fbpx .
أوطان أبوبكر سالم معازف

أوطان أبوبكر سالم

عبد الهادي بازرباشي ۲۰۱۹/۰۲/۲٦

عام ١٩٣١ قام الموسيقي الألماني هانز هولفريتز برحلة إلى اليمن، البلاد المحرمة بحسب قوله، لاستكشاف مهد حضارات أسطورية. أهم ما خرج به هولفريتز من رحلته كتابٌ عن مصاعبها نشره عام ١٩٥٨، كتب في مقدمته: “فاليمن حتى هذا اليوم، ما زالت من أصعب بلاد العالم على التسلل والاختراق.” في وقت نشر الكتاب، بدأ يبزغ نجم شابٍّ يمنيّ قد لا يستطيع فتح أبواب الأرض المحرمة للتواقين لدراسة بقايا الحضارات الزائلة فيها، لكنه سيفتح الباب التاريخي الأكبر إلى موسيقاها. لفعل ذلك اضطر الشاب لمغادرة بلاده من ربيع شبابه وحتى خريفها، حتى اعتبره كثيرون من أهلها ابنها الضال. هذا الشاب هو أبوبكر سالم بلفقيه.

تختلف الروايات حول تاريخ ميلاد أبوبكر بين عامَي ١٩٣٣ و١٩٣٩، وترجح أغلبها الأخير. لكن تتفق جميعها تقريبًا على أن بدايته في إذاعة عدن كانت في ١٩٥٦، وأن سفره إلى بيروت لأول مرة كان في ١٩٦١، وأن هناك ثلاث سنوات بين بدايته وسفره إلى بيروت قضاها في تدريس اللغة العربية، وثلاثًا أخرى في العمل في السعودية. بحسب معارف أبوبكر وأهله، كانت السعودية محطته الأولى، ثم التدريس وإذاعة عدن. إن كان ميلاد أبوبكر في ١٩٣٩، إذًا فقد سافر إلى السعودية للعمل في الرابعة عشرة، وبعدها بثلاث سنوات توجه إلى عدن وسجّل أغنياته الأولى وبدأ بالتدريس. حتى في ذلك الوقت، حين لم يكن التعليم في اليمن في أحسن أحواله، يصعب علينا تقبّل أن ما تلقاه فتًى في الرابعة عشرة من تعليم كافٍ ليصبح مدرسًا. في الوقت ذاته، يبقى هناك عامَين مجهولَي الأحداث بين انتهاء سنوات تدريسه الثلاث في عام ١٩٥٩ وسفره إلى بيروت في ١٩٦١.

إذًا، يبدو أن هناك خطأَين في الرواية الرسمية، ميلاد أبوبكر وعام بدايته، كونه لا مجال للشك في عام سفره إلى بيروت الذي لطالما أكده بنفسه إلى جانب من قابلهم هناك. أقرب خط زمني إلى المنطق هو أن أبو بكر ولد عام ١٩٣٧، أكمل تعليمه في سن الثامنة عشرة وهاجر إلى السعودية عام ١٩٥٥، هناك عمل لثلاث سنواتٍ أو نحوها، ثم عاد في ١٩٥٨ ليسجل أولى أغنياته في إذاعة عدن إلى جانب العمل كمدرّس (ترجِّح هذا التاريخ أيضًا المقابلة التي أجريت مع أبوبكر عام ٢٠٠٨ للاحتفال باليوبيل الذهبي لمسيرته)، وبعد تحقيقه نجاحًا كبيرًا في وقتٍ قياسي وجد الوقت مناسبًا للخوض في مغامرة أكبر، وسافر إلى بيروت في ١٩٦١، عاصمة الفن العربية الأولى وقتها، بحسب أبوبكر.

