أجنبي قديم

إلفيس برسلي | النجاح الذي قضى على الروك

عمار منلا حسن ۰۱/۱۰/۲۰۱٦

لم يكن إلفيس برسلي في صباه فتىً عادياً أو ذو شعبية، بل متمرداً، مختلفاً عن الآخرين، منبوذاً إلى حدٍ ما، يتسكع في الأندية التي يمنع الصبية البيض من زيارتها، ويتسلل من إحدى النوافذ ليستمع لموسيقى الإيقاع والبلوز الجريئة وكلماتها التي لا تخلو من الإيحاءات الجنسية. عندما انتقل إلى تينيسي في صباه بدأ بالارتياد على شركة تسجيل مستقلة تعرف بـ [Mtooltip description=” Sun Records” /] ، حيث دعاه مدير الشركة سام فيليبس [Mtooltip description=” Sam Philips” /] ليسجل عدة أغانٍ عله يصبح أحد نجوم الموسيقى الرائجة ذوي المبيعات الهائلة [Mtooltip description=” Mainstream Pop Superstars” /] مثل دين مارتن أو فرانك سيناترا.

سجّل الفتى إلفيس العديد من أغاني البوب الرائجة تحت إشراف سام فيليبس خلال عامي ١٩٥٣-١٩٥٤، لكنها لم تعجبهما ولم يتم إصدار أي منها. كان الاثنان يبحثان عن شيء آخر. فيليبس كان يبحث عن “فتىً أبيض يستطيع الغناء كرجل أسود ليصنع مليون دولار (منه)”، أما اهتمام إلفيس فلم يكمن بالموسيقى الرائجة بقدر ما كان بموسيقى الإيقاع والموسيقى الريفية ذات الآلات الوترية. كانت أذنه تلتقط أغاني فاتس دومينو وليتل ريتشارد وتسكنه. في إحدى الليالي، بعد جلسة تسجيلٍ أخرى غير مثمرة، كان فيليبس يعيد ضبط وتوصيل بعض الكابلات الكهربائية عندما توقف فجأةً للاستماع لإلفيس الذي أقنع عازف البايس في الاستوديو أن يغني معه أغنية قديمة.

لم يترك سام فيليبس الاستوديو في تلك الأمسية إلا بتسجيلٍ مُرضٍ للأغنية التي عزفها إلفيس لأنها كانت عالقةً في ذهنه، خلال فترةٍ قصيرة أصبحت That’s All Right Mama أول أغنية ناجحة تجارياً لإلفيس، كان ذلك عام ١٩٥٤ قبل أن يصبح مصطلح روك آند رول متداولاً، فصنفت الأغنية على لوائح المبيعات كأغنية غربية ريفية. في ذات الفترة سجّل إلفيس ثاني أغانيه الناجحة وهي أغنية قديمة أيضاً اسمها Blue Moon of Kentucky، تم تصنيف نسخة إلفيس منها على أنها أغنية بلوز [Mtooltip description=” A Blues” /]. هكذا كانت أغاني الروك الأولى تصنف إما كأغانٍ غربية أو كأغاني إيقاع، ما يدعم سردية كون الروك نتيجةً امتزاج هذين الصنفين.

حاولت شركة تسجيل فيليبس المستقلة والمحدودةً مالياً أن تسوق لإلفيس عبر الطريقة الشائعة آنذاك للشركات المستقلة، وهي استقطاب ورشوة مشغلي الأسطوانات الموسيقية. لكن نجاح إلفيس كان أكبر من أن تحتويه شركته الأم، خصوصاً أنه جذب بسرعة هائلة عروضاً من شركات التسجيل الضخمة، كانت أبرزها RCA التي طلبت من فيليبس وضع سعرٍ لعقد إلفيس، لكن الأخير لم يرد بيعه عند تلك النقطة فوضع سعراً خيالياً متأكداً من أنه سيتم رفضه، وهو ٣٥ ألف دولار أمريكي. في ١٩٥٥ انضم إلفيس لـ RCA التي وافقت على مطلب فيليبس بلا تفاوض، وبدأت بالتسجيل معه بكثافة وإصدار تسجيلات غزت السوق الموسيقي في الولايات المتحدة بسرعة غير مسبوقة في ذلك الوقت.

