fbpx .

أم كلثوم من الآنسة إلى السّت | الجزء الأول

فيروز كراوية ۲۰۱۵/۰۲/۱٦

تم تقديم هذه الدراسة المصغّرة في محاضرة بمتحف “أم كلثوم” تحت نفس العنوان.

الجزء الثاني نشر هنا.

أم كلثوم: من “الآنسة” إلى “الست”

الظاهرة الفنيّة وتجاوز محددات النوع الاجتماعي

“كانت تحب النساء، أعلم، ولكن ليس بالطريقة التي يلمّحون إليها، لقد فتحت عينيها على عالم حيث الرجال، كل الرجال، يشبهون والدها، بالطغيان نفسه، وبالعناد نفسه، وبحسّ التملّك نفسه، فبحثت عن الأمان في جنسها هي. وكانت تردّد على مسامع الجميع: لن أتزوج لأنّني تزوّجت فنّي، ويجب أن أكرّس نفسي لما وهبته، ولجمهوري الغيور، وبذلك كسرت العرف، وما كانت لتعرف عرفا آخر، فوجدت نفسها بلا أعراف. أيّ رجل بإمكانه الزعم أنّه قد يسيطر عليها ما دام الرجال جميعهم يرتمون عند قدميها؟ وهي، كيف لها أن تنجذب إلى رجل خاضع، في حين أن الرجولة في نظرها هي صفة الرجل الأولى؟ عبث. لذا فضّلت أن تهب نفسها للحبيب المجرّد، للرجل القابع في الظل، للتصفيق الذي يتدفق على هامتها كل مساء. لقد كانت تبذل تلك الشهوانيّة البكر، والعنيفة، التي ينضجها تبتّلها يوما بعد يوم، لجمهورها وحده، دونما مقابل. هي وحدها، الطليقة من كل ارتباط ذكري.

بكّرت إلى ذلك، في عز الصبا. ذلك أن مثال طفولتها لن يجسّده أحد سواها، وهي الآن عاجزة عن ذلك. وإذا كان لابد لها أن تكون شيئاً ما، أقول أنا، إنّها خنثى، رجل وامرأة معاً، لا جنس لها، لأنّها من الجنسين. وإلى ذلك، هي أم، لأن العبارة الأولى في اسمها: أم، أم الجميع، وأم بدون ولد. وقدّيسة أيضا لأنها تتحدر من سلالة النبيّ، وتحمل اسم واحدة من بناته. ومع ذلك هي امرأة أيضاً، بالطبع امرأة ليست لأيّ من الرجال، برج من لحم مرتعش لكنّه لا يمس. كنت أدرك أنّني أوقفت حياتي على استحالة حيّة، على إلهة خنثى، على مسخ”.

من رواية “كان صرحا من خيال (أم كلثوم)” للكاتب سليم نصيب، ويأتي هذا المونولوج على لسان الشخصيّة الرئيسيّة: أحمد رامي.

“الظاهرة الفنية الفردية من موسيقيين غير عاديين في عالم الأغنيات التجاريّة، يتخللها عدد كبير من خطوط التأثير الاجتماعي المتباينة، والتي غالباً ما تكون متعارضة، الأمر الذي يحوّلها إلى هويّة فرديّة وجماعات اجتماعيّة متعدّدة تتداخل بحيث يصعب إطلاق تسميات بسيطة مثل “فردي” أو “جماعي”. وهؤلاء النجوم جديرون، ليس فقط بمحاولة فهم الحياة التي تكمن وراء الأسطورة فحسب، بل إلى فهم الأسطورة التي تكمن في قلب الحياة”. (سايمون فيرث)

ثمّة حاجة لدراسات متعمّقة لظاهرة أم كلثوم التي لا تتكرّر كثيراً. وذلك لأنّه لا يمكن الإلمام بالظاهرة الفنيّة بكل جوانبها عبر بحث واحد أو مائة، حتى لو كانت في غاية الدقة. إذ يستمرّ إلهام الظاهرة الفنيّة لفترة أطول من عمرها الحقيقيّ، وتتجلّى أبعادها مع الزمن ومع ظهور أدوات بحث جديدة، وباحثين برؤى مختلفة. فدائماً ما يمكن رؤيتها من جديد، واستكشاف زوايا جديدة تفيدنا في قراءة الأسطورة وقراءة حياتنا أيضاً من خلالها.

