.
“فجأة جدّت أحداث خارقة للعادة اهتزت لها حياة الملايين. دُفعنا إلى المجهول واشتدت بنا الهواجس وأحاسيس الفرح والأمل وفاق ما حدث كل تخيلاتنا. لقد مضى وقت طويل قبل أن أتمكن من كتابة هذه الموسيقى.” أنور ابراهم
تخلق كل ثورة أيقونتها الخاصة: صارت لوحة ديلاكروا الحرية تقود الشعب رمزًا للثورة الفرنسية، كذلك صور الشوارع الباريسية وهي تعج بالطلبة والعمال في أحداث مايو ٦٨، صورة ميدان التحرير المكتظ بالمتظاهرين، وصوَر دبابات حلف وارسو وهي تجتاح شوارع براج. يبدو أن الصورة هي ما يتبقى من الثورة حين ينحسر المد، ذكرى أو علامة أو دليل.
كما تحتاج التحركات الشعبية والانتفاضات إلى الصور كوثيقة تؤكد حدوثها، فإنها تحتاج إلى الصوت: هتافات تصدح من حناجر الجماهير، نداءات، أغاني ينشدها المتظاهرون. الصوت تجسيد للآني، للحظة في عفويتها. ربما توحي الصورة أو اللغة البصرية بأنها أكثر عالمية أو انتشارًا من الصوتي، فشعار المطرقة والمنجل أوسع انتشارًا من نشيد الأممية. لكن المكون السمعي هو الأجدر بالتعبير عن روح أي حركة جماهيرية، لأنه يتعدى الجوانب التوثيقية والتسجيلية أملًا في التعبير عن الوجدان. هنا تكمن إشكالية التعبير الموسيقي عن الثورة.
ترسم كلمات أنور ابراهم المذكورة في مقدمة المقال ملامح ألبومه استذكار الصادر عام ٢٠١٤، وتكشف عن السبب وراء فرادة الألبوم، فهو محاولة لفهم وتأمل ما جرى أثناء الربيع العربي؛ كأن الموسيقى تقدم خيالًا بديلًا قادرًا على استيعاب الأحداث الخارقة. في البداية، يفيد أن نلقي الضوء على أسلوب أنور ابراهم، كي نتبين كيف يمثّل استذكار انتفاضة ضمن مسيرة الفنان ذاته، الحافلة بالتجديد والتحديات.
بدأ أنور ابراهم، المولود عام ١٩٥٧ في تونس، تعلُّم العزف على العود في سن العاشرة في المعهد الوطني للموسيقى؛ وكان لمعلمه علي السريتي، الملحن التونسي وعازف العود، تأثيرٌ كبيرٌ عليه.
لا تتمثل جدّة أسلوب عزف ابراهم فقط في تقنية العزف، وإنما طبيعة الدور الذي منحه للعود في مؤلفاته. يؤدي العود دور البطل للجملة المعزوفة، تخدم عليه بقية الآلات، تكمله وتبرزه؛ ولا يقتصر دوره ﻛ صولو على التقاسيم كما اعتدنا في الموسيقى الشرقية. صولوهات ابراهم مرسلة، متحررة من الإيقاع ومرتبطة به في آن. يحل العود في مقطوعاته محل صوت المغني كوسيلة للتعبير الصوتي المنغّم. لذلك يعتبر تعبير جاز شرقي كصنف موسيقي يندرج تحته فن أنور ابراهم فضفاضًا. نقصد بالجاز الطبيعة الارتجالية للعزف في موسيقى ابراهم. ارتجال أنور ابراهم له طابع غنائي لا آلي، غايته التعبير الحي لا إبراز قدرة الآلة، ما يصعّب التفرقة بين التأليف المسبق والارتجال في ألبوماته ومقطوعاته.
تاريخ الموسيقى العربية حافل بالأساتذة المجددين من ملحني وعازفي العود. أتت أغلب محاولات هؤلاء الثورية في صورة تقاسيم تعمد إلى استغلال مقام معين واستكشاف كل إمكاناته، مساراته، نغماته ودرجاته. كما نسمع في تقاسيم الرواد أمثال محمد القصبجي ورياض السنباطي والتركي جميل الطنبوري. لذلك من أجل توضيح فرادة أنور ابراهم عن غيره من الأساتذة يجب أن ننتقل إلى مرحلة معينة من مسيرته التأليفية، التسعينات.
