.
حين نستمع إلى إسماعيل يس (سُمعة) يغني في يوم من الأيام لعبد الحليم حافظ، نجده ملتزِمًا إجمالًا بالخط اللحني، مقتصِدًا في الزخارف الغنائية، صوتُه أقرب إلى الغِلَظ المميز للمطربين الشعبيين أمثال محمد عبد المطّلب. لكنه يقطع علينا هذا التفكير حين يشير إلى الفرقة الموسيقية بالتوقُّف ليُلقي نُكتة، ويذكّرنا بأنه كوميديان ومونولوجست، لا المطرب الذي كان من الممكن أن يكونَه. من المتعارَف عليه أنّ صوت المونولوجست لا يجب أن يكون جميلًا؛ بل ربما كان الأقرب إلى التصوُّر العام أنّه على صوت المونولوجست أن يكون عاديًّا، ليناسب طبيعة الموضوع الذي يغنّي له، وليُسَرِّب إلى مستمعِيه شعورًا بأنه واحدٌ منهم لا يتميز بصوتِه، لكن إسماعيل يس كان استثناءً.
حين نستعرض أداء إسماعيل يس في مونولوج مثل أصلي مؤدَّب من كلمات أبو السعود الإبياري وألحان عزت الجاهلي، نستطيع أن نضع أيدينا على طريقة واضحة يتّبعها إسماعيل للإضحاك في المونولوج، والتي نجدها مُطّرِدةً في كل مونولوجاته تقريبًا، فضلًا عن ظهور بعض معالمِها في أدائه التمثيلي.
من أركان هذه الطريقة خروجه من اللحن إلى التباكي. نجد هذا في الثانية ١:٢٠، حين يتحول اللحن إلى جنس الحجاز في إطار مقام النهاوند الحجازي، وفي الثانية ١:٣٧ في بداية الفاصل الموسيقي بين الكوبليهين الأول والثاني؛ وهو تباكٍ يصل إلى حدّ الجُمَل الاعتراضيّة المحمّلة بالشكوى أو ولولة النساء أحيانًا، كما في الثانية ٢:٣٥ في جملة “هعمل إيه بقى؟ يوه! دي حاجة تدوّخ بقى”. يُلحَق بهذه السِّمة تقليد طريقة النساء في الحديث أو تدليل الصغار، كما في مونولوج سَخطة يا سخطة، حيث يبدو أوضح ما يكون في الثانية ٢:٢٠ “سخطة يا سخطة يا سخطوطة”. هناك أيضًا الخروج القصير إلى الإلقاء غير المنغوم (recitativo)، كما في الثانية ١:٢٥ من أصلي مؤدب، حين يقول: “يلهف منّي” في جملة “يلهف منّي غصبٍ عنّي شِلِني وابات انا من غير أكل.”
بإمكاننا تمييز التفاصُح في الثانية ١:٣٩ من الأغنية، حيث يقول بفصحى مغلوطة: “لقد أخذَ منّي الشلِنُ”، وفي الثانية ٢:٤٥ حين يقول “إنني لَمعذور”، وفي ٣:٠٨ “لو يقابلني حانوتي” حيث ينطق القاف قافًا فصيحةً لا همزةً كما هو منطِق المونولوج المتّسِق مع العامية القاهرية. إلى جانب ذلك، هناك الإيحاء بالغضب. في الثانية ٣:٠١ حين يقول “أبقى اتلهي على نِنّ عنيّا وارُوح الخانكَه اكمنّي أديب”، ينطق العين والحاء (وهما حَرفان حَلقيّان) كما لو كان في مشاجرة، إذ يلجأ تقنيًّا إلى المبالغة في هزّ لسان المزمار، فيَخرج الحرفان محمَّلَين بشحنة غضب لا تخطئها الأذُن المدرَّبَة، وإن أخطأَتها فهي تتسرب بيُسرٍ إلى لاوعي المستمِع. نجد هذا واضحًا كذلك في الثانية ٣:١٩ حين يقول: “واخطُب زوجة وتطلع عُوجَة”، حيث توحي العين المهتزّة في الكلمتَين الأخيرتَين بما يختزنه الموقف المَحكِي من غضبٍ مكتوم. يُلحَق بهذين الحَرفَين نُطق حروفٍ أخرى يبالغ في آلية إنتاجها، كما في الراء في كلمة ستّاشر في الثانية ٣:٢٣، حين يقول “ومخلّفة ستاشر شابّ”. حيث يبالغ في هز طرف اللسان وهو ينطق الراء.
الحقيقة أن الأثر المُضحِك لهذه المعالِم له تفسير في نظرية هنري برجسون في الضحك، والتي تتفرع عن مذهبه الحيوي، وخلاصتُها أن آليات الإضحاك جميعًا تعتمد على لفت نظر الجمهور إلى ما في موضوع الضحِك من خروج عن الحيوية الإنسانية إلى تيبُّس الآلة. هكذا الأمر في مونولوجات إسماعيل يس، فالخروج إلى الإلقاء غير المنغوم يُشعرنا بأننا أمام آلة تعطلَت فيها إمكانية الغناء فجأة فصارت تُلقي كلماتها دون نغم. نفس الأمر مع التفاصُح الذي يبدو ارتباكًا عارضًا في البرنامج اللُّغوي، ومع الحروف المنطوقة بما يُوحي بالغضب والتهيُّؤ للمشاجرة، حيث تتيبّس حيوية الأداء دون سابق إنذار، ويبدو إسماعيل مثل آلة تراكبَت تروسُها وربما تحتاج إلى بعض التشحيم.