لحسن الحظ، ما زالت هناك تسجيلات لأولى إصدارات أبو بكر من لبنان، إلى جانب أولى فيديوهاته، والتي تُظهر أهمية رسم خط زمني واضح للبدايات. لا يمكن لمن كانت بداياته في: إيمتى أنا أشوفك، ٢٤ ساعة وتسلّى يا قليبي، من كلماته وألحانه، أن يكون المراهق الذي جرب حظه في كل مجال أمكنه دخوله حتى استقامت له تجربة، خاصةً أن خروج هذه الأعمال إلى النور سبقه ما اعتبره أبوبكر أصعب تجربة مر بها، فحين سُئل عن أصعب مرحلة في حياته بعد انقضاء الربع قرن الأول من مسيرته أجاب: “بيروت. كان صعب علَي إني أخاطب الفرقة الموسيقية لتنفيذ العمل اللي أنا أبغاه بنفسي. من ناحية تنفيذ الإيقاعات. تنفيذ الأغنية ككل. كنت أعيش في تعب وعذاب. كيف افهّمهم هذا اللون.” في هذه الأغاني أصيَع ألحان وتوزيعات وحتى كلمات الستينات على الإطلاق، بشكلٍ قد يفخر بمثله محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي؛ وفي أداءاته المصوّرة في تلك الفترة – سواءٌ في الكليبات أو على المسرح – ثقة وشغف وقيادية واضحة للفرقة الموسيقية، يصعب معها تصديق أن الموسيقى والغناء لم يكونا دومًا خطته الأولى.

لم يدرُس أبو بكر الموسيقى، لكنه كان يوزع ويلحن ويؤدي بمهارة وحساسية منقطعتَي النظير، ويقود فرقته الموسيقية. إذًا كان أبو بكر سمّيعًا مُحنكًا، وصاحب موهبة فريدة يصعُب ألا يقع صاحبها في حبها ويُحمّلها أحلامًا كبيرة، أكبر مما تتيحه عدن. ربما لم تسمح ظروف عائلته المادية بتلبية أحلامه بالسفر حيث تتواجد الإمكانيات اللازمة، فجرّب العمل في السعودية لجمع ما يلزم، وحين لم يفلح اتجه إلى التدريس، مستغلًا هذه السنوات في رسم الخطط المستقبلية لما سيجنيه بالعمل مع الفرَق الكبيرة، والاستماع أكثر لاستلهام تلك الخطط، كاستماعه لـ أنور أحمد قاسم.

هذي فضائلكم بدت أسرابا

في مقابلة على تلفزيون أبو ظبي عام ١٩٩٧، ذكر أبوبكر ربما أهم معلومة صدرت عنه في لقاء تلفزيوني، وهي تعرفه في بداياته على من يعتبره أستاذه وملهمه الأول، أنور أحمد قاسم. تكمن الأهمية في غرابة الاختيار بالنسبة لسمّيعة كبار مطربي اليمن وقتها – أي الخمسينات حين تعرف على قاسم، فقد كان هناك محمد جمعة خان، مطرب الدان الحضرمي – مكان تخصص أبوبكر – الأول، وصالح العنتري الذي اعتُبر أهم أستاذ لكل من جاء بعده، ومحمد مرشد ناجي المطرب المتمكن من كافة ألوان الغناء في اليمن أداءً وعلمًا حتى أصبح من أهم الكتاب والباحثين في الغناء اليمني، وأحمد عبيد القعطبي، الذي يعتبر بالإجماع أستاذ قاسم الأول، خاصةً بحرص قاسم على استلهام أدنى تفاصيل الغناء والعزف من القعطبي لدرجة الخلط بينهما لدى سماع التسجيلات القديمة. لِمَ اختار أبوبكر نسخةً عن القعطبي، بينما الأصل موجود؟

بين ما سجله القعطبي وأعاد قاسم تسجيله قصيدة ملك الفؤاد وقد هجر من كلمات عائشة التيمورية وألحان القعطبي (ربما الأصل هندي أو اللحن متأثر بالموسيقى الهندية). لدى مقارنة النسختَين، نلاحظ تفوق القعطبي أداءً وعزفًا، لكن أمرًا غريبًا يلفتُ المستمع ويجذبه لإعادة الاستماع في نسخة قاسم. لدى السماع بتأنِّ نجد أن ذلك الأمر هو تطويرٌ ما أحدثه قاسم في اللوازم القصيرة والطويلة، فأصبحت القصيرة أشبه بجوابٍ مبتكر للجملة المغناة، بينما لا يكتفي في الطويلة بعزف لحن المذهب أو التقسيم (البديع) كما في نسخة القعطبي، بل يضيف إليها ويفكك تفاصيلها ويعيد تركيبها. هذا مذهبُ أبو بكر الذي لازمه حتى وفاته، والذي يمكن لمسه بوضوح في حيوية توزيعاته والصولوهات البديعة في أغانيه، ما جعله يضاعف إفادته من الموسيقى اليمنية وتراثها. فقد أنتجت الطبيعة التكرارية في التراث اليمني حرصًا على أن يكون للحن المكرر جاذبية استثنائية، تجعل المستمع نفسه يطلب هذا التكرار ويذوب طربًا كلما زِيْدَ منه، ليأتي أبوبكر بذلك اللحن الملفت ويُضيف إليه حذاقته في تطوير اللوازم والتوزيع واستثمار كل آلة على حدة، فيجبر المستمع على ألّا يكتفي بالتكرار ضمن الأغنية نفسها، ويعيد الأغنية كاملةً مرارًا مهما كان طولها، كما في غزاني الشيب، يا زارعين العنب، يا مسافر، يا عين لا تذرفي الدمعة وسير وتخبر.

