.
الجزء الأوّل من الدراسة نشر هنا
بانتقال السلطة في مصر إلى عهد جديد تماماً بعد تمّوز/ يوليو 1952، كانت أم كلثوم قد أصبحت مطربة مصر والعرب الأولى، وكانت قد حسمت أمرها بخصوص التجريب مع أصحاب مدارس موسيقيّة مجدّدة مثل محمد القصبجي، مستقّرة على الصيغة الغنائيّة التي لازمتها طيلة العقود التالية والتي صنعت على يد رياض السنباطي بالأساس.
كوّنت السيّدة زعامة موازية لشخصيّة الزعيم جمال عبد الناصر وقتها، والتي كانت تحرز انتقالاً جديداً في علاقتها بالصور التي تقدمها عن نفسها. فيما بدت أكثر تحرراً بعد وفاة أبيها من وجود شخص يدير شؤونها، وأكثر ثقة في تحوّلها نحو صيغة تكتسب شعبيّة عابرة للطبقات الاجتماعيّة، وأكثر ملاءمة لوسائل الانتشار الإعلامي التي باتت سائدة، مثل الراديو الذي ابتدعت من أجله صيغة الحفلات الشهريّة الحيّة. كانت أم كلثوم تستعد لتطارد ما استقر في وجدانها كطموح واحد أصيل: “المجد”.
أرادت أم كلثوم دائماً أن تكون بنت مجتمعها، ولكن مجتمعها كله، بكل تبايناته، وكأنّها تسعى ألّا تخسر منه أحداً، واستثمرت من أجل ذلك “المجد” كل هويّاتها وإمكاناتها، ووظّفت تاريخها الشخصي من الفلاحة إلى “الهانم” إلى الأم في خدمة هذه الصورة، ولكنّها أيضاً أرادت أن تصبح التعبير الأعنف عن أشواقه الجنسيّة المدفونة تحت كل هذه الهويّات، وكأنّها كانت تحمي هذا الحق بتصدير كل الصور المرضي عنها لسيّدة/ أمّة/ وطن.
هنا يدخل استلهام طبيعة الشخصيّة المصريّة في حبّها بوضوح، والتي تقول ما لا تعني دائماً، وتعرف أن العادات والتقاليد لا تتيح للحب أن يمارَس بحريّة كافية، وهي حقيقة تستحق الألم، ولكنها أيضاً يمكن أن تكون موضع للسخرية بكل ما يتيحه ذلك من تدلل (الأداء الصوتيّ) ومراوغة وسخرية، الحب المنقوص بفعل العادات الاجتماعيّة يتحوّل على يديها إلى معين للتطريب.
ليس لنا أن نتوقّع معها بحثاً عن الحب ينتهي بالسعادة، لكنها تطارد المطلق الذي يسمح بالتحليق فوق كل المستحيلات التي ندركها، خاطفةً الإنكار الجماعي لهذه الاستحالة في الحب إلى عالم فنّي مجازي بالكامل. فلا حب يشبه هذا الحب، ولا هي تريده أن يشبه أيّ شيء آخر، فلا تتحدّث عن الملموس مثل معاصريها من المطربات الأجرأ، ولكنّها تتحدّث عن المجرّد الذي لا يبقي من الحقيقة إلا الحقيقة الموجودة في صوتها حتى يصبح صوتها الملموس الوحيد.
أصبحت “السّت” هي الكلمة الأنسب للتعبير عن هذه الصور مجتمعة. الكلمة العاميّة المصريّة التي تضعها في مقام عالٍ ولكنّه قريب، كلمة تختلف عن كلمة السيّدة، فهي أقرب للإيحاء بالقوة والتحكّم أكثر منها للتعبير عن الأنوثة. ويمكن القول أيضاً أن صورة أم كلثوم غيّرت من معنى ودلالة كلمة “الست” في أذهاننا، بحيث صارت مرادفاً للمرأة التي تمتلك صفاتاً شعبيّة وقويّة تمتلك ملامحاً من السيطرة الذكوريّة.
نحن أمام “الست” التي تتجاوز وتتحدّى تصوّراتنا وتوقّعاتنا عن المطربة السيّدة، والتي تعبّر عنها بملبسها شديد الاحتشام ولكن شديد البعد عن العصر، وكأنّه يصنع لها زمناً خاصّاً يختلف عن زمن مستمعاتها اللاتي صرن الآن أكثر تحرراً في ملبسهنّ وأكثر انطلاقاً في حركتهنّ. كأنّها تصنع لنفسها عمراً ثابتاً لا يكبر مع الزمن، ولكنه يبدو أيضاً كبيراً.
