.
“إذا كانت اليونان تموت، فلتمت بسرعة؛ فإن طالت سكرات الموت ستوقع ضجّة كبيرة“
–من حوار في فيلم “تحديقة عوليس” للمخرج ثيو أنجيلوبولص
لم يعد هناك معنىً. كل الحقائق التي نعرفها إمّا أجبرنا على مقاومتها، أو الانتقام منها بالتأويل. لم تعد هناك حريّة: نحن نعيش في شكلٍ متوتّر للسياق التاريخي، ننجرّ خلاله من “صراع للحريّة” إلى صراع مع “أشكال الحريّة” وحرّاسها. لم يبقَ لدينا إلا التأويل الشخصي.
الاستماع إلى مقدّمة أغنية “قوافل” من أسطوانة “مكان” لكميليا جبران: دقيقة و46 ثانية، هي تجربة مماثلة. ما فعلته كميليا أنها اشتغلت على قطعة كاملة، واختارت أن تغيّب أو تُسكِت نوتات معيّنة. بمعنى أن تدخل من نصف نوتة معيّنة صامتة إلى نوتة هزيلة أخرى.
مثلاً: عندما تدخل إلى نوتة جديدة في الثانية 00:49، فهي تكون قد دخلت من منتصف القطعة الكاملة– التي تمّ تغييب ذروتها، إلى نوتة أخرى.
اختيار الخضوع إلى تغريب الصوت وتكتيمه هو خيار شجاع بامتياز. أن تختار مواجهة العالم الخارجي بشكل يوميّ هو خيار غير واعٍ ارتبط زيفه بالوقت الذي تحتاجه لهذه المواجهة. واتخاذ ذراع غير ميكانيكيّة في الكتابة أو اللمس أو الألم، هو أمر يعجز عنه ملايين سائقي سيارات التاكسي في المدن الباردة.
استنحرت كميليا خياراتها الميكانيكيّة واليدويّة من خلال تجربتها الموسيقيّة: في سبيل الوصول للذارع غير الميكانيكيّة، اتّخذتْ ذراعاً ميكانيكيّة. في سبيل الوصول للهيكل الموسيقيّ الشرقيّ الحار، غيّبتْ أولاً المكان الذي نشأت فيه، والأشخاص الذين ارتبطت بهم وعملت معهم، ونجاح فرقة “صابرين” الذي كاد أن يفرّ من الاستهلاكويّة التجاريّة– وانتقل إلى الاستهلاكويّة النخبويّة.
في مقدّمة “قوافل“، يتم الاستغناء عن الارتجال لمصلحة ميكانيكيّة الأداء. ليس لدى الميكانيكيّة الحساسيّة الكافية لتخريب الزمن الرقمي المتواصل كالسّلطة. بينما يتفلّت الارتجال على قوالب مهدّمة، وأنصاف نوتات، ونوتات تخرّب ما قبلها، ولا تلقي بالاً لما بعدها.
الهفوات، هنا، مغفورة. والزمن يبدو– بقوسه البعيد– مبتوراً. وعندما يؤدّى المقطع مرّة أخرى، يبدو الزمن أبديّاً.
الانكسار المتعمّد للنوتة، وتغييبها بهذه السهولة والسلاسة، يشير إلى الاختلالات في هذا السياق الإجباري للتاريخ. حيث لا تفرّق اليد العصبيّة على العود بين ربع النوتة، أو غيابها. بين منزل متهدّم، أو منزل مهجور. بين استشراف كارثة، أو حدوثها.
إلى أن تبدأ بغناء كلمات فاضل العزّاوي: “(..) أرض رمال داكنةٍ تتموّج أسفل الوادي، حيث الوحشة بفناراتها المهجورة، تلقي بظلالها فوق قوافل سائرة إلى متاهاتها. أرض محروقة بعيونٍ من جمرٍ، تقود خطانا أبداً: نحن الماضين إلى مدن المستقبل“.
هنا ينفضح الزيف، والإيمان المطلق ببداية ونهاية حتميّتان، في القطعة الكاملة، وتتخفّف من الثرثرة الحرفيّة، وفضول القطعة الكاملة المزيّف. بالتالي: إهمال الزمن اليوميّ: “الحياة المزيّفة“، وتدخل إلى القطعة الكاملة من المنتصف، أو من زوايا ميّتة تماماً.
التعامل مع الأيام على أنها قطعة واحدة، وصراع واحد يفسد القلق ويزّيفه. ربّما إذا قررنا أن نراكم الحطام، وأن ندفن الجثّة بأكثر من طريقة، والاقتصاص بمقاومة العواصف الرمزيّة، نصل إلى التخفّف من فضول الحياة الواحدة المدفوعة باتجاه حتميّة الحريّة.
ذلك لن يحصل.
نحن نخطو، بثقة، من كارثة إلى أخرى. لأن الاستبداد لا يبدأ بالنموّ إلا في نهاية الغضب.