في حين انحلت الفرقة التي حلم بها قاسم طويلًا بعد وقتٍ قصير من تأسيسها، أصبح أبوبكر من آباء الأغنية الخليجية الخالدي الذكر.

مثالٌ آخر نجده في مقارنة أبرز ثلاث نسخ – بعد الأصل – لأغنية يا نسيم الصبا من كلمات يحيى عمر اليافعي وألحان القعطبي. سجلها بدايةً أنور أحمد قاسم، على عوده وبمصاحبة آلة إيقاع ومزمار، ثم غناها محمد مرشد ناجي على عوده مع إيقاع وناي وفرقة وتريات، وأخيرًا محمد عبده مع عود وإيقاع وكمان وأورج. بين اختيارات الثلاثة للتوزيع بقي اختيار قاسم الأبسط هو الأجمل والأكثر حيوية، إذ لا يمكن تخيل آلة تقدم ما قدمه المزمار في نسخته. بسماع المثالَين السابقَين بالإضافة إلى قد أذقت القلب وفدتك الجوانح من قاسم، ومعرفة كونه صاحب أول مشروع تحقق لفرقة موسيقية كاملة من الآلات الفلكلورية في اليمن، يمكننا أن نعتبر أن أبوبكر كرّم أستاذه وملهمه الأول بنجاحه، ففي حين انحلت الفرقة التي حلم بها قاسم طويلًا بعد وقتٍ قصير من تأسيسها، أصبح أبوبكر من آباء الأغنية الخليجية الخالدي الذكر.

غياب الدعم اللازم الذي أدى إلى انحلال فرقة قاسم مثالٌ مهم على ما كان ينتظر أبوبكر لو بقي في اليمن. لكن أبوبكر لا يُلام عادةً فقط على اغترابه، بل وعلى نجاحه. ربما يرتبط الأمر بفترة حساسة في تاريخ اليمن هي التي بزغ فيها نجمه بسرعة قياسية. ففي عام ١٩٦٢، بعد عام واحد من سفره إلى لبنان، قامت ثورة ٢٦ سبتمبر في اليمن مشعلةً حربًا استمرت لثماني سنوات وخلّفت مئات الآلاف من الضحايا. كانت تتوالى إصدارات أبوبكر الضاربة خلال الحرب حتى كُرّم عام ١٩٦٨ بالأسطوانة الذهبية من شركة أسطوانات يونانية، بعد بيع أربعة ملايين نسخة من أغنية ٢٤ ساعة.