بفضل أسلوبه القائم على المبالغات الأدائية، عاش إرث إسماعيل يس حياة طويلة على يد عدة أجيال من الأطفال، الذين يحتاجون قدرًا من المبالغة المسرحية لينتبهوا إلى ما يجري أمامهم من أحداث، وهو عنصر عثروا عليه بوفرة في أعمال كوميديين محليين وعالميين مثل إسماعيل يس وروان أتكنسون.
لحّن إسماعيل يس عددًا من مونولوجاته، منها يا صاحب السعادة وميمي وفيفي من كلمات أبو السعود الإبياري، ولتّ وعجن وياللي تملّي تحسد غيرك وسخطة يا سخطة من كلمات محمد عثمان خليفة (ابن الليل)، وحرب الحَمَوات من كلمات سعد عبد الرحيم، وما تستعجبشي لمصطفى السيد، وصَدّ ورَدّ لفهمي إبراهيم، وغيرها.
يلاحَظ ميل إسماعيل في تلحين كثير من هذه المونولوجات إلى مقام النهاوند بشكل أساسي، يخرج منه أحيانًا إلى العجم وقليلًا إلى البياتي، وعلى إيقاعات لاتينية حيّة، أو لاتينية معرَّبة. الحقيقة أن ألحانه جميعًا متقاربة حتى أنه يمكننا أن نعتبرها لحنًا واحدًا. نستطيع أن نستثني ميمي وفيفي في مقام العجم، وحرب الحمَوَات ذات المقدمة المختلفة في مقام النكريز، الذي يخرج منه إلى العجم في “أخُشّ اخلّص، أبقى بين المعمعة”، ليعود إلى النكريز في “من غير غازات ولا طيّارات”، وهكذا في بقية الكوپليهات؛ وفي رأيي يبدو لحن هذا المونولوج الأكثر تفرُّدًا بين محاولات إسماعيل التلحينية.
يبدو أن إسماعيل كان مخلصًا لفكرة تكريس النمَط حتى في التلحين، ولعل هذا ما دفعه بوعيٍ أو دون وعيٍ إلى إنتاج ألحانٍ على هذا القدر من التشابُه فيما بينها.
في ثنائياته الغنائية التزم إسماعيل غالبًا النمط الذي رسمه لنفسه وأصبح الجمهور ينتظرُه منه، فهو يوظِّف آليات الإضحاك التي أسلفنا الحديث عنها في دوره في الدويتّو، ويوفّر معادلًا للجانب الهزلي من الدراما حين يتشارك الأغنية مع أحد مُطربي العيار الثقيل. هذا ما يحدث في دويتّو يا بختك يا قلبي مع محمد فوزي، حيث نجد التباكي والتفاصُح والإلقاء غير المنغوم والحروف المنطوقة بإيحاء الغضب، كلّها محتشدةً بكثافة في مقابل أداء فوزي السلِس المعجِز.
في أعمالٍ أخرى، كما في فيلم المليونير بجانب سعاد مكّاوي، يتخفف إسماعيل كثيرًا من حمولة الأداء المضحك، ونلمح في معظم الأغنية صوتَه رائقًا قويًّا يعرف ماذا يقول ويلتزم الخطّ اللحني في اقتدارٍ يشي بأن المؤدي قد نال تدريبًا غنائيًّا لا بأس به، وهو ما تؤكده لنا المرويات عن حياته، حيث نعرف أنه تأثر في شبابه بمحمد عبد الوهاب وقصد القاهرة ليكون مُطربًا في الأساس. إلا أن هذا التخفُّف ليس مُطلقًا بالطبع، فالآليات التي تَحدّثنا عنها مازالت موجودةً هنا، بل إنها تظهر على نحوٍ صارخٍ يخرق حيوية الغناء بشكلٍ مفاجئٍ حين يقول “ماكُلش المحشي … ماكُلشي الطُّرشي”. هو أداءٌ يختزن غضبًا طفوليًّا يصعب أن نقول إنه مفتعَلٌ بالكامل، وإلا لما انفجر في مكانه الدقيق من الأغنية مُحدِثًا أعجوبة الضحك.
https://youtu.be/1MrzIRGuHuQ
في نفس الفيلم يغني مع سعاد مكّاوي حظرة ناري التي تبدأ في مقام سوزناك / راست وتنتهي في البياتي. يبدأ صوتُه بالظهور مستسلمًا تمامًا للإلقاء غير المنغوم، وفي الثانية ٠:٥٥ يصدح بـ “أمان امان” في عبارة قصيرة، ويُطلِعنا – ربما وهو لا يقصد – على حلاوة صوتِه الأصلية المستترة تحت أكوام المُضحِكات. تُعدّ كلمات الأغنية – رغم ارتباطها العضوي بأحداث الفيلم – أكثر كلمات أغاني إسماعيل عبثيةً على الإطلاق، وهو لا يبخل علينا بكثير من مضحكاته التقليدية فيها، في مقابل صوت سعاد الرقيق المتمكّن.
حقق إسماعيل يس أكثر مما طمح إليه حين قدم القاهرة. جاء ملاحقًا الطرب فلاحقته الكوميديا، وأعطى في الاثنين حتى لم يعد أكبر معجبيه قادرين على مجاراة دزينات أفلامه ومونولوجاته سنويًا. لدى مراجعة تاريخه يبدو أنه لم يقضِ في ذروة النجومية سوى عشر سنوات؛ مع ذلك، يبدو إرثه اليوم ممثلًا لكوميديا القرن الماضي، في السينما والموسيقى.