عاد أنور ابراهم إلى تونس عام ١٩٨٧ بعد قضائه ست سنوات في باريس، قدم خلالها عروضًا في مهرجانات مختلفة، كما تعاون مع مخرج الأوبرا ومصمم الرقصات المهم موريس بيجارت في إنتاج وتقديم باليه عودة إلى قرطاج. قبل نهاية الثمانينات، لحن ابراهم موسيقى العديد من أعمال المسرح التونسي، ثم افتتح التسعينات بتأليف الموسيقى التصويرية لأحد أهم أعمال السينما التونسية، الحلفاويين (١٩٩٠)، متبعًا إياه بعد سنوات بالعمل على موسيقى فيلم لا يقل أهمية: صمت القصور (١٩٩٤). في اعتقادي إن هذه المرحلة من مسيرة ابراهم أكسبت موسيقاه مكونها السردي المميز فيما بعد.
في الحلفاويين، تعبّر موسيقى الفيلم عن عالمين متناقضين، عالم النساء حيث الأنوثة والجمال والاحتفاء بالجسد، وعالم الرجال بخشونته وقسوته. موسيقى الفيلم هي الجسر بين العالمين من خلال تعبيرها عن الطفل الواقف على أعتاب المراهقة، مرافقةً إياه في تلصصه على تجمعات النساء في الحمامات العامة. تخلق الموسيقى نوعًا من التصالح الداخلي في التعبير عن العالمين، لكنها في الوقت نفسه تحاول البحث مع البطل الصغير عن معنى الجنسانية في طور تبرعمها، الطفل الذي يستكشف ذاته والمجتمع من حوله.
الالتباس والتداخل ليس فقط بين عالمَي المرأة والرجل في المجتمع التونسي، أو الذكورة والأنوثة كقطبي الهوية الجندرية، وإنما بين الذاتي والعام كذلك. فالحلفاويين هو الحي الذي ولد ونشأ فيه ابراهم، وعمل هنا على استعادته من خلال الموسيقى.
رافقت الخبرات المكتسبة من تجربة الموسيقى التصويرية مسيرة ابراهم في التأليف الموسيقي. تتمثل تلك الخبرات في القدرة التعبيرية عن المتناقضات، والسرد الموسيقي عن المكان.
تتجلى آثار تجربة الحلفاويين في ألبوم ابراهم الأول برزخ. المعنى المعجمي للبرزخ هو مكان يفصل بين شيئين، أما دلالته الدينية الاصطلاحية فتُعرّف بأنها العالم الذي يفصل بين الموت والقيامة. من التخوم الواقعة بين عالمَي الرجل المرأة في الحلفاويين إلى التخوم ما بين الموت والبعث في برزخ، يؤكد ابراهم على رغبته الحثيثة في التعبير عما تعجز عنه الكلمات؛ وكما صرح من قبل فإنه ينطلق في تأليفه من الأفكار والموتيفات، لكننا نلاحظ أن تصوراته ليست تجريدية بل أقرب إلى ذاتية مبدعها.
سمة أخرى اكتسبها ابراهم هي التعبير عن المكان بوصفه “خبرة شعورية للأفراد”، كما يبين كلود ليفي شتراوس في كتابه مداريات حزينة. مثل شتراوس، يقدم ابراهم تأملات شعرية صوفية عن المكان. يحتل المكان، كموتيفة، حيزًا هامًا في موسيقى ابراهم، سواء كان جغرافيًا كالمدينة أو الحي، أو كمفهوم مثلما توحي عناوين ألبوماته ومقطوعاته: مدار، برزخ، مقهى استراكان، عاشق بيروت، قرطبة، استراحة في جيبوتي.
بدأ أنور ابراهم بالتعبير عن حي الحلفاويين، أول الأمكنة إن جاز التعبير. جاءت الموسيقى باعثة على النوستالجيا، حنين إلى أيام الطفولة والصبا. بعدها، تعددت الأمكنة في ألبومات ابراهم، إما عبر تجليات صوفية / معرفية في ألبومات التسعينات، وإما بشكل أكثر عيانية أو ارتباطًا بالزمن وما يُحدثه من تغيرات كما في الألفينات.