لم يكتب أو يلحن إلفيس أياً من أغانيه في تلك الفترة، ولا حتى لاحقاً، إلا أنه عَرَف أي الأغاني يمكن أن تصبح ضربات تجارية [Mtooltip description=” Hits” /] تغزو الإذاعات ومتاجر الموسيقى. كما أنه أبدع اسلوباً صوتياً ثورياً أثّر بمعاصريه ولاحقيه من المغنين، وتميز بأسلوبٍ استعراضيٍ في الأداء أصبح مرتبطاً بالروك حتى اليوم. بحلول ١٩٥٦ تحول إلفيس من فنان إلى ظاهرة، كانت ظهوراته التلفازية مثيرة للجدل، كما مثلت كلمات أغانيه وطريقة أداءه الاستعراضية تهديداً للمجتمع الأمريكي المحافظ آنذاك. لعب إلفيس دور الفتى المشاغب [Mtooltip description=” Bad Boy” /]، النجم الأول بين المراهقين والعدو الأول لأهلهم الذين حاولوا منع موسيقاه من دخول بيوتهم بلا جدوى. ربما كان هذا سبب بحث فيليبس عن فتىً أبيض يغني كرجل أسود، حيث كان الموسيقيون السود، معظمهم على الأقل، لا يزالون حريصين على عدم تجاوز حدود ضيقة من الجموح سمح لهم بها المجتمع الأمريكي. لو أتى هذا الجموح من فتىً أبيض فسيتعرض للمحاربة هو الآخر، لكن بدرجة تسمح له بالاستمرار ولو لسنوات قليلة، قد تكون كافية حتى يتقبل المجتمع الأمريكي درجة مماثلة من الجموح.

million_dollar_quartet_lew-s_perkins_presley_cash
(من اليسار لليمين: جيري لي لويس، كارل بركنز، إلفيس برسلي، جوني كاش)

ولما كانت أغاني إلفيس تميل أحياناً نحو الموسيقى الريفية والغربية كما الحال عند تشاك بيري مثلاً، بات هذا الصنف الموسيقي يعرف بالروك الهجين Rockabilly، حيث جاء القسم الأول من الكلمة من مصطلح روك آند رول، فيما جاء القسم الثاني من مصطلح هيلي-بيلي[Mtooltip description=” Hillbilly” /] الذي كان يشار به إلى الموسيقى الريفية في الأربعينيات والخمسينيات.

مع بيعها عقد إلفيس، لم تقبل تسجيلات سَن ريكردز الانسحاب من عالم الروك الذي كان في ذروة نموه آنذاك، فبدأ سام فيليبس بالتنقيب عن إلفيس المقبل. لكن الآن جرى تنقيبه بالاتجاه المعاكس، إذ أصبح الموسيقيون هم الذين يتوافدون على شركته، يريدون التعاقد مع الرجل الذي صنع إلفيس برسلي. في البداية تعاقدت الشركة مع كارل بركنز [Mtooltip description=” Carl Perkins” /] الذي ذاع صيته في ١٩٥٦ حاصداً لقب ملك الروك الهجين [Mtooltip description=” King of Rockabilly” /] كمقابل لإلفيس الذي لقب بملك الروك آند رول. في ذات العام تعاقدت الشركة مع جوني كاش الذي شكل حلقة الوصل بين الروك والموسيقى الريفية، وكان من فناني الروك النادرين من تلك الحقبة الذين امتدت مسيرتهم الفنية بزخم إبداعي حتى نهاية حياتهم. في العام التالي ضمت الشركة أكثر فنانيها صخباً ومنافسةً لإلفيس، جيري لي لويس [Mtooltip description=” Jerry Lee Lewis” /]، الذي استخدم البيانو كآلته الموسيقية الرئيسية كما عند ليتل ريتشارد، وحقق نجاحاً مذهلاً لينضم بسرعة إلى نخبة موسيقيي الروك فنياً وتجارياً. وأخيراً كان روي أوربيزون [Mtooltip description=” Roy Orbison” /] الذي استمر في إحداث ثورات في تقنيات الأداء الصوتي، مؤكداً على انفصال الروك عن أساليب أداء وجماليات الموسيقى الرائجة.

بإمكاننا أن نرى الدور المحوري الذي لعبه سام فيليبس في هذه الموجة الأولى من الروك، وكيف كانت سَن ريكوردز شركة تسجيل ذات صوت وحركة موسيقية خاصة بها، ساهمت بفريق كبير من نجوم هذه المرحلة، إلى جانب مؤسسي الروك مثل بيري ودومينو وريتشارد وديدلي، واسم أو اثنين من شركات تسجيل أخرى، أبرزهم بَدي هولي [Mtooltip description=” Buddy Holly” /]. بدأ الروك في هذا السياق بفرض خصائصه المميزة في صناعة الموسيقى، منها إلغاء الحاجز بين الكاتب / المؤلف والمغني / العازف، إذ كان بإمكاننا رؤية جوني كاش يحمل جيتاره ويعزف سطر إيقاعي بسيط من تأليفه ويغني كلماته الخاصة. تزايد الاهتمام بالعروض الحية والمؤثرات الخاصة بها ولو على مستوى بدائي في ذلك الوقت. كما كانت أغاني الروك في هذه المرحلة قصيرة جداً وزخمة غالباً، يتوسط طولها دقيقتين في أغلب الأحيان.

