة الفصحى التي يستعملها التنظيم هي لغة تكاد أن تكون متحفيّة، في تأكيد ربما يكون غير واعٍ على هوية التنظيم السلفية المنتمية إلى عالم آخر غير عالمنا، على الرغم من استعماله لأدوات حداثيّة.
كما أنه من الجدير بالذكر لدى الحديث عن “المرونة” التي يبديها التنظيم تجاه اللغة المستعملة في أغانيه أن نشير إلى أن القوالب التي تؤلف فيها قصائده تنوعت وتعددت ما بين الحداء والزامل إلى أن وصلت أخيرًا إلى موسيقى المهرجانات الشعبية الشائعة في مصر.
ثانياً: الفجور في الخصومة
يستعمل التنظيم الأغنية بشكل عام للتهجّم على خصومهم، ولتعداد أولئك الخصوم وبيان “كفرهم” وعمالتهم للغرب الكافر والحكام المرتدّين بحسب وجهة نظرهم. ويمكن ملاحظة أنّه كلّما اقترب الفصيل الخصم من الآيدلوجيّة الداعشيّة-كالنصرة على سبيل المثال- تبدو قيمة العنف أكبر، والحقد أعنف، وتزداد الرغبة في إخراج الفصيل من الملّة والقضاء عليه.
ثالثاً: البحث عن الشرعيّة
يحاول التنظيم عبر شتى الوسائل والأساليب الحصول على الشرعيّة. لذلك لا تتوانى أغانيه عن تشبيه مقاتلي التنظيم بالصحابة في الشجاعة والإقدام. وذلك كما يسعى للحصول على شرعيّة جهاديّة عن طريق ربط نفسه بتاريخ “القاعدة” وعمليّاتها الكبرى مثل عملية ضرب البرجين. ولأسامة بن لادن حضور صارخ في خطاب التنظيم، وربما يمكن فهم هذا في إطار تخلّي منظّر تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري عن “داعش”، كما يمكن قراءة محاولة البحث عن الشرعية في إطلاق أسماء بعض القيادات الجهادية “الكبيرة” على معسكراتهم التدريبية.
رابعاً: تقديس القائد
تتضّح هذه السمة في كثرة ذكر “الخليفة” البغدادي في تلك الأغاني، إضافة إلى إظهار مشاعر البهجة لحظة إعلان الخلافة، ومن بينها: رصوا الصفوف وبايعوا البغدادي. وكما هو واضح من عنوان الأغنية فإنها تدعو إلى بيعة البغدادي، أمير العراق والشام، وتحذر من خيانة الخليفة أو عصيان أوامره، مذكّرة بحادثة التفاف خالد بن الوليد على المسلمين في معركة “أحد”. وكذلك نرى هذا التمجيد في أغنية “أبا بكر البغدادي، يا مرهب الأعادي“، وإغداق الأوصاف عليه، والنيل والتنكيل ولو بالكلمات بخصومه ومنافسيه وأعدائه. وكذلك في أغنية يا عاصب الراس وينك.
خامساً: العنف الشديد
عند الاستماع إلى أغاني التنظيم لا تمكن إلّا ملاحظة العنف الموجود في الكلمات، إذ أصبحت كل مرادفات الذبح مناسبةً للذكر في الأغاني. وربما يتم استعمال هذا الأمرين لأحد سببين أو لكليهما: الأول لإرهاب الأعداء بالذبح والنحر والسلخ والتفجير، والثاني الرغبة في مخاطبة مناصري داعش وتعبئتهم معنويّاً. وإن كان العنف من سمات الأغية الحربيّة عامّة، فإن العنف الموجود في أغنية داعش يكاد يقارب العنف الذي تمارسه داعش مع مخالفيها.ففي أغنية “قريباً قريباً ترون العجيبا”، نراهم يقولون: “إليكم سنأتي بذبح وموت، بخوف وصمت نشق العرى”. وفي موضع آخر من ذات الأغنية يقول المنشد: “إذا الكفر ماج وأرغى وهاج، ملأنا الفجاج دمًا أحمر”. وفي أغنية أخرى يتوعدون أهل الجزيرة قائلين: “أهل الجزيرة إذا جينا، الذبح و(السّلخ) بأيدينا.”
سادساً: التضخيم
من المفهوم، من وجهة نظر محايدة، أن تقوم الأغنية الحربيّة بتعظيم الإنجازات الوطنيّة وتحقير العدو. لكن، وكما هو كل شيء آخر في داعش، فالمبالغة أسلوب حياة، ولذلك نلاحظ في خطاب التنظيم مبالغة في حجم قوّاته وإنجازاته، وتفاصيل عن دوسهم لجيوش أميركا وأوروبا، وإقامتهم لنهج الشريعة، وقضائهم على خصومهم من الشيعة والأكراد وغيرهم. ومن الأمثلة هذه الأغنية المالكي غداً مقهور. وربما من الممكن أن نفهم عملية التضخيم هذه في سياق أزمة الشرعيّة التي يعاني منها التنظيم، كما يلجأ إلى استعمال المظلوميّة الإسلاميّة وخطاب “تداعي الأمم على المسلمين”. الأمر الذي يظهرهم على أنهم الفرقة الناجية المنصورة المشار إليها في الحديث النبويّ (1).