لا يُدرس الماضي حبّاً في الماضي أو تقديراً له فقط: ندرسه أيضاً أملاً في المستقبل وسعياً لفهم الحاضر. فيمتدّ أثر كل ظاهرة فنيّة إلى بعدها، بطرق مختلفة، وليس بطريقة الاستنساخ، ولكن بطريقة استيعابها، وفهم علاقتها بعصرها وسياقها، وكيف تعاملت مع أزماتها، وكيف استفادت من مواهبها، وكيف استخدمت ذكاءها في التفاعل مع كل ما يدور حولها في المجتمع، وكيف جعلت فنّها مرآة لروحها، أيّ شخصية اختارت لنفسها، وأيّ اختيارات فنيّة سلكتها.

اصطلاحيّاً، يمكن تسمية أم كلثوم ظاهرة فنية. فبمقياس الزمن: توّجت على عرش الأغنية، واستمرّت في الغناء لمدة 52 عام، وهو رقم قياسي بكل المعايير. بمقياس الامتداد الاجتماعي: جمهورها عابر للأزمنة والطبقات الاجتماعية في مصر والعالم العربي كله. وبعد ما يقارب الأربعين عاماً على رحيلها، لا تزال مسموعة بنجاح منقطع النظير لأجيال لم تشهدها أبداً. وبمقياس التطور الفنّي: عاصرت نحو أربعة مراحل من الغناء العربيّ الحديث منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، تنوعت فيها اختياراتها وأداءاتها بشكل سمح لها أن تكون الأوسع إنتاجاً في كل منها. وبمقياس الإمكانيّات الفنيّة: ثمّة الكثير للحديث عنه. إضافة إلى المكانة الفنيّة والاجتماعيّة التي حازتها، والتأثير الواسع في محيطها الفني والمجتمع والسياسة.

ما يلفت نظري هنا تحديداً أن من تمكّنت من كل ذلك امرأة. وهي أيضاً، بكل المقاييس، امرأة فاق اتّساع ظاهرتها كل رجال عصرها، باستثناء محمّد عبد الوهاب. وإن كانت هذه ليست مقارنة، لأن إسهام عبد الوهاب تشعّب إلى مجال التلحين وصناعة النجوم في قسم كبير من مشواره الفنّي. ويمكن في هذا المجال أن يثور الجدل وتتم مقارنته بغيره من الملحّنين. لكن لو قورنت أم كلثوم بكافة معاصريها من مطربين لفاقتهم بكل تأكيد من حيث اتّساع الظاهرة وتنوّع محتواها وامتدادها.

بداية أود التأكيد على أن كل ما أقدمه هنا هو نوع من “الدراسة الثقافيّة” التي تسعى للاستكشاف- لا للوصول إلى نتيجة بعينها، ولكنها تطرح مناطق للتفكير فيها. الظاهرة هنا هي موضع بحث من منظور القيمة والاحترام، ولكن أيضاً من منظور تجاوز الكلام النّمطي الذي يتكرر عن أم كلثوم في كل مناسبة. فالأمم التي تحتفي بعظمائها عليها أن تدرسهم من دون خوف، لأنّهم هم أنفسهم لو خافوا لما تجاوزا محدّدات اجتماعيّة كثيرة كانت لتقف في طريقهم.

أم كلثوم في نظري واحدة من أشجع النساء الذين مرّوا على هذا البلد، وإن حاولت أن تحافظ على مشوارها الفني من دون صدامات كبرى، ولكن ذلك استلزم منها قلباً شجاعاً يدرك تماماً الأبعاد والصعوبات الاجتماعيّة التي تواجهه، ويفاوض هذه الصعوبات لينجو منها أحياناً، ويستفيد منها أحيان أخرى.

لذلك علينا أن نتعلّم منها، ولا نهابها، بل نحاول أن نفهمها، ونضع أنفسنا أحياناً في موقعها، وأحياناً في موقع النقد لها، ونعود لنستبصر ونقرأ.