إنها “الست: التي تتجاور في غنائها أشعار الخيّام، الموصوف بالمجون، مع أشعار رامي الذي يصف دائماً حبّاً كاملاً لا يكتمل أبداً، وكأنّ الحب صار هدفاً دائماً بعيداً ويستحق اللوعة المستمرّة من أجله، وإلى جانب ذلك وذاك تنطق كل أوصاف المحبوب المستحيل على لسان ذكر، فلا نجدها أبداً تتحدث عن نفسها كأنثى، بضمير أنثى. هذا الاختيار الذي يبدو لي مقصوداً، ليسمح لشعرائها بحريّة كاملة في الحديث من دون الاضطرار لتقمّص مشاعر أو حالة أنثى، أو قيود أنثى.
يدفعني هذا الاختيار أيضاً للتساؤل: هل تختلف صورة أم كلثوم لدى مستمعيها الإناث عن مستمعيها الذكور؟ أم هل تجمعهما معا في كيان واحد؟ بحيث تبدو المطربة هنا وكأنّها “صوت القدر” الذى تدخل إليه الكلمات والألحان فلا تحتاج لتمييز الأنثى فيه عن الذكر.
يدفع ما قلناه- عن صراع التكيّف مع عالم الموسيقى الذى يملك الرجال مفاتيحه، والتكيّف مع التقاليد الاجتماعيّة المحافظة فى مقابل الهويّة الشخصيّة لتلك الفنانة الأسطوريّة، وسماحها لنفسها بأن يكون فنّها موضع تحرّرها الأقصى، سواءً باختياراتها أو بأدائها الغنائي- أم كلثوم لتجاوز شروط النوع الاجتماعي. وما يجعلها تكسر المتوقع منها، أيضاً، كأنثى من ترقيق ألفاظ أو اختيار ملابس، أو اختيار طبقات صوتيّة تحتفي بالجوابات أكثر من القرارات. تجاوزت أم كلثوم كل هذا، واحتضنت بعضاً من أداءات الرجال في أدائها، مبدية عنفواناً وثقةً وقوّةً ربما تكون هي مفتاح الغواية الجنسيّة في صوتها وأدائها.
فاصل تاريخي: فات المعاد 1967
في هذا الوقت، بدأت الموسيقيّات باقتحام عالم الروك بالتوازي مع الثورة الفكريّة التي حملها الفكر النسوي آنذاك. إذ اتّهمت النظرّيات النسويّة الرجال بمصادرة موسيقى الروك لصحالهم بصفتهم أصحاب الحقّ حتّى في التمرّد على المجتمع. وإن ظهرت موسيقيّة تغنّي الرّوك، تُختصر في مجرّد عارضة شكلها جميل، بينما التمرّد والصوت العالي والبحّة الخشنة للرجال فقط.
عندما بدأت الموسيقيّات يغنين الرّوك، اهتم الكثير منهنّ بإدخال البلوز كأسلوب في التأليف مع لازمات الأغاني، وتنتهي منه لصعود أعنف وأقرب للروك التقليديّ. إذ يعتمد البلوز على النّغمات المتكرّرة بشكل إيقاعيّ معيّن، ويستمدّ تأثيره الكبير من تركه لمساحة جيشان عاطفي يحمله المغنيّة أو المغنّي.
يبدأ المقطع هنا بموّال حر- لكنّه ليس موّالاً تطريبيّاً. فنغماته محدودة وطويلة وواضحة: “الليل ودقّة الساعات/ الليل وحرقة الآهات”. في الامتدادات التي أدّت بصوت أم كلثوم- بالذات في هذه المرحلة – لأن يخرج أخشن بحّاته. بعدها جزء: “وقسوة التنهيد/ اللي/ لسّا مهمش بعيد”، في رباعية شديدة الاختزال بنغماتها، أمام شكل إيقاعيّ واضح جداً، بحيث يظهر كأنّه هو وصوت المغنيّة أقرب لحالة نحيب بلوزيّة كاملة.
بعدها يحصل التحوّل، مثلما حصل في الكلام، من مزاج البلوز للروك، أو: من “قسوة التنهيد/ اللي / وعايزنا نرجع زيّ زمان”، بتغيّر المقام، العنفوان، الخروج من النغمات المختزلة للتتابعات السريعة.