في مقطوعة عاشق بيروت (٢٠٠٩)، يقدم ابراهم تصوراته عن المدينة، والأرجح أنه كتبها متأثرًا بما جرى في أحداث أيار ٢٠٠٨، ومن قبلها حرب تموز ٢٠٠٦َ، حيث بدا مهتمًا ومهمومًا بالوضع اللبناني كما نرى في إحدى مقابلاته المصورة. المقطوعة حزينة، مرثية للمدينة الجميلة التي يأبى الخراب تركها. تقدم الطبيعة التكرارية للمقطوعة، خاصة قرب النهاية، محاكاة أو موازاة مع تكرار الأحداث وإعادة سيناريو الحرب في بيروت مرة أخرى بعد نهاية الحرب الأهلية.
في فيلم صمت القصور ١٩٩٤، تجربة أنور ابراهم الثانية في الموسيقى التصويرية، يقيم ابراهم علاقة جدلية مع الصمت. يوظف صمت القصور ثيمة الصمت الناجم عن العجز والتواطؤ. من خلال حياة خادمة وابنتها، وما يتعرضان له من استغلال وقهر في أحد القصور، نلمح الشمس الغاربة للملكية في تونس، وتصاعد الاحتجاجات ومطالب التغيير. لكن القصر بعيد عما يمور به الشارع من أحداث، والتي لا نعرف عنها شيئًا إلا من خلال الراديو.
الثيمة الرئيسية في موسيقى صمت القصور مأخوذة من ألبوم ابراهم حكاية الحب اللامعقول (١٩٩٢)، وظفها ابراهم لكشف المسكوت عنه. الحدة الظاهرة في صوت الناي والكلارينيت كزفرة بوح، أو رغبة في الانعتاق من مصير مُعد سلفًا، فالابنة يجب أن تصير خادمة كأمها.
ضوء الصمت عنوان إحدى مقطوعات الألبوم. يتعامل ابراهم مع الصمت كما يتعامل النحات مع الفراغ أو المخرج السينمائي مع الزمن. الصمت مادة تتشكل منها موسيقاه، كالإيقاع والنغم والمقامات. لذلك كانت موسيقى ابراهم، رغم ندرة تواجدها خلال الفيلم، ملائمة جدًا للحالة والموضوع.
مع نهاية الفيلم، تقول الابنة المحبة للغناء إن أغنياتها ستولد ميتة، ستجهض مثل الجنين القابع في أحشائها. ربما وجد ابراهم في استذكار فرصة ثانية للتعويض عن الأغنية المجهضة لحلم التغيير. أقول ربما ظل التغيير، بالمعنى السياسي والاجتماعي، حلمًا يرافق ابراهم في حياته، ووجد في الفن غايته وميدانه لممارسة الحرية، وهي القيمة الأساسية في الفيلمين.
بعد توقيع ابراهم عقدًا مع شركة تسجيلات إي سي إم الألمانية مطلع التسعينات، استفاد من خبراته وموهبته السردية في توظيف إبداعات موسيقيين من ثقافات ومدارس مختلفة لتطوير أبعاد موسيقاه، كما في تعاوناته مع التركي باربروس إركوزه (كلارينيت) في ألبوم قصة حب مستحيلة (١٩٩١)، مع النرويجي جان جارباريك (ساكسفون) في ألبوم مدار (١٩٩٤)، ومع البريطانيَّين جون سورمان (سوبرانو ساكسفون وبايس كلارينيت) ودايف هولاند (كونترباص) في ألبوم ثمار (١٩٩٨). نجد أبرز مثال على التعاونات المثمرة في ألبوم رحلة سحر (٢٠٠٦)، حيث اجتمع ثلاثي مكون من ابراهم وعازف البيانو فرانسوا كوتيرييه وعازف الأكورديون جان لويس ماتينييه. يستكشف ابراهم الإمكانات النغمية للآلات ويخلق لغة حوارية بين الثلاثة، في بطولة مشتركة من أجل صياغة بلاغية متزنة ومؤثرة. أيضًا، يخلق ابراهم ثيمة الرحلة هنا عبر الارتحال بين أكثر من طبيعة أو روح موسيقية، بين الفلامنكو ومقاهي باريس وروح البلقان؛ كما يوحي بثيمة الرحلة أو السفر من خلال السمات التكرارية عبر أصداء إريك ساتيه التي تخللت بعض التراكات، وأضفت الأجواء الباريسية على الألبوم. كأن المسار اللحني يماثل الطريق أو مسار الرحلة.