النوع الاجتماعي: كيف يختلف وضع أم كلثوم كامرأة في المجال الفنّي الذي دخلته

النوع الاجتماعي هو أن تكون رجل أو امرأة بالمعنى البيولوجي- ولكن أيضاً بالمعنى الثقافي والاجتماعي. ماذا يعني في مجتمع معين أن تكوني امرأة؟ ما الأدوار المتوقع أن تقومي بها؟ ما السلوك الذي يجب أن تسلكيه وفقاً لثقافتك المحيطة ومجتمعك؟ وليس انتهاءً بكيفية التربية والتعليم والعادات والتقاليد والأمثال الشعبيّة والملابس.

امرأة مثل أم كلثوم هنا أرادت أن تعمل في مجال الغناء. فما هو متوقّع منها من نمط معيّن من الأداء الغنائيّ، والسلوك الاجتماعي، والقرارات والاختيارات. وهذا هو تحديداً ما نتحدّث عنه هنا، فكيف خاضت رحلتها؟

نحن هنا لا نتحدث أبداً من زاوية الحياة الشخصيّة، ولا يهمني الوقائع المتعلقة بها، إذ نركّز على الظاهرة الفنيّة، وكيف انعكس هذا عليها وخرج فيها، وكل ما نحاول فعله هو استنطاق هذا التاريخ الفني، وفهم مساراته وتحولاته، واستخدامه كوثيقة اجتماعيّة يمكن أن نرى كيف أثّر المجتمع فيها وتأثّر بها كما قال “سيمون فيرث”.

ما أحاول أن أفعله هنا هو رواية القصة من زاوية نظر معيّنة لحياة هذه المرأة الداخليّة، أو الأزمة المحوريّة التي صنعت اختياراتها في مشروعها الفني، وكيف صنعت فرصتها الشخصية برؤيتها لتلك الأزمة بشكل تجاوز كثير من الحدود التي كانت موضوعة لها.

الجزء الأوّل: الفلّاحة

عرف الكثير عن النشأة الريفيّة لفتاة بدأت علاقتها بالغناء بتفوّق على أخيها الذكر في مجال الإنشاد الديني، ثم تفوّق متّصل جعلها مصدر النجاح والدخل لأسرتها، الذي تجولت بسببه في أنحاء ريف مصر كمنشدة ذات صيت واسع في سن صغيرة.

يمكن تخيّل هذه البداية التي تجمع ما بين النشأة في مناخ ريفيّ محافظ وبين النبوغ الذي “يفوق التوقّع” من فتاة. كانت حياة أم كلثوم بين هذين القوسين غالباً، وفيها كانت الأزمة التي نتحدّث عنها، والتي تحوّلت في حالتها لامتياز وظاهرة. إذ تمتّعت هذه الشخصية بذكاء شديد، مكتسبةً حاسة قراءة المجتمع الذي تخطو فيه، وفهم حدوده من سن صغيرة جداً، بحكم أنّها عملت بكثافة في سنّ مبكّرة، ولكن تحت حراسة دؤوبة من أب لديه هاجس دائم وخوف مستمر بسبب عمل بنته (الفتاة)- العمل الذي يرغب دائماً في حصره داخل مجال الإنشاد الدينيّ، وبحكم أيضا أنّها جابت الريف المصري، وعرفت فئاته جميعها من الأعيان إلى فقراء محطات القطار.

لذلك، أصعب ما يمكن أن يواجه فتاة ريفيّة عالية الموهبة متقّدة الذكاء هو ذلك العذاب الكامن بين القوسين: مجتمع الرجال المحافظ الذي عليها أن تعمل بينه ومعه، وطموحها الفني والإنساني في ارتقاء المكان اللائق بموهبتها.

بين الأقواس جاءت أم كلثوم وأسرتها للقاهرة، واستقرت فيها نهائيّاً العام 1923 في فترة تاريخيّة محوريّة وصاخبة وواعدة. فالنخبة المصريّة كانت تجدّد شبابها بحثاً عن خطاب استقلال وهويّة مصري بعد ثورة الـ1919، وتعالت الأصوات التي تطالب بتحرير المرأة واشتداد الجدل حول معاني هذا التحرير وعلاقته بقيم المجتمع. لعل هذا الجدل تحديداً هو ما يهم بخصوص أم كلثوم: كيف قرأت الفلّاحة القادمة للعاصمة وللوسط الموسيقي هذه العلاقة بين عملها كمطربة وبين مجتمعها وجمهورها الذي تتوجّه إليه؟

