أن تكون قواداً لفراشة | كندريك لامار

يبدأ بلازمة كلّ زنجي nigga نجم، وينتهي بمقابلة وهمية مركبة بينه وأيقونة راب الساحل الغربي الأميركي توباك شاكور الذي اغتيل في العام 1996. لازمة البداية من أغنية للجامايكي بوريس غاردينر تتمحور حول إعادة تعريف ايجابية لمصطلح nigga ذي المدلول العنصري التبخيسي عموماً، والمقابلة الخاتمة حول إحياء توباك رمزاً للتمرّد الأفريقيالأميركي على السلطة السياسية والاقتصادية والمجتمعية السائدة.

لم يصدر كندريك لامار ألبوماً ذا مستوى موسيقي وفنّي رفيع فحسب، بل أراده أيضاً فعلاً سياسياً صارخاً وسلسلة رسائل ودعوات منهجية وواضحة، موجّهة بلا مواربة إلى تثوير بنية المجتمع الأفريقيالأميركي في مضامير عديدة. وعلى هذين الأساسين يرتكز عرشكندريك لامار الفنّي المتجلّي في ألبوم أن تكون قواداً لفراشة.

إلا أن ما يحسم فرادة لامار وتميّزه الجليّ في مجاله يتعدّى مسألة التجديد الموسيقي الاحترافي والتضمين السياسي الفكري الذكيّ، وقد يقبع في سيره على حبل رفيع بين الفن والسياسة، فيأخذ الراب إلى كامل إمكانياته الموسيقية، ويأخذ الموسيقى إلى كامل إمكانيات تأثيرها في الشأن العام. وأيّ نوع من الموسيقى أقدر اليوم على ذلك من الراب؟

في الموسيقى: عودة إلى الأمام

كندريك والسبعون موسيقياً

بالنظر إلى لائحة الفنانين المشاركين في الألبوم، يتضّح لنا ارتباط التوجه الموسيقي فيه بشبكة تتمركز جغرافياً في الساحل الغربي ومحيط لوس انجلس (كندريك من مدينة كومبتون المجاورة). وتعمل هذه الشبكة بشكل خاص على مزج مشارب موسيقية عديدة من المخزون الأفريقيالأميركي في مقاربة تجديدية بنفس القدر، تنتج صوتاً خاصاً بها وبمرحلتها وتراكم التحولات في بيئتها.

على صعيد الإنتاج الموسيقي إذن، نواة صلبة ومخضرمة مع أحد عرّابي الساحل الغربي الغني عن التعريف دكتور دري  DR Dre في موقع المنتج المنفذ إلى جانب دار توب دوغ التي ينتمي إليها كندريك لامار.

ونعدّ من الشخصيات المفتاحية المؤلف فلايينغ لوتس  للاإنتاج Flying Lotus صاحب دار “brainfeeder” ، والذي يُشكل قطباً أساسياً لهذا التيار الفني التجديدي.

ذلك إلى كونه يمتلك رصيداً من الألبومات الراسخة في ذاكرة الموسيقى الأفريقيّةالأميركيّة المعاصرة، لم يكن آخرها ألبوم You’re dead الذي شارك في إحدى أغنياته كندريك لامار، ونجد في كواليسه عدة أسماء مشتركة مع أن تكون قواداً لفراشة.

وعلى مستوى الإنتاج الموسيقي أيضاً، نجد نخبة من أبرز أسماء المشهد الجديد في لوس أنجليس ومحيطها، مثل تيراس مارتن وثاندركات وراكي وساونوايف. لكن لائحة المنتجين الموسيقيين الـ19 المشاركين في الألبوم تتجاوز دائرة لوس أنجليس والسّاحل الغربي، لتشمل أيضاً أمثال فاريل ويليامز والكندي كوز، بالإضافة إلى عدد من العازفين المتميزين والمبرمجين ليصل مجموع عدد الفنانين المشاركين في انتاج هذا العمل إلى أكثر من 70 موسيقيّاً.

نريد الفانك

ما يجمع هذه المساهمات الموسيقية المختلفة في الألبوم، هو بالدرجة الأولى كندريك لامار الذي ينجح بلا شكّ في امتطاء كل التنويعات الموسيقية. فتراه مثلاً في أغنية for free يتبنى الأسلوب الشعري شبه المحكي أو ما يسمى بالـ spoken word، مصحوباً بموسيقى جاز مفصّلة ودافئة بصوتيات حيّة.