يؤكد ابراهم على الهوية بمفهومها الفردي، فهو لا يضحي بفردية عازفيه، أو بفردانيته وصوته على مذبح التنوع أو التلاقح الثقافي. انسجام فريد بين التقاليد والتجديد، الارتجال والتأليف، وكذلك الروح الجماعية والفرد. في النهاية نتج عن التنوع والانفتاح على الآخر موسيقى لا يمكن حصرها في طبيعة أو مدرسة بعينها. موسيقى أنور ابراهم فرانكوفونية في أحد وجوهها، لكنها أندلسية وتركية وعربية في إيحاءاتها وإيقاعاتها كذلك؛ والأهم أنها بعيدة عن الطبيعة الإكزوتيكيّة المصاحبة للأعمال الفنية التي يُحتفى بها غربيًا وعالميًا.
الانطباع الأول عن استذكار أنه ليس عملًا احتفائيًا، بمعنى أن الموسيقى لا يمكن أن توصف ﺑ السعيدة أو المنتشية، إلا أن نبضاتها لا تخلو من الأمل. توحي الموسيقى بأطياف واسعة من المشاعر المتباينة. ما ابتعد عنه أنور ابراهم هو الوقوع في تعبير مرآويّ لحظي يكثف الحماس المتزايد الناتج عن الأحداث.
تعاون ابراهم في هذا الألبوم مع الرفاق القدامى: عازف البيانو فرانسوا كوترير، كلاوس جيسنج على البايس كلارينيت، وبيورن ماير (بايس جيتار). بمشاركة أوركسترا الحجرة للوتريات بقيادة المايسترو الإيطالي بياترو ميانيتي.
مقارنةً بالألبوم اللاحق مقامات زرقاء (٢٠١٨)، والسابق كذلك، العيون المذهلة لـ ريتا (٢٠٠٩)، تخلو تراكات استذكار من الآلات الإيقاعية. قبل استذكار، استعان ابراهم بدربوكة وبندير خالد ياسين، وتعاون بعده مع جاك ديجونيت على الدرامز.
تكسر الثورة الإيقاع المعتاد للحياة. يخلق تسارع إيقاع الثورة زمنًا خاصًا لها، يجعل اللحظة تفلت من بين أيدينا ووعينا. تحاول موسيقى ابراهم القبض على اللحظة قبل انفلاتها، والتعبير عن سحرها مع الاستجابة العميقة لآثارها وتحولاتها. لكن، كيف يمكن للإيقاع أن يعبر عن ما لا إيقاع له؟ أو بمعنى أدق، كيف تعبّر عن أحداث إيقاعها في تسارع إلى حد التلاشي؟ لا يحتاج ابراهم إلى ضبط الإيقاع في زمن محدد وثابت لأن الثورة قد فجرت الزمن من حولها بالفعل. تحاول ألحان أنور ابراهم تخليق نغمات في زمن متسارع. يعمد إيقاع الموسيقى إلى كسر أفق التوقع عبر توقيت النغمات المفاجىء.
تسعى الموسيقى إلى تحقيق هدفين، يبدو ظاهريًا أن ثمة تناقض بينهما: تعبر الألحان عن لحظة انقضت لكن آثارها لازالت موجودة، وتحاول المقطوعات في نفس الوقت أن تُعيد إنتاج اللحظة، أن تأسرها وتعيد تمثيل عنفوانها.
موسيقى ابراهم عصية على التصنيفات الجاهزة. في استذكار، يطور ابراهم من بنية الصنف الموسيقي ويوسع حدوده. في رأيي، لا يمكن لأي موسيقى ذات بنية تقليدية متوقعة أن تعبر عن أحداث الربيع العربي. يحتاج الموضوع إلى نوع من الهجنة والالتباس، لا بين الأنواع فحسب، بل بين الأحاسيس كذلك. في المقطوعة الأولى من القرص الأول، يوم خارق للعادة، تعبر نغمات البيانو بحضورها البارز في المقدمة عن القلق، وتخلق توترًا بخفوتها ثم تداخلها مع العود وأصوات الكمان. بعد ذلك يسرد العود الجملة مع خلفية عميقة من البايس كلارينيت والبايس جيتار، يليها ما يمكن أن نصفه باضطراب الإيقاع. يبتلع عمق البايس جيتار مقدمة الهارموني، وتتضافر ضربات ماير وابراهم مع الأزيز المتصاعد للبايس كلارينيت. للحظات، نلحظ جهارة غير اعتيادية للبايس كلارينيت، أشبه بزفرات معبرة عن الغضب، وتتصاعد حدة الوتريات كذلك. مع اقتراب نهاية المقطوعة، يتكثف الشعور بالانعتاق، ومع بروز البيانو مرة أخرى ندرك أن اليوم قد انتهى، وأن غدًا يومٌ جديد ربما يحمل نفس القدر من الأحداث الخارقة، توجس وقلق وخوف وأمل.
