.
كان دوّي الغارات يقترب ويبتعد. تتمسك أختي نادين بخاصرتي وتخبئ رأسها تحت الغطاء. تأتي أمي لتتوسطنا في السرير الصغير لعلنا نحظى بقسط بسيط من النوم في هذه الليلة الصعبة. تغني لنا بصوتها المبطّن بالحنية يلا تنام ريما. تستبدل اسم ريما بإسمي تارة وإسم أختي تارة أخرى. تغير الطائرات مجدداً هذه المرّة فيهتز المنزل للحظة ويكاد زجاج الشباك ينفجر. تشدّ نادين على يدي. تتابع أمي الغناء.
“روح يا حمام لا تصدق بضحك ع نانا لتنام”
في الصباح، راح الحمام وسكنت الغارات. لكن أحدهم إستبدل صوت القذائف بصوت الطبول على الأرجح. فقد إستيقظنا على صوت مكبرات الصوت المنبعث من سيارة ركنت على مدخل حيّنا في منطقة الشياح على مشارف الضاحية الجنوبية لبيروت. خرجت إلى الشرفة لأرى ماذا حدث على ضوء.
تفقدت المنزل الوحيد المأهول في العمارة المقابلة لبيتنا. كانت عمارة عتيقة حفرت فيها الحرب الأهلية اللبنانية فجوات ضخمة. اضطرت العائلة الوحيدة التي سكنتها أن تستبدل نصف جدار كانت قد ابتلعته قذيفة قبل سنوات ببطانية سميكة. أزاح أحدهم البطانية وخرج من ورائها رجلان وامرأة بدأوا يحيون السيارة، وكأن نشيد فرقة الولاية المنبعث منها جاء ليؤكد أنهم صمدوا وأنهم بخير.
https://www.youtube.com/watch?v=RW7XZKA4yGM
تابعت تفقد الأبنية بعينيّ والصوت يعلو اكثر بأذنيّ. كنت أريده أن يتوقف حالاً وأن أستبدله بصوت أمي. الآن وبعد مرور عشرين سنة أرتعب في كل مرّة أسمع فيها هذا النشيد بالذات ربما لأنه ارتبط في ذاكرتي الصوتية بصوت الغارات.
كبرتُ فاكتشفت بأننا في المنزل نحب السيارات التي تجوب الحي بالأناشيد الجهادية. كانت عائلتي الكبيرة متدينة جداً، تؤمن بالمقاومة الإسلامية اللبنانية وتعتبر نفسها جزءاً منخرطاً في البيئة الشعبية الشيعية لأهل الضاحية. احتلت فرقة الولاية جزءاً من ذاكرتي، خاصة في المناسبات التي تلت عمليات حزب الله العسكرية في جنوب لبنان. كان الجميع يتسمّر أمام التلفاز لنشاهد تفاصيل العمليات ويعلو صوت قناة المنار بالأناشيد. كانت فرقة الولاية الفرقة الأولى الرسمية التي غنت نشيد الحزب وأناشيد برسائل مبطنة عن الشهادة والحق.
أعتقد أنني تصالحتُ مع صوت الأناشيد قليلاً في أيار عام ٢٠٠٠. كانت قناة المنار تبثها طوال اليوم لتخبرنا أن الجنوب تحرر والإسرائيليين قد طردوا. وهذا كان يعني شيئاً واحداً بالنسبة إلي: الغارات ستتوقف وسننام آمنين. أذكر أننا بعد أسبوع ذهبنا بسيارة خالي في جولة إلى المناطق المحررة يرافقنا صوت فرقة الإسراء التي تنشد للمقاومة طوال الوقت. رغم صغر سنّي الذي لم يتعد العاشرة إلا أنني كنت أعي ماذا يعني بأننا ارتحنا من الإسرائيليين لهذا كنت سعيدة بالأناشيد.
https://www.youtube.com/watch?v=De2K79sHSvo
كانت فرقة الإسراء احدى الفرق التي واكبت مسيرة المقاومة الإسلامية في محاولتها لتسطير تاريخ هذه الانتصارات إلى جانب فرقة الولاية. فأطلقت العديد من الأناشيد التي احتوت كلماتها على حقل معجمي كامل يصب في تمجيد المقاومة ورجالها.