أما في The Blacker The Berry (كلّما ازداد التوت سواداً) فيتبنى أسلوب الراب العدائي إن جاز التعبير مصحوباً بايقاعية البوم باب boom bap الجارفة، وضاغطاً المساحة الموسيقية لا يفلت فيها من تدفقه المتصاعد إلا القليل. في المقابل، نراه في رائعة الملك كونتا  King Kunta، ينتهج تدفقاً متموجاً يحاكي حركة مشي عرجاء، على إيقاع فانك صرف من انتاج زميله في توب دوغ ساونوايف sounwave، متلاعباً بحرية أكبر بالمساحة الموسيقية (من 2:07 إلى 2:45).

ولا يغفل كندريك لامار في هذه التحولات تعويله على التنويع في صوته، والذي يتجلى في أغنية حيث يؤدي المقطع الأول بأسلوب شبه محكي مع بعض التنويعات النغمية بصوته، لينتقل إلى أداء مسرحي بصوت مخمور يبكي ولكن بتدفق مباشر ومائل إيقاعياً إلى الأمام على طول المقطع الثاني. كذلك تتحول معه الموسيقى في هذه الأغنية من أسلوب الجاز في المقطع الأول إلى أجواء الـ R&B في المقطع الثاني حيث يلفّ ساكسوفون كاماسي واشنطن صوت لامار بالدرامية اللازمة.

هكذا تمكنت شبكة فنية عريضة ومتجانسة في الوقت نفسه من أن تشكل مشهداً صوتياً وموسيقياً مترابطاً يتنوع مع ألوان كندريك لامار المتعددة من الجاز إلى الفانك والسول دون تجاهل التوجهات الرائجة في الايقاعات والتوزيعات المقاربة لنوع الـ تراب  Trap والانماط المندرجة ضمن مُسمى موسيقى البايس  Bass music.

وفيما يبدو التجديد الموسيقي عنواناً لهذا الألبوم إلا أن القاعدة الأساسية التي تربط خيوطه الموسيقية عودة إلى أصالة ما إن جاز التعبير، إلى دفء صوتيّ وانسيابية ايقاعية يبدوان كسراً للتوجهات السائدة في مشهد الراب الأميركي خلال العقد الماضي. مكونات هذه الخصوصية تكمن من جهة في الاستخدام الغالب للآلات الحية نفخية كانت أم وترية وايقاعية. وتكمن من جانب آخر، في توجه غالب أيضاً نحو ايقاعات الفانك.

فكما كانت بصمة الساحل الغربي منذ التسعينيات مستلهمة بالدرجة الأولى من الفانك، يبدو هذا الألبوم وكأنه يستعيد تلك التجربة ولكن بخلطته الخاصة وانتمائه للحظة الحالية بأدواتها ومتطلباتها. كأنما هنالك نوع من استخراج روح لخصوصية ثقافية ما عبر مقابلة تجلّيها في لحظتين زمنيتين متباعدتين، وفي ذلك ما فيه من التكريس إذ يقف كندريك لامار وسط مربع أعمدته: دكتور دري، سنوب دوغ، فلايينغ لوتس وجورج كلينتون أسطورة الفانك الحاضر رمزياً في ألبوم كندريك.

أمّا توباك الحاضر دوماً،فيبدو سقفاً لهذا المربع ونوعاً من المرجعية الروحية التي يصل استحضارها إلى درجات تركيب نقاش صوتي متقن من وراء القبر بينها وبين لامار.

هذه الأسماء كلّها لم تجتمع تحت مظلة موسيقية فنية فحسب، ولكننا بدل إحالتها إلى افتراض نية سياسية أو ثقافية عامة، نستشرف أصلاً هذا التماهي الحاصل بين المستويين، متجسداً بتوباك.

توباك هو أيضاً الجسم الرابط بين الفعل الفنّي والفعل الفكري المتمرد، متقمصاً كندريك لامار لتتشكل هنا أيضاً تلك المقابلة بين لوس انجلس التسعينيات ولوس انجلس الآن، في موقع مؤدي الراب الذي تتجاوز تأثيراته الإبداع الموسيقي إلى الريادة الاجتماعية والدفع بالتغيير تمرداً على القائم.