شهدت هذه الحقبة أيضاً ولادة الروك الآلاتي [Mtooltip description=” Instrumental Rock” /] قبل أن يتطور مع كل حركة وصنف موسيقي فرعي ظهر ضمن الروك بمرور الوقت. لينك راي Link Wray هو السبب الأبرز لذكر الروك الآلاتي هنا، إذ يعد من أبرز عازفي الجيتار المؤسسين في الروك إلى جانب لِس بول، مقدماً مؤثرات على الجيتار الكهربائي لم تكن شائعة في الخمسينات، مثل الفيدباك [Mtooltip description=” Feedback ” /]والتشويه [Mtooltip description=” Distortion” /] الذي كان راي يقوم بإحداثه عبر خلق ثقوب في شاشة مضخم الصوت [Mtooltip description=” Amplifier” /]. كما كان من أول من عزفوا الأسطر المكررة الصاخبة [Mtooltip description=” Powerful Riffs” /] المعتمدة على كوردات بدلاً من نوطات، الأمر الذي يعطيها صوتاً أكثر صخباً وطاقة. كانت ذ رمبل [Mtooltip description=” The Rumble” /] من أهم مقطوعات راي، تبدأ بسطر مكرر صاخب جامح يسهل إدمانه من المرة الأولى. المثير أن المقطوعة مُنعت من البث الإذاعي والبيع في أسواق واسعة في الولايات المتحدة باعتبارها عنيفة ومحرضة للعنف، وهي من الأعمال النادرة التي منعت من البث دون أن تحتوي على كلمات.

كان النجاح الهائل الذي حققه الروك خلال هذه الأعوام ذو حدين. وجد نجوم الروك أنفسهم وسط حركة فنية تسحب البساط شيئاً فشيئاً من تحت الموسيقى الرائجة بفضل ما حققته من نجاح جماهيري يمتاز بجمهور متعصب ومهووس. دفع هذا هؤلاء الفنانين إلى التمادي بتجاهل القيم المحافظة في المجتمع الأمريكي والمغالاة باستفزازها. ظهر إلفيس على التلفاز مع راقصات تعري وغنى كاش عن رجلٍ قتله لمجرد أن يراه يموت، لكن نفوذ نجوم الروك لم يكن قوياً للدرجة التي توهموها. في آخر عامين من الخمسينات شن المجتمع الأمريكي المحافظ هجوماً عنيفاً على الروك الذي تمادى بتمرده، ما أدى لقتل الموجة الأولى من الروك قبل إكمالها عامها الخامس.

في البداية تحول ليتل ريتشارد تحت ضغط عبارة “الروك موسيقى الشيطان” إلى التبشير بالمسيحية بعد نجاته من خطر تحطم طائرة عام ١٩٥٧، وفي العام التالي تم استدعاء برسلي للخدمة في الجيش الأمريكي فغادر الولايات المتحدة عام ١٩٥٨، ثم لحقت فضيحة متعمدة بجيري لي لويس في ذات العام عندما تزوج من ابنة عمه البالغة من العمر ١٣ عاماً قبل أن ينهي إجراءات طلاقه من زواجه السابق. بعد ذلك توفي مغني الروك الصاعد بادي هولي عام ١٩٥٩ في حادث تحطم طائرة عن عمر الثانية والعشرين، كما تعرض تشاك بيري للاعتقال في ذات العام بعد اتهامه بممارسة الجنس مع قاصر وسط شكوك حول صحة الاتهام وتدخل تحيزات عنصرية فيه. كل هذه الحوادث المتلاحقة بكثافة دعمت اتهامات المحافظين للروك بأنه موسيقى الشيطان.

لإطلاق رصاصة الرحمة، تم تشكيل هيئة في الكونغرس الأمريكي للتحقيق في فضيحة عرفت بـ Payola، اختصاراً لكلمتي Pay & Play، في إشارة إلى رشوة شركات التسجيل المستقلة لمشغلي الأقراص الموسيقية لكي يبثوا المزيد من أغانيهم. أفلست العديد من الشركات المستقلة إثر هذه التحقيقات، كما تلطخت سمعة العديد من العاملين في مجال الموسيقى آنذاك، وأدرك الجميع أن تشجيع الروك له ضريبته الباهظة، فتراجعوا خطوةً للوراء، وتركوا الروك يحتضر في بداياته في نهاية ما يطلق عليه الآن أحياناً الموجة الأولى من الروك، والممتدة بين ١٩٥٥ و١٩٥٩. ربما كان الروك سيندثر نهائياً لولا ما حدث في بداية الستينات، وعرف لاحقاً بالغزو البريطاني.


هذا المقال هو الرابع ضمن سلسلة تاريخ الروك.

المزيـــد علــى معـــازف