قبل أن نصل إلى قرية مرجعيون المحررة تتوقف السيارة إلى جانب الطريق. يترجل خالي ويشير بأصبعه إلى القرى التي تحررت والمواقع التي كان يشغلها الإسرائيليون. يحكي عن بطولات المقاومة ويرافقه بالخلفية نشيد تم دحر الصهيونية. اكتملت فرحتي بالكلمات والموسيقى العسكرية المشجعة وتلاشى الخوف. الآن في كل مرة أسمعه فيها أشعر للحظات قليلة بالنشوة التي طوّقت قلوبنا في سيارة نقلتنا إلى أراضٍ كانت تبعد عنّا مسافة مرمى حجر ولكنها كانت محرّمة.
https://www.youtube.com/watch?v=gxWW1hlFBPQ
رافقتني الأناشيد الجهادية طوال طفولتي وحتى سنوات مراهقتي. في المدرسة، الرحلات العائلية، الأنشطة الكشفية، على التلفاز، في الاحتفالات الشعبية التي كانت تقام في الحيّ. كنت أحفظها وأرددها مع أترابي. اعتبرت العائلة الكبيرة هذه الأناشيد عهد كلامي لموالاة المقاومة الإسلامية وترسيخ العقيدة الشيعية طبعاً. فالفرق الإنشادية لم تتوانَ عن زج الدروس الدينية في كلماتها.
قرر والدي وجدي النأي بنفسيهما عن كل هذا. لم يكن يعجبهما جوّ التدين. كان والدي شيوعياً قديماً ترك البندقية في أواخر الثمانينات. كان إذا ملّ من راديو صوت الشعب يقضي ما تبقى من وقت فراغه أمام جهاز اسطوانات قديم احتفظ به في غرفة الجلوس يستمع إلى مخزونه من اسطوانات البيتلز.
أما جدي، فقد أقنعه الطبيب أخيراً بالإقلاع عن المشروبات الروحية ولكنه لم يقلع يوماً عن أغاني أم كلثوم. في كل مرّة كنت أزور فيها بيته، كنت أسمع قبل أن أطرق الباب صوت الموسيقى الطربية يتداخل مع صوت صراخ جدتي التي كانت تعتبرها من المحرمات. أنا سعيدة الآن بما مرَره جدي وأبي في ذاكرتي الصوتية عنوة عن باقي أفراد العائلة من أغانٍ لأم كلثوم وأسمهان ونور الهدى والبيتلز وزياد الرحباني.
في سنوات مراهقتي وبعد حرب تموز ٢٠٠٦ وأنشودة نصرك هز الدني التي هزّت أذناي طوال فترة الحرب، توقفت عن سماع الأناشيد تماماً. كنت قد أتممت السادسة عشر وأصبح لديّ مذياع خاص وعدد لابأس به من أشرطة الكاسيت، فحققت استقلاليتي الموسيقية عن العائلة الكبيرة. وقعت في غرام شاب يكبرني بسنتين وكنا نلتقي في مدخل عمارة صديقنا لنهرب أحياناً بسيارة والده ترافقنا ألحان أغاني جورج وسوف، نهدي بعض أغاني الحب والشجن عندما نشعر بالموّدة وأغاني الكره والإنتقام عندما نتشاجر. كان كل هذا عادياً وطبيعياً جداً.
ذهبت مرّة إلى مدخل العمارة ذاتها ولم أجده، بل وجدت صديقنا يجلس وحيداً على الحافة الملاصقة للمبنى وإلى جانبه هاتف يصدر صوتاً بأنشودة حزينة جداً.
أخبرني أن الشاب الذي أحب ذهب إلى منطقة نائية ليشارك في دورة عسكرية مع المقاومة قد تستمر لأكثر من شهر وتابع :” في ناس بيستشهدوا فيها”. إتكأت على الحافة بجانبه وانتبهت إلى أن النشيد الذي يسمعه قد يفجر رأسي في أي لحظة. كان نشيد أخي سوف تبكي عليك العيون حزيناً جداً. استمعت إلى الكلمات بالرغم من رداءة صوت الهاتف وبشاعة الموقف ولم أعرف ماذا أفعل بعدها. ما إن إنتهى النشيد حتى شعرت برغبة قوّية بالتقيؤ والبكاء في الوقت عينه. عندما بحثت عنه اليوم لم أجرؤ على سماعه. اكتشفت أن فرقة الراية الإسلامية اعادت انشاده مدخلةً صوت الناي والأورغ الكهربائي وكأنها تبسط الحزن في صوت المنشد الأساسي محمود شاهين.
أذكر جيداً صوته الكئيب والكلمات القاسية التي تمجد الإستشهاد في وقت لم أكن أرغب فيه سوى أن يقول لي صديقنا إنه يمازحني وإن الشاب الذي أحبه عائد بعد قليل. لكنه لم يعد حتى اليوم. أو ربما أنا التي توقفت عن الذهاب.