.
عندما بدأ نجم طارق أبو كويك– الفرعي باللمعان فوق رؤوسنا البائسة التي تستوطن عمّان، كان مجرّد التلميح إلى القضايا السياسيّة والاجتماعيّة المعاصرة أمراً ثوريّاً.
كنّا في عمّان لا نزال نحاول أن نهضم أفول نجم فرقة “أوتوستراد“، لأنها لم تخاطب تلك القضايا. وكنّا لا نزال نحاول استشراف محاولات فرقة “ترابيّة” في العيش وسط كل المحاولات العمّانيّة التجارويّة في تقويضها.
تعليق واحد على فيديو أغنية “مدينة حديثة” الذي ظهر على يوتيوب يوم 19 شباط/ فبراير 2011، كان كفيلاً باستمالتنا إلى نواة مشروع جذريّ: “هذا هو جوني كاش الجديد“.
حمل “جوني كاش الجديد” غيتاره أينما ذهب. ألصق عليه علم فلسطين وغنّى عن الأردن. ارتدى نفس الحذاء طوال سنتين كاملتين، بشعره غير المصفّف، وتوتّر عينيه الدائم، وتلعثمه البريء بالكلام، وشوارعيّة أسلوبه وصداقاته، كان أبو كويك يقدّم لنا نموذجاً عمّانيّاً جديداً ومنفتحاً على احتمالات التغيير ومجاراة الشارع.
لكن ما يحصل دائماً كان جاهزاً؛ فالإنتاج الفني المعاصر، والمفتون بمعاصرته، كان عاجزاً عن استشراف انفجار “هبّة تشرين“، كموسيقيّ دفعته مسؤوليّته الأخلاقيّة تجاه المكان الذي يعيش فيه للتصدّي لمشاكله وبؤسه وفساده وقمعه واضطهاده، والأهم: إيجابيّته المزيّفة.
إلى أن أصدر أبو كويك أغنية “سقف المطالب“، التي قيل أنها كتبت منذ شهر تشرين أول/ أكتوبر 2012، والتي يقدّم فيها وجهة نظره حول ارتفاع سقف المطالب إلى حد “إسقاط النظام“.
قبل ذلك، كان خطاب أبو كويك يتململ في نقد المسلّمات الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة. هذا الخطاب كان يتجّه إلى مهاجمة الرأسماليّة “ذهبتْ إلى المول، مش عشان تجيب غرض: عشان في منتجات بالمول بتخلينا كلنا نشبه بعض“. وصورة الدين الهزيلة: ” تخيّل نعبد الله مش نعبد أشخاص“. والسياحة السياسيّة: “كله بيقاوم من بعيد: شعب قنّاص“. وتفكيك المجتمع الوجاهي: “هات حرفي مثقف، وخد جامعي جاهل“، و“بحب الشب شاعر: موال وقوّال، وبحب الصبيّة: ثورة عالآخر زي دلال“.
لكنه، كما يقول في أغنية أخرى: “متطرف بالاعتدال“. كان خطاب الفرعي مبدئيّاً ومهمّاً في تلك الفترة التي شهدت تخفّفنا جميعاً من عمّانيّتنا المزيّفة، ومن قاهرتنا الثقيلة، ومن دمشقنا الناعمة، ومن تونسنتا النائمة.
فإذا كانت وظيفة المؤلف هي “التقديم للمفسّر والمعارض والمخاطب عملاً عليهم استكماله“- بحسب أُمبرتو إيكو، فإن أبو كويك تخلّى، لاحقاً، عن دوره كمؤلف، وانتهى المطاف به إلى أن يكون مستهلكاً لأغانيه، وللتأثير المهادن الذي تفرضه هذه الأغاني.
فمع تعقّد وتشابك كل المفاهيم التي حاول الفرعي نقضها، بقي خطابه كما هو: مهادناً ومتوازناً ومعتدلاً. في وقت كنا بحاجة فيه إلى صوتٍ واضح واستشرافيّ ومؤثّر. بقي الخطاب كما هو ولم يكبر أو ينضج معنا.
وضع الفرعي أجسادنا على طاولة العمليّات وفتحها، ثم تركها هناك واعداً إيّانا ببنادول.
وبدا الخطاب كأنه انعكاس نظيف ومصقول لكل العنف الذي تمثّل بالثورات على الأرض. ومن هنا بدأ التخلّي عن الخطاب الجذري، والعودة إلى الأفخاخ التي نصبها هو نفسه في أغانيه: “إذا مش عارف تصبّح على جارك، كيف بدها الثورة تلمع؟” (بما يشبه الدعوة إلى العودة عن العنف الثوري). أو “بدكمش تتعاكسوا، طيب ليش عم تتراقصوا؟” (بما يشبه تبنّي خطاب لوم النساء على معاكستهم)، و“لما انت ابن ناس، ليش عامل فيها دواوين” (في التصنيف الطبقي).
لنصل إلى أغنية “سقف المطالب” التي تعلن، بوضوح، تخلّي خطاب الفرعي عن جثثنا التي تعفّنت على طاولة العمليّات.
من الواضح أن الأغنيّة تأتي ردّاً على الانتقادات التي واجهها الفرعي على صمته الموسيقيّ خلال “هبّة تشرين“. وذهب البعض إلى انتقاد اتخاذه لموقف ممّا يجري في المكان الذي يعيش فيه بتلك الفترة، وحتى بعدها.