كان الجدل على ثلاثة مستويات:

1. الجدل بخصوص التحوّل من الإنشاد الديني إلى الغناء في الأغراض المختلفة وأساسها الغناء العاطفي. وهو جدل ثار مع الأب أساساً وبتشجيع من المجموعة الداعمة والمحيطة بالأسرة في العاصمة: الشيخ مصطفى عبد الرازق (شيخ الأزهر المولع بالثقافة والفنون)، الشيخ أبو العلا محمد (معلّمها ومكتشفها الأول)، أحمد رامي (العائد من باريس بأحلام كبرى)، والشيخ زكريا أحمد.

2. الجدل بخصوص الهويّة الغنائيّة لمطربة تخرج عن تقاليد الإنشاد لمنافسة الغناء النّسائي في ذلك الوقت الذي اتّسم كما يقول كمال النجمي بطابع “عثماني وغجري”، والوعي بأن هذا الصوت المصري يحمل وعداً ببعث جديد لروح غناء مصريّة، وإن كان هذا بالضرورة يحتاج على التوازي لتشكيل شخصيّة نسائيّة تناسبه.

3. الجدل الشخصي لفتاة تخلع معطف الذكور والعقال التي طافت بهم ريف مصر، وترتدي رداءً نسائيّاً وتعصب رأسها، ثم تظهر بعد فترة أطول سافرة كاشفة شعرها. هذا الجدل الذي صاحبه صعود طبقي واضح، ظلت تلّح فيه أم كلثوم على أنه لا ينسيها أصلها الريفي الذي تعتزّ به وتحن إليه.

أنتجت هذه المكوّنات الأولى صورة “الآنسة” التي اقتحمت القاهرة، مستندةً إلى موهبتها الضخمة، ولكن أيضاً لعبت الفترة التاريخيّة، التي ظهرت بها، دوراً هاماً في استيعابها. ففتاة تريد الالتحاق بتيّار مجدّد في الفن والسياسة والمجتمع وسط بيئة محافظة هي نفسها التي لا تريد الخروج عليها أو دفع ثمن ذلك، فهي مثلاً لم تختر أبدا أن تتحرّر من علاقتها الأساسيّة بالأب والأسرة، ولا اختارت لنفسها صورة امرأة على شاكلة معاصريها من الفنانات اللاتي اهتممن بعنصر “الجمال الأنثوي” كما يعرّفه المجتمع بتناقض مستمر (لن تكن بناتنا مثل هؤلاء، لكننا نستمتع بفنهنّ وننبهر بجمالهنّ- المعادلة السائدة)، لم ترد أم كلثوم أن تخدش هذه الصورة، وبهذا المعنى كانت تريد أن تكون بنت المجتمع (التي تشبه هذا المجتمع ولا تتخلى عن تقاليده)، ولكن هي أيضا التي يحتضنها تيّار التجديد فقط احتفاء بموهبتها.

وهنا كانت الاختيارات الفنيّة هي السبيل الأوحد أمامها لإثبات هذه الموهبة والقدرة، والإعلان عن هذه الشخصية التي تحظى بالرضا الواسع وأيضا بالانبهار.

كان القرار الواضح في العشرين سنة الأولى التي تعاملت فيها أم كلثوم مع أبرز مواهب عصرها هو تكوين هذه الباقة المتنوعة بين الغناء الديني والوطني والعاطفي. وهو قرار لم تسبقها إليه أيّ فنانة معاصرة لها، وأول إعلان عن منافستها لقطب فني واحد ذكر هو محمد عبد الوهاب. إذن الرسالة الواضحة هنا هي: أنا لست ككل النساء، أنا أحمل لواء الفن للمجتمع، بقيمه وتناقضاته، باحتفائه بالطقوس الدينيّة والمشاعر الوطنية الوليدة، وأيضاً بالعواطف المشبوبة التي لا تجد متنفساً لها في المجال الاجتماعي إلا في فن الغناء والطرب والسينما بطبيعة الحال.