في الفكر: الاستقلالية المالية في خدمة التمرّد

الفراشة واليسروع

قبل أن ندخل في تفاصيل النسيج الفكري لـ أن تكون قواداً لفراشة، نتجه إلى استخراج دلالات عنصرين مهمين هما العنوان، وصورة الغلاف. في الأخيرة، نجد مجموعة من شبّان الحيّ – نتخيلهم من كومبتون مدينة لامار – في وضعية احتفالية عفوية متجمعين فوق قاض مطروح أرضاً وبجانبه مطرقته. أما خلفية هذا الاحتفال بالنصر فليس سوى البيت الأبيض، الرمز المطلق للسلطة في السياق الأميركي، بل العالمي.

الصورة ليست لثوّار منظمين مستنفرين، فهي ليست انعكاساً لانتصار فئة سياسية على أخرى، بل هي انتصار للواقع السائد على السرديات السائدة. ولا هي صورة لرئيس أميركي بلون بشرة أفريقي في البيت الأبيض، بل لنموذج مختلف تماماً يحمل نفس لون البشرة وفي المكان ذاته.

أما العنوان فدلالاته في النص الذي يبعثره كندريك قطعاً صغيرة بين أغنيات الألبوم، ليعيد جمعه في الأغنية الأخيرة. يقوم هذا النصّ مقام التاريخ الشخصي الخاص بكندريك لامار حيث يروي التسلسل التالي: بحثاً عن النجاح العملي ورغبة في اعتراك مجال الراب ينتقل كندريك لامار من كومبتون إلى المدينة المجنونةلوس انجلس، فتعتصره الظروف في المدينة ووسطها الفني لتهتز قاعدة إيمانه بفنه وثقته بنفسه، فيدخل في إحباط عميق. يحمله هذا الإحباط إلى البحث عن أجوبة، ومن ثمّ إلى العودة لكومبتون.

يقول كندريك وفيما كان أحبائي يكملون معركتنا في المدينة (معترك الانتاج الفني)، وجدت نفسي في حرب أخرى قائمة على الفصل والتمييز العنصري. جعلني ذلك أود العودة إلى المدينة لأقول لاصدقائي ما تعلمت. الكلمة هي الاحترام….إذا احترمتك سنتوحد ونمنع العدو من قتلنا“.

ينتقل كندريك من كونه يسروعاً عاملاً مهتماً حصراً بالاستمرارية وحماية نفسه، إلى المدينة المجنونة فيتمأسس ويصبح قواداً للفراشة في داخله والتي ترمز هنا إلى الموهبة. المؤسسة هي الشرنقة، التي لا يلبث اليسروع ان يختنق داخلها ويصبح سجين أفكاره فيها. ومن إحباطه هذا تولد الفراشة التي تسلط الضوء على إشكاليات وآفاق لم يكن لليسروع أن يدركها، منهية بذلك الثنائية بين اليسروع والفراشة.

من خيوط هذه الموازاة حاك كندريك نسيج ألبومه، فيروي نفس القصة عبر مقطوعات الألبوم وينتقل أغنية تلو الأخرى مختصماً مفاصل الإشكاليات العامة التي سلطت الفراشة الضوء عليها، بتوازن دائم مع كشفه لتفاصيل حراكاته الداخلية وشكوكه.

ينطلق الألبوم بأغنية نظرية ويسلي حيث يقارب كندريك لامار مسألة استغلال الفنانين الأفارقةالأميركيين نتيجة سوء إدارتهم المالية لمداخيلهم من الفن، عبر مثال الممثل ويسلي سنايبس الذي تمت مقاضاته بتهمة التهرب الضريبي. وينتقد كندريك هنا السلوك غير المسؤول لنموذج من فناني الراب بصورة خاصة، داعياً إياهم بشكل غير مباشر إلى الاستثمار في مجتمعاتهم الأصلية بدل البذخ الاستهلاكي والوقوع ضحية إغراءات الترف ومآلات الإفلاس.