سابعاً: الاستعلاء على الآخر
يمكن وصف “داعش” بالتنظيم اليميني الفاشيّ، يرى أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، ولا حقيقة سوى ما يؤمن به هذا التنظيم، ولذا كان من الطبيعي أن يسيطر الاستعلاء على خطاب وسلوك عناصر وقيادات هذا التنظيم. ويمكن قراءة هذه الخاصية في أغنية “يا عاصب الراس وينك”، سابقة الذكر، والتي يقول فيها منشدهم “حنا على راس قمّة، وردي عليكم مذمّة”، والحقيقة أنه لا آخر في نظر داعش، بمعنى أن كل ما هو ليس بداعش من العاملين بالشأن العام إنما هم مجرد مرتدون دمهم حلال.
خاتمة: مهرجان الدولجيّة
ما يفزع فعلاً في أمر “داعش” هو أن الانتماء إلى هذا التنظيم متاح جدًا في الوضع العربي الحالي. فبعد انتصار الثورة المضادة، وإجهاض حلم فئة لا يستهان بها من الشعوب العربيّة بالعيش والحريّة والعدالة الاجتماعيّة، إضافة إلى التواجد الأميركي الصّارخ في المنطقة، والإهانة المستمرة للرموز الإسلاميّة، ومواصلة الحكومات لنهج الإفقار والتجهيل، والانقسام الطائفي والجرائم التي ترتكب بحق من لا يملكون، كل هذا وأسباب أخرى غيرها، تدفع ودفعت شبانًا كان يعوّل عليهم للتغيير الإيجابي نحو حضن “داعش” وأشباهها. فعند الاستماع إلى هذه الأغنية التي ربما ألفت وغنيت في جلسة حشيش تقليديّة، يروّج بها الآن على أنّها واحدة من أكثر الأغاني الداعشيّة دموية . وإن كان المتطرفون المتدينون يرعبون العالم، فالمنضمون إليهم من فاقدي الأمل غير المتدينين ربما يكونون أكثر خطرًا انطلاقًا من نظريّة تقول أن حتى المتطرفون الدينييون لديهم وازع ديني ما، أما فاقدو الأمل المنضمون إليهم فربما يكون هذا الوازع مفقودًا.
وبالعودة إلى أغنية الدولجيّة، والتي تغنّى على نمط الغناء الشعبي المصري الحديث جداً والمسمى بالمهرجانات، تمكن ملاحظة أن الأغنية إضافة إلى دمويتها، فإن فيها أمرين يستحقان أن ينظر إليهما بكثير من العناية:
أولاً: يمكن بجلاء أن نلاحظ كمية الحرقة الموجود في الكلمات، “شبابنا انخنقوا خلاص”، “سلميّة ماتت خلاص”، و”حنحرر بلادي”، “قضانا الشامخ حط علينا”. ولا يمكن بحال أن يتم فصل هذه الكلمات عمّا يجري في مصر منذ 30 حزيران/ يونيو 2014، الأمر الذي ربما دفع شبابًا نحو أحضان القاعدة وداعش لاحقًا. خاصة باستغلال التنظيمات السلفيّة الجهادية للانقلاب للتأكيد على عقيدتها السابقة باعتبار الديمقراطية كفرًا ومنظومة غير صالحة للعالم الإسلامي. (2).
ثانياً: نقرأ في كتب علم نفس الجماهير، بل وربما في مقدمة ابن خلدون، عن ولع المغلوب بتقليد الغالب، وعن احترام “الجمهور” للمنتصرين، حتى وإن كان هذا المنتصر مجرّد ميليشيا ذات سلوك لا أخلاقي. هذه الروح المعجبة بانتصارات داعش موجودة بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى في الدول التي ذاقت نار التنظيم، وفي المهرجان أعلاه محاولة للاحتفاء بإنجازات داعش، وإعجاب صريح ذو صبغة مراهقة بالقوة التي يظهر عليها التنظيم.
شهد هذا الجزء من العالم على مرّ التاريخ قيام عشرات الدول المؤقتة على شاكلة داعش كان مصيرها جميعاً الاندثار. وتلاشت بعضها حتى من دون أن تترك ما يذكّر الأجيال التالية بها. لكن ربما من حسن حظ تنظيم داعش أنه قد جاء العالم في زمن اليوتيوب، ولذا فإنه وعلى الرغم من إرادة كارهيه وأعدائه سيعرف طريقه نحو الخلود، بأغانيه وتسجيلاته وخطب قادته. صحيح أن هذا كله لن يقيه من فنائه المحتوم، لكنّه على الأقل سيترك للأجيال القادمة فرصة الاستفادة من هذا الإرث، ليتناولوه بالدراسة والتحليل، على أمل حماية الأجيال التالية من خوض هذا النوع من التجارب المدمّرة مجددًا.
المراجع
(1) “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة” قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: “من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي” وفي بعض الروايات: “هي الجماعة” رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
(2) صنم العجوة الديمقراطي لأيمن الظواهري