كانت أنجح أغانيه وقتها أكثرها خفة وإبهاجًا، مثل تسلى يا قليبي وإمتى أنا اشوفك و٢٤ ساعة وشلنا يا بو جناحين ويوم الخميس. ما جعله عرضة لانتقادات الإعلام العربي بعناوينها المعتادة، والتي اعتبرت “الإسفاف والابتذال” أسباب نجاحه الأولى، متجاهلةً قدر الذكاء في دخوله السوق وقتها بأغانٍ كهذه تجمع الخفة والحداثة مع الفن الكبير، مقدمةً صوتًا فريدًا بوضوح. لنا في أم كلثوم أكبر مثال على ذكاءٍ مماثل في الفترة ذاتها، حين بدأت الشخلعة تحتل مسرحها مع ألحان بليغ وعبد الوهاب. أنمت تلك الانتقادات داخل أبوبكر إحساسًا بالذنب كبُر معه. فنجده ينتقل من “ما في شك إن الأغنية الخفيفة، لما تيجي من الشباب، ولو إنها طبعًا تنقصها الخبرة الفنية وفيها ضعف شوية، لكنها صادقة؛ ودائمًا الأغنية لو فيها صدق سواءً الشعر أو اللحن تكون أحلى. فأنا يبدو لي إن قديمي أحلى من جديدي.” في مقابلته على تلفزيون عدن عام ١٩٨٣، إلى “القديمة فيها كثير من الاستسهال والسرعة في الأداء. إنما الجديد فيه التؤدة فيه التمعّن. ما في شك إنه اختلاطي وخبرتي مع كثير من الموسيقيين العرب الأخوان علمني الكثير ولا أزال أتعلم الكثير. يبدو لي إنه جديدي أحسن من قديمي.” في مقابلته على تلفزيون اليمن عام ١٩٨٧، ثم “طبعًا مع الشبابية في هذيك الأيام في بيروت أنتجت أغاني كثيرة الآن لما اسمعها ما افرح بها. أقول يا ريت ما عملتها” في مقابلته على تلفزيون سلطنة عمان عام ١٩٩٤. ربما لهذا السبب تحوّل من ذكر أغنية يا ورد محلى جمالك (كلماته وألحانه) على أنها أولى أعماله، إلى ذكر قصيدة أقبلت تمشي رويدًا (كلمات حسن البصري وألحان أبوبكر) على أنها الأولى، مستبدلًا البساطة بالفخامة. رغم أن من عزف العود مع أبوبكر لدى تسجيل يا ورد محلى جمالك كان أستاذه وملهمه أنور أحمد قاسم.

أولئك الذين يربطون شهرة أبوبكر بالتنازل الفني في بداياته، يستشهدون عادةً بأمثال أحمد أحمد قاسم (لا علاقة له بـ أنور أحمد قاسم سابق الذكر)، محمد مرشد ناجي ومحمد سعد عبد الله، لكون شهرتهم متواضعة نسبيًا خارج اليمن اليوم؛ رغم أنهم – بحسب المنتقدين – ليسوا أقل منه اهتمامًا بجودة وحداثة ما يقدمون. تُسقِط هذه المقارنات كل ملامح خصوصية تجربة أبوبكر تقريبًا. فبدايةً بالصوت، كانت مواصفات صوت وأداء أبوبكر جديدةً كليًا، وغريبةً عن وسط الغناء اليمني تحديدًا.

احتكم للدان ولحونه

بحسب كتاب طب النفوس للباحث الفرنسي جان لامبير، اعتاد مغنو اليمن قديمًا على الغناء ضمن المساحة الصوتية التي تغطيها آلة القنبوس بأوتارها الأربعة، وهي أوكتاف ونصف، كما تجنبوا بمعظمهم – بخلاف التراث العربي في الشرق الأوسط – بلوغ الصوت ذروته والقفزات الأوكتافيّة، حتى أن بعض الباحثين أشاروا إلى أن جل الموشحات التي قدمها أعلام الغناء الصنعاني كانت تعزف باستخدام ثلاثة أوتار فقط من القنبوس، وأن ذلك بدأ بالتغير مع دخول العود الشرقي بأوتاره الخمسة في الأربعينات. على الجانب الآخر، ملك أبوبكر مساحة صوتية استثنائية، وقدرة لافتة على التنقّل وأداء القفزات ضمنها بين أخفض قرار وأعلى جواب بأسلوب أداء بارز الخصوصية، يبتعد فيه عن الاستعراض الذي تغري به قدراته ليوظّف تلك القدرات في خدمة النص، جامعًا تفاصيل الأداء اليمنية التي قد لا يُدرك جمالياتها الكثيرون خارج اليمن، إلى جانب التفاصيل الانفعالية شبه عالميّة التأثير، كهمسه شَجَنًا مرة ووعظًا مرة، وتنهيداته وصيحاته. لم يتوفر مقابلٌ لذلك حتى عند فنانين بوزن قاسم وناجي وعبد الله. ما منح أبوبكر مساحةً انفعاليّة أوسع، فأصبح من الصعب سماع العديد من أغانيه إلا منه، مثل شل صوتك وسيبوه، خاصةً مع تميز وعمق القرار عنده بحيث يشعر المستمع لدى انتقاله إلى أخفض قرار وكأن الكلمات تصدر من باطن الأرض، ويجب بالتالي الإصغاء لما يقال، فحمل أداؤه لأغاني الحكم الحياتية والشعبية شيئًا يشبه الوصاية المستحقّة.