لتأتي الأغنية بخطاب متوازن، يختفي وراء الموقف الذي من المتوقّع لأي مؤلف ومنتج أن يتّخذه إخلاصاً لمسيرته، ولمبادئه التي قدمّها منذ البداية. ويختزل المطالب الأردنيّة بالتحرّر بالتوافق على “سقف المطالب” الذي انهار ليشمل شعار إسقاط النظام خلال مظاهرات الهبّة.
وقف الفرعي ضد هذا الشعار منذ البداية. وربما نستطيع تفهّم ذلك لإنه شعار غير توافقيّ، لا لأنه خارج الحسابات. وخاطب منتقديه: “أنا لا تشي جيفارا ولا سيد قطب، هذا المكان اللي بالنص إله فرصة بالبلد، استغلوا الفوسفات والطاقة الشمسية بتطعمي الولد“. متحجّجاً بالفلسطينيّة الفائضة: “(..) عشان هيك راب شرق النهر بيطالب بإصلاحات، ثلث أرباعنا لاجئين، فنبعبيش الساحات“. ومبرّراً امتناعه عن تأييد المظاهرات أو المشاركة فيها: “لحبايبنا بالحراك: والله ما أنا عارف مصلحتي عشان أنزل معاك“. ومتخوّفاً من انتقاد الملك: “ما بتوفّيش معي تعبّيلي إطالة لسان” (التهمة التي توجّه إلى من يرفع شعارات تنتقد الملك، والتي حوّل إثرها عشرات من الناشطين إلى محكمة أمن الدولة).
وكي لا يكون الموقف السياسيّ مدخلاً لنسف الأغنية نفسها، يمكن الاستماع إلى توليفة الإيقاع الذي أنتجه DJ Solo لعدة مرات لنتيقّن أننا أمام إنتاج مغاير ومتجدّد. لكن أين يقع تدفّق الفرعي نفسه وتعقيده اللغوي– اثنان من معايير تقييم الهيب هوب– في هذه المعادلة؟
نجد هنا أن أغنية “سقف المطالب” هي ثاني أغنية منفردة بعد اسطوانتي “صوت من خشب” و“فرع المداخل“، وبعد أغنية “عصافير الحولة” في أيار/ مايو 2012.
ورغم سذاجة الإيمان الثورجي في الأغنية الأخيرة، إلا أنها أصالتها وحقيقيّتها جاءت بالضبط من هذا المكان الذي ينحاز إلى الدم. لتصبح “عصافير الحولة” واحدة من أفضل أغاني الفرعي. وذلك من خلال استعادة الصوت المجروح والمتوتّر الذي صنع شخصيّة الفرعي. خاصة في التعقيد اللغوي الذي ينتج أكثر من شخصيّة في نفس الأغنية، الأمر الذي ينعكس مباشرة على التحرّر من القافية المجانيّة. والذي ينعكس، أيضاً، على هشاشة ذكر أسماء الأطفال الذين قضوا في المذبحة.
أما في “سقف المطالب“. فجاءت اللكنة ثقيلة ومنهكة. خاصة في اتّباع قافية ثقيلة كل 2 بار: وهو المعادل الشعري للوزن في كلمات أغاني الهيب هوب. الأمر الذي يعدّ سلبيّاً. إضافة إلى الخيال التصويري الذي تعتمد عليه الجمل الحاسمة Punch Lines، والتي جاءت فقيرة وتربط بين صور بعيدة عن بعضها: “كلماتي بوجه البكسة، معفيّة من الجمارك. بس إذا بيضل في ضريبة مبيعات، وإحنا مش زي الخليج: ماعناش واحات. عشان هيك راب شرق النهر بيطالب بإصلاحات (..)”.
لا مجال للادّعاء بأنه يحق لأي شخص محاكمة آخر سياسيّاً، إلا لدى انحياز الآخر للغموض الذي يوفّره الظلم والاستبداد.
لكن لا مجال للادّعاء بأننا لن نناقش أحقّيّة هذه المدينة، البائسة والمتروكة للمناكفات الحضريّة، بالتهدّم والخراب.
يقول الفرعي في الأغنية: “لما يجي الوقت المناسب رح تفهم وتطالب“. وهذا صحيح. لكن لا يستطيع الفرعي مهاجمة الجهل إلا إذا كان لديه مشروعاً تنويريّاً. ولا يستطيع انتقاد انعدام الأثر، إلا إذا اتّخذ موقفاً واضحاً يستطيع من خلاله أن يساهم في هدم ما قبله، وما يتهدّم حاليّاً، وما سيتهدّم في المستقبل.
أما مسألة استمالة الفرعي إلى هذا الطرف أو ذلك، فهو أمر تحدّده أصالة المسؤوليّة الأخلاقيّة في خطابه.
هذه المسؤوليّة التي تتجلّى في جميع المواقف ولا يمكن لجمها، والتي لا يمكن لنا، كمتلقين، أن نبحث عنها. بل تظهر وتلمع من دون جهد.
في العام 1963، اضطّر فريق البيتلز إلى إحياء حفلة أمام الملكة إليزابيث. وكان المنتجون متخوّفون من لسان جون لينون السليط الذي يشعر بالحساسيّة الشديدة تجاه أي تفوّق طبقي وسلطوي.
كادت أن تمر الأمور بخير، حتى جاءت آخر أغنية. حينئذٍ، طلب جون لينون من زملائه قليلاً من الهدوء، وقال: “ولأغنيتنا الأخيرة، أودّ أن أطلب منكم مساعدتنا: أرجو من الحضور في المقاعد الرخيصة أن تصفّقوا بأيديكم. أما الباقين فعليهم فقط أن يخشخشوا مجوهراتهم“.