.
في أدائه المبهر لمقطوعته هامرز، أثناء حفل بي بي سي برومز عام ٢٠١٥، تتعالى همهات نيلز فرام مع التعاقب اللاهث للّحن قرب نهاية المقطوعة. تعكس دمدمات فرام وهمهماته المتألمة توحده مع تأليفه. بعد هذه المقطوعة ببلاغتها التعبيرية عن الشك والألم، يمسك فرام بفرشاتَي مرحاض ويبدأ بأداء مقطوعته التالية تويلِت برَشز. يضرب فرام بالفرشاتين على أوتار البيانو وأسلاكه الداخلية، ويحك الفرشاة في السمّاعات كأنه ينظفها. في بداية مشاهدتك ستظن أنه مجرد عبث، لكن لا يلبث فرام أن يثبت مهارته في التعامل مع الصوت بخلقه من هذه الأفكار الغرائبيّة مشاهد صوتية لا يمكن التنبؤ بمثلها.
يُلخّص هذا الانتقال من التوحد والأداء المنضبط العُصابي على البيانو، إلى اللعب العابث بفرشاة مرحاض، قدرة فرام وطبيعة الموسيقى التي يبدعها، وصعوبة توقع خطواته القادمة. بعد عدد من الألبومات المتميزة: ذَ بِلز، فِلت، سبايسز، وأول ميلودي، يأتي ألبوم أول أنكورز، أو سلسلة الاستعادات كما يُسميه، ليستعيد تلك الروح الخلاقة والعابثة في تجربة سماعية جديدة. ضمت المقطوعات المجمعة في الألبوم والصادرة في أكتوبر الماضي ثلاثة أجزاء، أنكورز ١ وأنكورز ٢ وأنكورز ٣، والتي أُصدرت تباعًا خلال العام. الألبوم من إصدار شركة تسجيلات إرايزد تايبس، المعنية بالموسيقى الطليعية والإلكترونية التجريبية.
أصدر فرام الجزء الثالث في العشرين من أيلول / سبتمبر الماضي، إلا أن الإصدار المجمع للسلسلة يُبرز بنية العمل ككل، والتناغم العضوي بين التراكات في كل جزء، وبين الأجزاء الثلاثة كذلك، رغم أن المقطوعات مرتبة وفقًا للتعاقب الزمني لصدورها دون إشارة إلى انتماء أيٍّ منها إلى هذا الجزء أو ذاك.
يضم ألبوم أول أنكورز اثنتي عشرة مقطوعة. ترتكز المقطوعات الخمسة للجزء الأول على جمل لحنية للبيانو المنفرد والهارمونيوم، وتمتاز بعذوبتها وإيقاعها الهادئ. في المقطوعة الأولى ذَ رَفِست ترايد تُعزف نوتات البيانو في تأنٍ شديد، وتتكرر الفواصل الساكنة. في المقطوعات التالية مثل رينجينج وتو توماس وذَ داين يصيغ فرام اللحن من نغمات منخفضة تمزج بين الكلاسيكية والجاز. تلك المقطوعات من أكثر ما يؤديه فرام في عروضه الأخيرة. عبر مقطوعات أنكورز ١، يستعيد فرام صيغة النوكتيرن (Nocturne) محملةً بأصداء شوبان. يحاول أن يجعل “البيانو يُغني” مثلما فعل شوبان، كما يبين المؤرخ الموسيقي ثيودور فيني، وأن يتجه مثله إلى الصيغ التي تتيح أكبر قدر من التحرر كي يطور “الإمكانيات التعبيرية والصوتية لآلته”، بتعبير فيني.
تقوم موسيقى نيلز فرام على مقاربة معاصرة للموسيقى الكلاسيكية مع توظيف المشاهد الصوتية (Soundscapes) للموسيقى المحيطة، والتأثيرات الصوتية من الموسيقى الإلكترونية، مع تخليق فرام لطنين سنث لا يشبه غيره. لا يشكل الطنين عنده خلفية يمكن الاستعاضة بواحدة منها عن الأخرى. ألحان الجزأين الثاني والثالث من الألبوم إما مشتقة من الطنين نفسه، أو متضافرة لتخليقه. كما نجد في تاليسمان من الجزء الثاني، وأول آرمد من الجزء الثالث.
تُقدم المقطوعات الأربعة للجزء الثاني نوعًا خاصًا من الموسيقى المحيطة، حيث يعتني فرام بأجواء المقطوعات دون إهمال بنيتها أو إيقاعها، كما يشيع في بعض أعمال الموسيقى المحيطة. في نقلة مماثلة لنهاية الجزء الأول، حيث النغمات النافذة العميقة والمتكررة لمقطوعة هارمونيوم إن ذَ وِل، تتميز سپِلز، المقطوعة الأخيرة في أنكورز ٢، بتنامي حدة الأصوات الإلكترونية، في تكرارية ذات طبقات صوتية متفاوتة العمق، تمهيدًا لتحولات الجزء الأخير. يُبرز الجزء الثالث عناصر الموسيقى الإلكترونية في موسيقى فرام، لتتقدم على بقية العناصر وتختتم الألبوم بحسٍ تجريبي فريد.
في أول آرمد، واحدة من المقطوعات الثلاثة الأخيرة، يخلق فرام زخمًا إيقاعيًا من خلال محاكاة أصوات متنوعة لآلات النقر، مع الحفاظ على قوة العبارة اللحنية ووضوحها. المقطوعة أقرب إلى روح الجاز مع أجواء درامية تميل إلى الكآبة. في أميرادور، مقطوعة الألبوم الأخيرة، ينثر فرام أصواته المحيطة كأن الرياح تحملها، في توظيف رائع للطنين. أنشودة جريجورية قديمة في شكل موسيقي إلكتروني. تعلو الأصوات وتخفت، وتخلق ثيمة أقرب إلى العاصفة وما يمكن أن تنذر به. تأتي نهاية التراك عبارة عن سكون كامل يدفعنا إلى ترقب العمل القادم لـ نيلز فرام.