البداية في المقطوعة التالية سماء من رماد ليست استهلالًا، وإنما استكمالٌ ليوم مضى. نكاد نرى جمال السماء وهي تحاول أن تتجلى من خلف الفوضى والموت. ثيمة الخطر حاضرة بقوة هنا وفي أغلب تراكات الألبوم.
الخلاص عنوان المقطوعة الثالثة. كما يوحي عنوانها، فإن شعورًا بالراحة يهيمن على نغماتها، مع حضور قوي للبايس كلارينيت، كأنها تنفرد بالتعبير لتخلق الروح الراقصة للجاز مع إيقاع لاهث.
يصل أنور ابراهم إلى درجة عالية من الأسلبة، سواء في العزف أو التأليف. ينزع ابراهم الغاية التطريبية من الوجود المركزي للعود، ومن موسيقاه ككل. إنه يقدم ثيمات لا تقاسيم. لا يعوز ألبومات ابراهم السابقة الطرب بوصفه غاية في التجربة السماعية الشرقية. من هنا تتخلق الأبعاد الدرامية في مقطوعاته، حيث تعكس بنية العمل سياق الحدث الثوري من خلال الفواصل وتحولات النغم.
في مقطوعة استذكار ثمة مقاومة، ربما للنسيان أو الخوف. كأن ثنايا اللحن تُحيل إلى ذكريات بعيدة، جعلتها تنويعات ابراهم تطل بجهامة أحيانًا، وبلطف في لحظات أخرى. يصعب التمييز بين الأجزاء المكتوبة وتلك المرتجلة بين الرباعي.
يبدأ القرص الثاني بمقطوعة يناير، أفضل مقطوعات الألبوم في رأيي. تضافر حيوي بين اللحن المسبق والارتجال، وبلاغة من ابراهم في عزف العود. تبدأ المقطوعة بنغمة آسرة متكررة من البيانو، ثم لا يلبث أن يصاحبها البايس جيتار والبايس كلارينيت. في منتصف المقطوعة مساحة تعبيرية غنية للعود. قرب النهاية، نستمع إلى الوتريات وحدها بتردد أعلى، ثم خفوت تدريجي مع ضربات البايس جيتار، يعقبه تداخل قصير بين العود والكلارينيت والبايس جيتار. تنتهي المقطوعة بضربات خافتة وعميقة من البايس جيتار تتسابق مع العود إلى القفلة.
أسند أنور ابراهم إلى الآلات الوترية وظيفة عضوية في المقطوعات، تتجلى بصفة خاصة في استذكار ويناير. تقوم الوتريات بوظيفة النسيج الضام للارتجالات، أي أنها تربط وتدعم أداءات الرباعي، كما تضفي عذوبة على تفاصيل الصوت.
يلتقط ابراهم الصفة الجوهرية لأي ثورة، حيث “الثورة هي مفاجأة لا يفيد معها إلا الارتجال” كما يقول الشاعر والكاتب علاء خالد. يقبض ابراهم على تلك الصفة الارتجالية لكل من الثورة وتأليفه الموسيقي، لذلك يصير الموضوع مع المضمون والشكل والبنية الموسيقية كلًا متجانسًا. يتجنب ابراهم ما يسميه الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس بـ التناقض الأدائي، عندما تدمّر البنية الشكلية المحافظة لعمل فني قوله الثوري أو الراديكالي.
لكن لا يصنع الارتجال وحده جماليات استذكار. ألبوم ابراهم واحد من أهم الأعمال الفنية التي تناولت الربيع العربي لأنه يضفر البحث الدؤوب والمتأمل مع الارتجال. بحث عن زمن الربيع العربي المفقود، وتعبير عن التأثر الوجداني العميق بحدث جلل. ربما يرجع طول المدة الزمنية التي استغرقها أنور ابراهم لكتابة موسيقى استذكار إلى رغبته في إعادة اكتشاف الذات الفردية، كي يتمكن من التعبير عنها. فالثورة ترسم “جغرافية جديدة للمجتمع والذات الفردية. وتعين أيضًا مكان الالتقاء فيما بينهما.” علاء خالد، افتتاحية مجلة أمكنة وعددها المخصص عن الثورة بعنوان : مسارات الثورة.