جانبٌ آخر لا يقل أهمية في الشخصية الغنائية لـ أبوبكر هو حضوره على المسرح، والذي يستدعي أم كلثوم إلى الذاكرة مرة أخرى، لا لشبهٍ في طرق الانفعال وشدته، وإنما لقوة الأثر، وهو ما يغيب عن حضور أحمد أحمد قاسم أو ناجي أو عبد الله برصانتهم التقليدية. ينطبق ذلك على حضوره أمام الكاميرا (بمعايير ذلك الزمن)، خاصةً في أغانيه المصورة من الستينات وبداية السبعينات.

بالإضافة إلى القدرات الصوتية والأدائية، والحضور المسرحي، هناك ثلاث نقاطٍ أخرى تقدّم – مجتمعةً – أبوبكر على جميع منافسيه. الأولى اختياراته التي اتسعت لتشمل كل المواضيع المتاحة، الحب والوطن والغربة والحكم الشعبية والتراث، بمعظم اللهجات اليمنية وبالفصحى، بألحانٍ إن سلك فيها طريق الخفة تفوق على الجميع حيويةً وتفاعليّة (يا سلوة الخاطر، يا مروح بلادك، يا حامل الأثقال وفي سكون الليل)، وإن سلك طريق الفخامة التأليفية نافس أكبر موسيقيي عصره (التقينا وافترقنا، بهزك غصن القد، أعيش لك وإنتي وين). بينما غلب على ألحان ومواضيع محمد سعد عبد الله وأحمد أحمد قاسم مثلًا الرومانسية الحليمية والأطرشية (نسبةً إلى عبد الحليم وفريد الأطرش) المألوفة، والتي لم تعد الأكثر طلبًا. على الجانب الآخر نجد تنوعًا مماثلًا عند محمد مرشد ناجي مثلًا، وهنا يأتي دور النقطة الثانية. كان طموح أبوبكر دومًا يشمل ما وراء جماهير الجزيرة العربية، فإن كان النص الذي بين يديه يحتمل بعض التبسيط ليصل إلى جمهورٍ أكبر بسّطه، وإن كان محليًا قُحًّا تركه على حاله واكتفى بجاذبية اللحن والأداء، والتوزيع، وهو النقطة الثالثة وموضع تفوق أبوبكر الأهم في هذه المقارنة.

سعى كلٌّ من ناجي وقاسم وعبد الله إلى الحصول على فرصة توزيع ألحانهم أو الألحان التي يغنونها على فرق كبيرة في العواصم الموسيقية الكبرى، مثل بيروت والقاهرة، لكن حين نستمع إلى نتائج ذلك لا نجد الكثير مما يميز توزيعاتهم عن التوزيعات المصرية المعتادة وقتها، وفي حالة قاسم نجد الموسيقى نفسها مصرية. أما عند أبوبكر فالموسيقى الآلاتية مطربٌ آخر لا يقل أهميةً عن صوت أبوبكر نفسه، وحاملٌ لخصوصية محلية. إلى جانب اختيارات الآلات المحلية، يمكن اعتبار الصولوهات بصمة أبوبكر التوزيعية الأبرز، والتي لطالما أبدع في توظيفها إلّا مع آلة واحدة هي الأورج، حيث لم يوفق في توظيفه له إلا في مرات معدودة على مدى مسيرته، كما في عشقة الخرد ويا ويل المولع وسير وتخبر، وجاء دخيلًا على النفس المحلي في أغانيه.

هناك عاملٌ آخر يُكتفى به عادةً لدى الحديث عن أسباب تفوّق أبوبكر، وهو الثنائية التاريخية التي شكلها مع الشاعر والملحن اليمني الحضرمي الكبير حسين المحضار، التي وصلت لدرجة من التلازم زاد معها الخلط بينهما لدى محاولة الفصل بين كلمات وألحان كلٍّ منهما في نتاج أبوبكر، كحال الأخوين رحباني. لا شك أن للمحضار نصيبٌ كبير من الفضل في إرث أبوبكر، لكنه لم يقصر قصائده وألحانه الغزيرة على أبوبكر. كان المحضار ملحنًا استثنائيًا لا يعزف على أي آلة موسيقية، صاحب موهبةٍ موسيقيةٍ كبيرة دون الرؤية الموسيقية، فجاءت رؤية أبوبكر لتصل بكلمات المحضار وألحانه إلى أقصى إمكانياتها. نجد خير دليل على ذلك في المقارنة بين نسخ محمد جمعة خان ونسخ أبوبكر للأغاني المحضارية ذاتها، مثل رضى الهاشمي، بالغواني التي غناها محمد سعد عبد الله أيضًا، ما مع العاشق، سلم حتى ولو بكف الإشارة، يا رسولي توجه بالسلامة، بشراك، الكوكب الساري وعيني تشوف الخضيرة.

