.
عادةً ما يتم تضمين التهويدات في إصدارات العمل الإثنوغرافي الميداني. هذه التسجيلات تخبرنا أحياناً ما هي الأغاني التي كانت تغنّيها أم أو جدة الشّخص الذي نسمعه يتحدث في التسجيل، ثم أيّة أغاني قاموا بغنائها بأنفسهم بهدف تهدئة أطفالهم. تتطابق الحالات السابقة واللاحقة كثيراً، وبشكل متساوٍ تقريباً. إذ أن التهويدة خيط يروي الاستمراريّة اللغويّة.
يتم تقديم التهويدات عموماً كقطع صوتيّة منفردة. لكنّها، رسميّاً وعمليّاً، أغاني مزدوجة الصوت– أقرب إلى شكل القرار والجواب– من حيث أن أغنية الوالدة هي استجابة منتبهة إلى نداء طفل. لكن بدلاً من أن يكون الجواب صدى للصوت الأول، أو النصف الثاني من أداءٍ مزدوج، يقصد جواب الشخص البالغ إلى تهدأة الطفل. في حين لا يعد بكاء الطفل مؤهّلاً كلغة، يأتي الجواب، الذي يحدثه، كبلورة دقيقة من القيم الموروثة منذ وقت طويل في العادة. ماذا الذي يمكن أن يكون أكثر تأسيسيّاً من حالة الطفل النفسيّة، التي لا تزال تحت التشكّل، أكثر من التطمينات الأموميّة؟ تترّسخ التهويدات وتصبح بنيويّة، منقوشة بعمق، ويتم ترديدها بسهولة في أوقات الشدّة.
كل هذا يحدث في مرحلة التكوين التي يبدأ فيها الطفل بالتفرقة ما بين جسمه الخاص وجسم أمه. وبعد فترة قصيرة، يبدأ الطفل بإدراك علاقة اعتياديّة: حيث يبدأ بكاؤه بجذب اهتمام الآخرين، ويصبح الطفل واعياً بالعالم الخارجي وبمقدرته على التأثير عليه. وكما يسبق البكاء الكلام من ناحية النمو، لا عجب أن أشكالاً لاحقة من الغناء والكلام تحمل أثر البكاء المبكّر– في عودة إلى أبكر شكل من تأكيد الذات صوتيّاً، كاحتجاج فعال، لطرد التوتّرات الداخليّة.
رغم غموض التهويدات الموثّقة في التسجيلات الإثنوغرافيّة، من النادر سماع تهويدة يكون فيها صوت الطفل مسموعاً. في العادة يكون صوت امرأة وحيدة. وفي كثير من الأحيان: صوت امرأة كبيرة السن تتلو التهويدة من الذاكرة، وحيث يمكن استنتاج وجود الطفل، وحيث تخاطب الأغنية شخصاً غائباً، ويلوّن الطفل بنوع من الحب البعيد. ومثلما تلوّن قراءتنا للتهويدة غياب الطفل، جاعلاً منها أقرباً لتذكّر باكتشافات الأمومة، عن شعور القرب ما بين أمّ جديدة وطفلها، يشكل وجود الطفل أيضاً الأداء. وهو أداء ثنائي في وقت المفاضلة، حيث يبدو كل مقطع لفظي مغنّى وكأنه يتجاوز أنماط الاستقبال التي نربطها بالاستماع إلى الموسيقى، ويتحرّك مباشرة ليدلّك أعصاب الطفل المشتعلة.
أصدرت وزارة الثقافة المصريّة الأسطوانة التالية عام 1970، بعنوان بسيط هو: “موسيقى مصر الفلكلوريّة“. توثّق هذه الأسطوانات رقعة واسعة من التاريخ الشفوي المصري والممارسة الموسيقيّة. وتعدّ مثل هذه الوثيقة، لمجموعة تسجيلات مسجّلة خارج الاستوديو، والمدعومة حكوميّاً والمنتجة محليّاً من قبل دولة عربية، حالةً نادرة. وفي مثل هذه الحالة، تدلّ ربّما على فترة القوميّة العربيّة/ المصريّة أثناء حقبة عبد الناصر. ومع أن تاريخ التسجيلات غير موثّق، إلا أنّه يبدو أنّها أنتجت في الستينيّات أو السبعينيّات.
عند الاستماع إلى التسجيل في خضم المنعطف التاريخي الراهن، حيث تعيد القاهرة تثبيت نفسها كمركز ثقافي وسياسي للشعوب الناطقة بالعربيّة، يصبح من الصعب عدم قراءة بعدٌ مجازيّ لهذه التسجيلات، يخصّ المخاطر السياسيّة المعاصرة: طفل مصري يصرخ، يمنح صوتاً للاضطّراب الذي يشعر به، ونحن متروكون لنفكّر بما ستكون عليه النتيجة – كيف سيسمع البكاء؟ هل سيسمع كتذمّرات، أن تُسكت، ويلقى لها بالاً بشكل سطحي فقط؟ أو هل ستكون قوّة تعيد هيكلة الدولة وقيمها؟
في افتتاحية الأسطوانة، يسمع المرء طفلاً يبكي من مسافة قريبة، كما لو أن الصوت يصدح في آذاننا من فوق كتفنا. وهذا ما يدلّ، من خلال موضع المايكروفون، أن مسجّل الصوت يضعنا، نحن المستمعين، في مكان الأم، بينما تغنّي مبتسمة ومنتعشة وبنبرة دافئة. يمكن سماع الأمّ وهي تلاعب الطّفل برفعه لأعلى ولأسفل، وهي تنقر بقدمها، بهدف إخراج الطفل من حالته هذه. بحلول وقت بكاء الطفل للمرة الثانية بين ذراعيها، يخرج صوتها بعيداً عنّا إلى المدى، كما لو كان أسفل رواق، بينما يبقى المايكروفون موجَّهاً إلى صوت الأم التي نجحت في تهدئة الطفل.