على هذا الدرب صنعت لونها الجديد، المونولوج الغنائي، الذي خرجت إليه تدريجيّاً من الأدوار والطقاطيق، مزيج أيضاً من الخفة والتطريب، تستعير فيه دائما لسان الرجل، لتعبر بحريّة عن نفسها ولكن بضمير الكائن المسموح له الإعلان عن مشاعره، مقابل المرأة التي لا تستطيع ذلك إلا لو وصفت بأنها متحلّلة من القيم أو “عالمة”، حتى لو كانت فنانة شهيرة ومقدّرة مثل منيرة المهدية.

في هذا التوقيت، صنعت اختيارات أم كلثوم من كلمات أحمد رامي الصورة التي استقرت عن نوعية هذه المرأة في الغناء العاطفي، فهجرت التقاليد المستقرة عن غناء النساء إلى عالم الرجال، وهو السبيل الوحيد الذي يمنحها الرحابة التي تفتقدها الفتاة في البيئة المحافظة، بحيث يصبح المظهر الذكوري هو الشكل المقبول اجتماعيًاً لاحتواء امرأة كاملة القدرة، حرة التعبير، بكل الشجن الذي يحمله ذلك لفتاة في مقتبل شبابها. ليصبح الملاذ الحر الوحيد لهذه “الآنسة” هو صوتها واختياراتها الغنائيّة، ولعل ذلك يفسّر بعضاً من أهميّة مشروعها الغنائي، بحيث يصبح فيما بعد اختيارها الذي فضّلته على كل الاختيارات الشخصيّة الأخرى، بما يمنحها من قوّة ووجود وحريّة مقابل ما تحمله المشاريع الأخرى من قمع لمواهبها أو تقييد لحريتها.

في هذه المرحلة نلمح في أداء أم كلثوم هذا الشعور بالكدر واعتلال المزاج الذي يلازمها وكأنّه يعبّر عن الوطأة النفسيّة التي تحسّها بدخولها مجال الغناء للحب، ويتوارد في الموضوعات التي تغنّيها الكلام عن الحب الذي لا يكتمل أو يرتبط دائما بالشقاء.

أمثلة على هذه المرحلة

تلحين: داوود حسني

تلحين: زكريّا أحمد

تلحين: زكريّا أحمد

تلحين: رياض السنباطي

صور الأم/ الأمّة

كانت أم كلثوم تحتاج- ربّما بصورة نفسيّة داخليّة أكثر منها خارجيّة واعية- دائماً إلى تدعيم صور مقبولة لدى المجتمع مقابل احتفاظها بحقّها المتفرّد في التمرّد علي العرف الاجتماعي بعدم الزواج، وفرض سور حديدي حول علاقتها بالرجال: الصورة الناقصة التي تثير الفضول والتساؤل حول امرأة تحيا في عالم يسيطر الرجال على مفاتيحه: فهي وحدها التي انتزعت هذه الحرية في ممارسة عملها انطلاقاً نحو نجاح مدوّي من دون أن تسمح بأن يثور جدل صحافي واسع حول حياتها الشخصيّة، كما شاءت دائماً أن يشاع عن سلوكها الشخصي كل ما له علاقة بميولها المحافظة: الملابس والصور مثلاً، وبتمسّكها بعاداتها الريفيّة داخل منزلها، وأيضاً كما ذكرنا سابقاً دعمها المستمر لخط الغناء الديني والوطني.

تقول الباحثة “بث بارون” في كتابها “مصر كامرأة متحدّثة عن الصورة التي صنعتها صفيّة زغلول لنفسها:

“أطلق المصريون على صفية زغلول “أم المصريين”، وهذا لا يعني فقط أنّهم اعتبروا أنفسهم أبناءً مخلّصين لها، ولكن لأنّها أيضاً استمدّت هويّتها تلك منهم، خاصّة عبر سعيها إلى تدعيم هذه الهوية لأنّها تلبي احتياجاً عاطفيّاً وغرضاً سياسيّاً في آن واحد. كانت تتحدث إلى جمهورها وهي “الهانم” بملابس ريفيّة، لتوحي بقدرة على استخدام الرموز، جامعةً بين الزوجة الفلاحة، والمرأة الحديثة المتعلمة، والهانم الأرستقراطيّة، بما يتناسب مع اللحظة ويرفع الدور الذي تؤديه إلى الإتقان الكامل”.