لا تقلل هذه المقارنات من أهمية نتاج أيٍّ من المذكورين، وتشهد كثيرٌ من روائعهم على القيمة الكبيرة لإرثهم، مثل عيني لغير جمالكم ويا حبيب القلب وناجت عيوني لـ محمد جمعة خان، كلمة ولو جبر خاطر ولهيب الشوق وماله كذا طبعك لـ محمد سعد عبد الله، ونشوان لا تفجعك خساسة الحنشان وعلى مسيري ومش مصدق لـ محمد مرشد ناجي. ربما كان لكل منهم ما يتفوق به على أبوبكر، لكن أحدًا منهم لم يجمع عناصر النجاح التي جمعها أبوبكر، ولا تشمل تلك العناصر التنازل الفني أو المكر.

رُبَّ يومٍ بكيتُ منه

قد تكون أكثر زاوية مثيرة للحديث عن تجربة فنان بحجم أبوبكر هي البحث عن جانبه المظلم، القادر على الاستئثار بالفرص بأساليبٍ لا يعوزها المكر، والذي اعتدنا ترافقه مع تحقيق المطرب نجاحًا استثنائيًا، كما في حالة أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم مثلًا، لكن مواقف هذا الرجل وردوده تجهض كل محاولات البحث هذه. فرفض تسميته شاعرًا غنائيًا وإن كان لا بد فـ شويعر، رغم أنه كتب على الأقل نصف أغانيه، وإن سُئل عمن يحققون من وراء أغانيه كسبًا ماديًا وجماهيريًا دون استئذانه، قال هذا حبٌّ منهم لفني في المقام الأول وقد يُحسنون أكثر مما فعلت، ثم ختم الحديث بعتاب المُحِب بخصوص الاستئذان، رغم الثروة التي أمكنه الحصول عليها إن سلك طريق الدعاوى القضائية، عدا عن الإفادة من التغطية الإعلامية لأمرٍ كهذا؛ وإن وُصف بالريادة أو الاحتراف رفض الوصف وأكد أنه يحاول ما في وسعه واعتذر عن التقصير إن وُجِد؛ ولو حاول محاوره تملقه بذكر جوائزه وإنجازاته، حجّمها منعًا لسوء الفهم والتضخيم في غير محله، كما حين بيّن أن فوزه بالأسطوانة الذهبية كان عن توزيع أربعة ملايين نسخة لأغنيته، بينما فوز عبد الحليم بالجائزة نفسها في العام ذاته كان عن توزيع قرابة ثلاثين مليون نسخة، رغم أن محبيه يفضلون ذكر فوز الاثنين بالجائزة نفسها في العام ذاته دون بيان هذه الأرقام للإيهام بأن شعبية أبوبكر نافست شعبية عبد الحليم وقتها. كذلك حين سُئل عن تصنيف اليونسكو له كثالث أفضل صوت في العالم، حرص على بيان أن المعيار لم يكن الجمالية أو المستوى الفني، وإنما كان تقنيًا بحتًا ومتعلقًا بمساحة الصوت. حين ناهز الستين من العمر وسُئل عن رأيه بـ “هبوط” فن الجيل الجديد أجاب ببيت الشعر “رُبَّ يومٍ بكيتُ منه / ولما صرتُ في غيره بكيتُ عليه” وأكد أن الانتقاد ذاته طاله في شبابه وأن لكل زمانٍ أهلُه. كل هذا بالإضافة إلى دعمه كل موهبة شابة رأى فيها ما يحب، ما أثمر عدة أصوات مهمة متسيدة على الساحة الخليجية اليوم، مثل عبد المجيد عبد الله وعبد الله الرويشد وراشد الماجد ونبيل شعيل. حتى الحفلات التي تمثل عاملًا جوهريًا في الانتشار كان مقلًا فيها، راضيًا بما وصل إليه، وحريصًا على ألّا يضر انشغاله بفنه علاقاته.