تقول الباحثة شيللا وايتلي في وصفها لتطور أداء النساء للروك في الستينيّات، مثل “جانيس جوبلين”: “وبينما أحاطت مشكلات التكيّف دائماً بهذا الوقت، إلا أن أداء النساء اتسم بالحس العالي بالهويّة الشخصيّة التي تعبّر عن نفسها بقوة في الغناء المعاصر، فهو ليس سلبي كليّاً، ولا يعبّر عن معاناة خالصة، ولا هو إيجابي أو فاعل أيضاً تماماً. ويبدو واضحاً أن صوت جوبلن يعكس نزوعاً للتطرّف في خلق تجاور/ مقابلة بين الشهوة واللايقين. ويعرض أسلوبها الغنائي الإبداعي لمواجهة؛ بالإلقاء اللاذع، والإغواء، والتداعي، والفكاهة التي تعبر عنّها غالباً تلك الضحكة الساخرة المكتومة التي تبدأ أو تنتهي بها الأغنية”.
ويبدو لي أن هذا هو الانتقال الذي حقّقته صورة “الست” الجامعة، بين ذكر وأنثى، ليس بوصفهما نوعان اجتماعيّان لكل منهما شكلاً ودوراً متوقّعاً، ولكن بصفتهما شقين إنسانيين تحتويهما امرأة واحدة تحقّق بهما هذا الانتشاء بالغناء والألم أيضاً الذي يتوافق مع هذا العذاب الداخلي الذي طبع رحلة هذه الفتاة الفلاحة من بدايتها، والذي يطبع حالة الحب الكامل غير المتحققة.
بهذه السخرية التي حملتها ضحكة أم كلثوم في نهايات المقاطع الحزينة من أغنية “هو صحيح الهوى غلاب”، الضحكة التي تأتي دائماً مع ارتفاع التصفيق والتهليل، وكأنّها تريد أن تقول أن كل ما يبدو لنا ضدّين هما متجاورين: السخرية من الحب والشفقة على الذات، صلابة الذكر ورقة الأنثى، الإحساس الكامل بالسيطرة والتحكم والإحساس بالهوان والمذلة.
كيف تنظر إليها النساء: هذه المرأة التي تقف لتعرض كل هذا المدى من الذكر فيها بأريحيّة ذكر وإحكام أنثى؟ ماذا عن الرجال؟ يسمعها كأنها رجل يتكلم على لسانه بصوت خشن عريض، بكل نوازعه في الجموح والسيطرة وكلية الوجود، وفجأة يكتشف أنها أنثى، تلك التي تمتلك كل هذا، ما يجعلها في نظره ظاهرة/ بعيدة/ غير حقيقية لأنه لا يريد أن يصدّق معشوقة له لو رأى منها كل ذلك.
رأى كثير ممن يبحثون في علاقة النساء بالتأليف الموسيقى والغناء أن النساء كان عليهن الخروج من الإطار الذي وضعه الرجال للتعبير الموسيقي. وأن تحاول المرأة البحث عن صوتها الخاص ولغتها الخاصة من دون استعارة أدوات الرجال والمكوث في فلك قوانينهم بوصفهم “الجنس الأساسي” مقابل “الجنس الآخر”. ولكنّي أرى أنّنا هنا أمام نموذج يعبّر عن نفسه من خلال تجاوز هذا الافتراض، ويتيح لنفسه استخدام جميع الأدوات لخدمة تعبيره الأقصى عن ذاته.
دفع إدراك أم كلثوم لأزمة النساء في مجتمعها، وتركيزها على صوتها ومشروعها الغنائي كمكان وحيد لممارسة تحرّرها، دفعها لمحاكاة الرجال أيضاً، دفعها لأن تريهم مشاعرهم وآلامهم في تكنيك يسميه دارسو الظواهر الثقافيّة المشابهة miming the miming، وربما تشعرهم بمدى النّقص الذي تفرضه القوانين التي صنعوها، ومن هنا يسقطون معها ككائنات ضعيفة مسحورة ومتألمة تحت تأثير هذا الأداء الذي يستخدم صوتهم، ويجعلهم ضحايا لنفس الحب المنقوص، وليسوا متحكمين كما يسعون لتصوير نفسهم في الحياة الواقعيّة.
المراجع:
(1) http://www.amazon.com/Egypt-Woman-Nationalism-Gender-Politics/dp/0520251547
(2) http://www.amazon.com/Popular-Music-Matters-Essays-Ashgate/dp/1472421795…
(3) http://www.amazon.com/Voice-Egypt-Egyptian-Twentieth-Ethnomusicology/dp/…
(4) http://www.amazon.com/Women-Popular-Music-Sexuality-Subjectivity/dp/0415…
(5) https://www.goodreads.com/book/show/5986653