أما في أغنية مجاناً التي يكرر فيها كندريك لازمة هذا القضيب ليس مجانياً، فيقلب لامار المعادلة السائدة منتقداً دور المرأة الأفريقيةالأميركية حين تكون ضحية ثقافة الترف الاستهلاكي، وتشكل بذلك عنصر ضغط على الرجل للانصياع لنفس معايير هذه الثقافة. عبر استعارته بذكاء وطرافة السردية النسوية بالمقلوب، يعلن لامار تمرّده على العضو الجنسي النسائي كورقة ضغط بيد المنظومة الرأسمالية، ويشهر عضوه الجنسي ورقة ضغط في الإتجاه المعاكس.

لكن المعنى المزدوج للأغنية يتضح أكثر حين ينهي بجملة يا أميركا، لقد عملت في حقول القطن وجعلتك ثريةّ. الآن، هذا القضيب ليس مجانياً“. أما المرأة الأفريقيةالأميركية التي يظهر صوتها في أول الأغنية كنموذج لضحية الثقافة الاستهلاكية وانعدام الرابط العاطفي، فيتبين أنها ستنادي عمّها سامليحطّم كندريك، فـ أنت لست ملكاً“.

وإذ لا يتسع هنا المجال للخوض في تفاصيل كل أغنية، إلا أننا نتوقف عند بعض المواضع التي نجدها محورية في سردية الألبوم. أغنية ممأسس  institutionalized، التي يختمها المخضرم سنوب دوغ بجملة هوليوود متوترة، تباً لك، تصبحين على خير، وشكراً لخدماتك، تعلن نوعاً ما إنقلاباً وحرباً على مراكز الثقل المتسلطة في صناعة الفنّ والثقافة باميركا.

أما أغنيتا أنتوأنافتتوازيان كمرآة، إذ يكرر كندريك في الأولى لازمة حبّك معقدمتوجهاً إلى نفسه، فيما يكرر في الثانية أحب نفسي، بعدما كرّس الصدق والشفافية في أغنية ليس عليك أن تكذب (You Aint Gotta Lie) قيمةً أخلاقيةً وضمانةً من شطط الـ أنا“.

وفي المسافة بينهما، نفس المسافة التي يرسمها كندريك بين مرحلة إحباطه في الشرنقة وذروتها المخمورة في غرفة فندق من جهة، ونقطة انبثاق الفراشة من هذا الإحباط وحلّها لتناقضاتها من جهة أخرى.

بين أنتوأنالقاء تحولي يرويه كندريك في أغنية كم ثمن دولار واحد (How Much A Dollar Cost). المشهد يدور في جنوب افريقيا، حيث يقترب عجوز من لامار متسوّلا منه مبلغاً يعادل قيمة الدولار الواحد في العملة الجنوب افريقية (رند). ينفر كندريك من الرجل الذي لا يكفّ عن الطلب، ويبرّر لنفسه أنانيته (واليسروع في شرنقته). لكنه شيئاً فشيئاً يشرع في التورط داخلياً في نقاش داخلي حادّ، يبدأ من الشعور بالاستفزاز ويصل إلى شعور بالاستهداف الشخصي. ثم يتفاجأ لامار في ذروة إحساسه بالاضطهاد من قبل متسوّل يطلب منه دولاراً واحداً، بأن هذا الأخير هو الربّ، وأنه برفضه عطاء دولار واحد قد حُرم مكانه في الجنّة.

بعدما كان لوسي” (لوسيفر أو الشيطان) والعم سامشخصيتين متكررتي الظهور في النصف الأول من الألبوم، يظهر الرب إذن لكندريك بصورة متسوّل جنوب افريقي يحرمه مقعده في الجنّة بسبب أنانيته، فيطلب كندريك منه المساعدة ويقدّم التوبة.

في كلّما اسودّ التوت، يجسد كندريك لحظة تشكل وعيه بإشكالية العنصرية تجاه الأفارقةالأميركيين وممارسات السلطة في هذا السياق، متقمصاً دور المحرض على التمرد. لكنه في الوقت نفسه يعترف برواسب التناقضات فيه إزاء هذه المعركة، بحيث أنه على يقين أن فرديته قد تدفعه في لحظة ما إلى مناقضة كل ما ينشده في هذا المجال وخاصة في ما يتعلق بتوحيد صفوف الأفارقةالأميركيين في وجه العدو“.