استعارت أم كلثوم شيئاً من تلك الصورة- هي التي حمل اسمها لفظ “أم”، ونسبة إلى بيت النبي محمد: شيء من نسبة جمهورها إلى نفسها ونسبة نفسها إلى جمهورها، وكأنّها لا تقدّم الغناء بصفته عملاً فرديّاً بينها وبين فريق عملها ليستقبله الجمهور، بل أصبح جمهورها بتواجده فى حفلاتها الحية، والتواصل عالي الصوت بالكلام وآهات الإعجاب والتصفيق، جزءاً من عمليّة صناعة الأغنية لمطربة نجد أن أغلب تسجيلاتها وأنجحها هي تلك المسجلة من حفلاتها، حتى أطلق على جمهورها أحيانا “بلاط أم كلثوم” من فرط التفافه حولها وتداخله مع حالتها المزاجيّة.

كان هذا الطقس شكل من أشكال كسر حاجز بين الفنانة وجمهورها يسمح لهم بالفضول: فهي منهم وهم منها، يصنعون الطقس معاً، ولأجل ذلك هي تهبهم نفسها بشكل ما، وهذه الهبة تستحق التضحية بالحياة الشخصيّة بل والتضحية بكتم الفضول وإثارة الضجة حولها.

إذن نستطيع القول أنّه لكي تكتمل حماية هذه الموهبة لنفسها، أو تحريرها لنفسها، كان تقديمها لنفسها كامرأة بصور متعدّدة تصنع معاً صورة متجاوزة للحدود الاجتماعيّة من دون أن تجرحها. فقدّمت نفسها في كل الأدوار: أم، قديسة، وأحياناً أقرب للذكورة في المظهر والأداء الصوتي لتحمي تلك المرأة الموهوبة لتجعلها تغني ما تشاء.

إذن نحن ربّما نكون أمام سعة حيلة تستخدم التنكّر والهروب من القيد الاجتماعي، شخصيّة تتحايل على المتوقّع منها التزاماً بالأعراف والتقاليد لخدمة الظاهرة الفنيّة التي تريد أن تكونها في وسط الغناء الشعبي/ التجاري/ واسع التداول الذي يفرض ما يفرض على سيّدة. وهي سيّدة تمتلك من الحس الشعبي والأرضيّة المعرفيّة ما يجعل قدمها ثابتة وهي تقدّم نفسها كأنثى بأريحيّة رجل، هذا مجتمعه الذي يعرفه جيّداً، ويعرف حدود المغامرة معه.

هذه “العصمة” أو الحصانة التي أعطتها تلك الصور لأم كلثوم هي التي سمحت لها بحدثين استثنائيين تكسر فيهما الكثير من المسموح بالمعنى الديني والعرفي لامرأة: فسارت بين الرجال وراء نعش معلّمها وصاحب الفضل الأول عليها الشيخ أبو العلا محمد العام 1927 على الرّغم من رفض أبيها. وهي أيضا السيّدة الوحيدة التي تلت آيات من سورة ابراهيم من القرآن في فيلمها “سلّامة وطرحتها “صوت القاهرة” فيما بعد في اسطوانة واحدة مع دعاء “برضاك يا خالقي“.

وتستوقفني هنا كثيراً جرأتها في تقديم أغنيات أوبريت وفيلم “رابعة العدوية”، وتحديداً اللحن والأداء الغنائي في أغنية “الرضا والنور” من شعر طاهر أبو فاشا ولحن محمد الموجي. فإلى جانب المساحات الصوفيّة في هذا العمل، صنعت الموسيقى والأداء الصوتي حالة من الفرح الصاخب الذي يكسر التقليد المتعارف عليه في تناول الغناء الديني. المدخل الموسيقي الأقرب لروح الفلامنكو الراقصة، والتصاعد الفرح والأداء المتغنّج في مقطع “والمنى قطوف في السما تطوف”. يضاف إلى ذلك، الدهشة التي تصيبني كلما تخيّلت أنها سيدة تغني عن سيدة اشتغلت بالدعارة ثم تابت، وهي في لحظة صعودها للقاء ربها، ولا يعلق في ذهني بتخيّل هذا المشهد، إلا أن حوريّات الجنّة تستقبل هذه السيّدة بدفوف وزفّة مبهجة.

المزيـــد علــى معـــازف