لم يخطف أبوبكر من منافسيه الفرص أو يحجبها عنهم، وإنما استمر بصنع فرصه هو. غادر اليمن أيام المملكة المتوكلية التي أقامت كل الحواجز الممكنة بين اليمن والعالم الخارجي في الشمال، بينما يسيطر الاحتلال البريطاني على الجنوب، حاملًا على ظهره موروثًا هائلًا من الموسيقى، وأحلامًا وخططًا كبيرة؛ وكغيره ممن سلكوا طريق السفر ذاته، أحب ذلك الموروث ورأى فيه إمكانياتٍ لا حدود لها، لكنه على عكس الباقين ملك الرؤية اللازمة لاستثمار تلك الإمكانيات بإضفاء قابلية جماهيرية استثنائية عليها، فأصبحت الإيقاعات غير المعروفة سابقًا خارج اليمن مألوفةً وجذّابة، وأصبح فن أبوبكر بابًا إلى الغناء اليمني القديم بأساليب الأداء والأنغام والإيقاعات الفريدة، والتي كانت ستتطلب دونه تعويدًا وتثقيفًا ليس لجيله ولا لجيل اليوم جَلَدٌ عليها. بالنتيجة تحولت أنظار الملحنين الخليجيين الناشئين من مصر ولبنان إلى اليمن، وولدت الأغنية الخليجية.

حين انتهت الحرب وأُعلنت الجمهورية اليمنية لم يعد أبوبكر. اعتُبر بالنتيجة ابنًا ضالًا، بينما أشيد بفنان مثل محمد مرشد ناجي كابنٍ بار، وحين نشاهد مقابلة ناجي الأخيرة حين ناهز الثمانين (بين عامَي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩)، نجده يشكو من عدم تواجد الرعاية الموسيقية في اليمن وعدم قيام الحفلات وتدريب المغنين على الأداء مع فرقة موسيقية. كان أبوبكر على حق. لكن لعنة الغربة طاردته في المهجر أيضًا، فبعد مرحلة التأسيس والانتشار التي امتدت لـ ١٥ عامًا في لبنان، حصد خلالها أمجادًا قلّما وصل إليها فنانٌ في جزيرة العرب، قامت الحرب الأهلية فترك لبنان إلى السعودية.

لشدة تعلق أبوبكر بذكرياته في لبنان بدا وكأن الزمن توقف عندها، وكأنه ترك شبابه هناك وشاخ بعد هذه الهجرة، ففارق الموسيقى والغناء لست سنوات، واستمرت حسرة الماضي في إثقال تطلعات المستقبل حتى وفاته. فبكى حين سمع صوت عزيزةٍ من أيام الشباب في لبنان، وحين وجد ترحابًا وحبًا من جمهور حفلته الأولى في صنعاء، وحين كُرّم بالدكتوراه الفخرية من جامعة حضرموت، خاصةً أنه نال هذا التكريم في البلد التي هجرها، ولم ينل مثله في البلد التي اختارها وطنًا ومثوًى أخير بعد كل ترحاله، وكتب ولحّن وغنى أحد أهم أناشيدها الوطنية، السعودية. عاصر أبوبكر اثنتين وثلاثين دورة من مهرجان الجنادرية السعودي، لكنه لم يُدع للمشاركة ولم يُدْعَ حتى كضيف؛ وبدل محاولة تغيير ذلك عن طريق علاقاته اكتفى بالصمت، الذي لم يكسره إلا بيتَي شعرٍ للعتاب بعد الإصرار على أن يُبدي موقفًا:

أيا من صادني باللحظ مهلًا / فها قلبي قد تخرّق بالسهام

فخذه وغربل العشاق فيه / تجدني الزبد من أهل الغرام.

في يوم العيد الوطني السابع والثمانين للسعودية، ولدى تشغيل نشيد يا بلادي واصلي، فوجئ الجمهور بظهور مُبدع النشيد على المسرح لتكريمه، تغالب فرحته مرضه الذي جعلهم يرونه لأول مرة على كرسيٍّ مدولب. في النهاية، اختير تكريمُ أبوبكر ليكون عيدًا للوطن الذي قضى فيه أكثر من نصف عمره. بفضل هذا التكريم قابل أبوبكر جمهوره للمرة الأخيرة، غنى، وفي واحدٍ من أكثر المشاهد الحقيقية المؤلمة على الإطلاق، لم يساعده صوته على إكمال الأغنية فتوقف، ثم ختم قرابة ستة عقود ملأ خلالها بصوته الدنيا بجملة: “معلش، صوتي يا حبايبي.”

المزيـــد علــى معـــازف