إعادة استملاك اللغة والثقافة

يعيد كندريك تعريف المفاهيم الخاصة بمجتمعه المقموع: يجعل من شخصية العبد كونتا كينتي المستخرجة من التراث الأدبي الأميركي، ملكاً على قومه في بيئته الطبيعية، ويرجع كلمة nigga ذات الدلالة التحقيرية إلى كلمة نيغوس بالأمهرية الأثيوبية وهي صفة ملكية في أغنية “I” (أنا).

يبعث كندريك لامار توباك أيضاً، لا لتقديمه في صورة احتفالية محاطاً بالنساء العاريات وزجاجات الكحول الثمينة، بل لتسليط الضوء عليه كمتمرّد على المنظومة السلطوية بكافة جوانبها، متوقعاً انفجاراً عنيفاً من الأفارقةالأميركيين والفقراء عموماً في وجه السلطة السائدة.

في الأغنية الأخيرة من الألبوم والتي يحتوي جزؤها الثاني على لقائه مع توباك، يكرّر كندريك لازمة عندما تخرج الأمور عن السيطرة، هل ستبقى معجباً؟“. مستعيداً شبح نلسون منديلا، وجملة من روّاد الثقافة والنضال الأفريقيالأميركي، يظهر كندريك مخاوفه من موقعه القيادي الجديد: هل سيكون على مستوى القيادة؟ والأهم، هل سيتبعه جمهوره المخلص إلى النهاية، أم أنّ سمعته ستتعرض للتشويه وتتحول إلى بضاعة إعلامية تشلّ إمكانيته على التأثير في المجال العام؟

ولكن كندريك لا يقدّر توباك لأفكاره الثورية فحسب، بل أيضاً لنجاحه في إدارة شؤونه المالية ووعيه لأهمية أن نجني الملايين لأنفسنا الآن، بعدما جنينا الملايين للآخرين“. يقدره كندريك لكونه كما يعرف عن نفسه في الحوار المركّب من تسجيل صحافي أرشيفي تم إدخال صوت كندريك إليه ليبدو أن الحديث يدور بين الإثنين– hustler، وهو مصطلح يشير إلى النجاح المستقل القائم على الالتفاف على القواعد والمعايير الثابتة المفروضة من الأعلى.

من العنوان وصورة الغلاف إلى الحوار الأخير مع توباك، والذي ينتهي بكندريك طالباً المزيد من قدوته دون جدوى، يبحث الـ ملك كندريكعن دور قيادي لتغيير ما يصبّ في مصلحة مجتمعه الأفريقيالأميركي داخل صناعة الموسيقى وفي المجتمع والاقتصاد والسياسة بشكل عام.، وينطلق لا من السياسة بل من الواقع الحقيقي لهذا المجتمع متجلياً في تعبيره الثقافي الموسيقي المتأصل. كأنه الصورة المعكوسة لباراك أوباما.

تقول سرديته أنّ الفراشة كسرت شرنقتها ولم تعد ضحية حين فتحت عيونها على أفق المجال العام ومعادلات القوة فيه، فتجذّرت في مجتمعها الأم في الوقت نفسه. لكن الشكّ لم ينكسر، وتردد كندريك وتشكيكه في قدرته على إكمال ما يطمح إليه من دور، حاضران على طول الألبوم.

نجح لامار في تحويل هذا الشك إلى مادة فنيّة دسمة، ولكنه أشار بوضوح إلى أنه لا يزال إشكالياً، أنه لم يفهم بعد معادلة مصالحته بين الخاص والعام، وأنه ينتظر مزيداً من الإلهام والتجربة.

من جانب آخر، لا يسعنا حقيقة إلا أن نرى في الحراك الأفريقيالأميركي الأخير، المتمرد على السلطة، والداعي إلى تجاوز الانقسامات الداخلية وتوحيد الصفوف لتحصيل العدالة، ما يحيلنا مراراً إلى ألبوم أن تكون قواداً لفراشة.

قد تكون إذن دورة كاملة، من الفهود السود إلى بالتيمور، من جورج كلينتون إلى بلال، من دكتور دري إلى فلايينغ لوتس، من توباك إلى كندريك لامار، لفعل استنهاض ثقافي سياسي يستكمل السير في طريق قد لا يصل آخرها. لكن يكفيه أنه أثبت فشل السلطة في إجهاضها.