.
كان ظهور الحواسب الشخصية فارقًا في كل الصناعات الترفيهية والتعليمية، من ألعاب الفيديو إلى التنظيم الطلابي وحتى إنتاج الموسيقى. في الوقت الذي احتاج فيه هواة الموسيقى إلى استوديوهات لصناعة الإيقاعات وأجهزة لمزجها من الأسطوانات المختلفة، جاءت الحواسيب لتنقل الصناعة بشكل جذري، لنشهد بداية صناعة الموسيقى على الحاسب.
جاءت أجهزة مثل الكومودور ٦٤ وتطوراته من الأميجا ٥٠٠ و٦٠٠ وحتى ١٢٠٠ وأجهزة أتاري إس تي، الأجهزة المختلفة بأنظمة الدوس، إضافة إلى حواسيب أبل، وأجهزة الإم إس إكس من ياماها التي انتشرت بشكل كبير في اليابان والخليج، في وقت كانت فيه أغلب الأجهزة تستعمل لألعاب الفيديو لتعيد الصناعة إلى المشهد بعد كارثة أتاري عام ١٩٨٣ أحداث متتالية في الصناعة كان السبب الرئيسي فيها سياسات شركة أتاري، أدت إلى هبوط قيمة صناعة ألعاب الفيديو بنسبة ٩٧٪ .
رغم تعقيد السوفت وير على الدوس أٌعجب جيل الثمانينات بقدراته، وشغفوا باكتشاف عالم هذه الأنظمة. مع ظهور حواسيب مثل أتاري إس تي، الذي ضم مدخل ميدي ساعد في اقترانه بالسنثات والدرَم ماشينز، إضافةً إلى تطور سامبلرز الأميجا، ظهرت برمجيات على أشرطة فلوبي لتستعمل كـ سيكونسرات. بدأ الأمر مع برمجيات الساوند تراكرز على أجهزة الأميجا، وهي عبارة عن سيكونسرات مبنية على نوتات منفصلة ومقسّمة على أكثر من تراك بشكل عمودي، وتعتمد على الأرقام لصناعة الأنماط المختلفة، ولوحات المفاتيح لإدخال الأوامر لوضع النوتات أو لإضافة التأثيرات أو غيرها من الأوامر.
كانت الساوندتراكرز في البداية مبرمجة ليستفيد منها صناع موسيقى ألعاب الفيديو بالذات، لطبيعتها البرمجية المعقدة، بالإضافة إلى عدد محدود من القنوات Midi Tracks ، والذي لم يساعد الموسيقيين الآخرين في إنتاج تراكات كاملة عليه. تطوّرت البرمجيات مع الوقت تدريجيًا، وظهرت السامبلرز والسيكونسرات بمختلف أنواعها لتسهّل صناعة الموسيقى على الحواسيب.
استعمل هذه البرمجيات موسيقيون مثل البريطاني روب هابرد، ليخرج لنا بعدّة موسيقات تصويرية لألعاب الكومودور. تميز هوبارد بتوظيف صوت شرائح إس آي دي التي بدأت هذه الثورة في أجهزة الكومودور، وصنع تراكات لأكثر من ٧٥ لعبة كومودور خلال النصف الثاني من الثمانينات، أهمها ماستر أُف ماجيك وكوماندو ومونتي أون ذَ رن. رفض هوبارد في البداية العمل لأي شركة بدوام كامل، وفضل العمل الحر ليخرج إبداعه على أكبر مساحة ممكنة، قبل أن يغير رأيه عام ١٩٨٨ وينتقل إلى أمريكا ليعمل مع EA.
كان سيكونسر الألتيمت ساوند تراكر من أول البرمجيات وأكثرها بدائية، والذي صممه كارستين أوبارسكي مصمم البرامج ومؤلف الموسيقى لشركة تطوير ألعاب الفيديو إي إيه إس عام ١٩٨٧. كانت برمجيات الألتيمت ساوند تراكر معقدة للغاية، فلم تلبث طويلًا حتى ظهرت لها العديد من البدائل، منها مفتوح المصدر مثل سيكونسر نويز تراكر، ومنها التجاري مثل مجموعة بناء الموسيقى من عملاقة صناعة الألعاب إي إيه، وبعض البرمجيات التي ضمنت مع سامبلرز الأميجا من ذلك الجيل، وسونيكس، وأهمهم كان سيكونسر الأوكتا ميد من صناعة تيجو كينونين.
كان سيكونسر أوكتا ميد مهمًا في تطوير موسيقى الجانغل، لكونه يدعم التشغيل المباشر لأجهزة الميدي، إضافةً إلى عدد التراكات المتقدم، والذي سهّل على المنتجين جعل موسيقاهم أكثر تعقيدًا وإبداعًا. الملفت أن الكثير من منتجي الجانغل ما زالوا يستعملون هذه البرمجيات حتى اليوم، سواء في الأداء المباشر في الحفلات أو في الإنتاج، فهي تخلق ذلك الصوت الكلاسيكي الترابي الخام. أغلب من أستعمل هذا السيكونسر كانوا من فطاحلة الجانغل والدرام أند بايس مثل أفروديت، بيزي بي، وبيت كانون الذي ما زال يستعمل الأوكتا ميد حتى اليوم.
يختلف عدد التراكات من برنامج إلى آخر، فمثلًا في الألتيمت ساوند تراكر، عدد التراكات محدود بأربع تراكات و١٥ صوت، وتلك أقصى قدرة يمكن للحاسب تحملها، ليزداد عدد التراكات إلى ثمانية تراكات في برمجيات أوكتالايزر، و صديق موسيقى الجانغل أوكتا ميد.
لطالما كان عدد التراكات تحديًا بالنسبة لصناع البرمجيات في وقت كانت قدرات الحواسيب محدودة جدًا، لتساعد هذه التحديات في تطور البرمجيات. بالنتيجة ظهرت برمجيات مثل كيوبايس من شتاينبيرج والذي كان أحد أوائل الدوز DAW ، والتي أتاحت للمنتجين استعمال نظام البيانو رول ونظام البلاي ليست سيكونسرز، لتتحول البرمجيات من نظام السيكونسرات الى الدوز المتكاملة. المثير أن هذا الدو مستمر في التحديثات والإصدارات حتى اليوم.
كانت ملفات المود Mod Files متواجدة في المشهد بشكل واضح، وهي عبارة عن شرائط فلوبي يحفظ عليها المنتجون موسيقتهم، ليتشاركوها بنفس صوتها، أو بملفّات ميدي تعمل على حسب الصوت الصادر من الجهاز. كان ذلك ثوريًا، فالاستماع إلى الموسيقى على الحواسيب لم يكن خيارًا متوفرًا، لتبدأ بعد ذلك الشركات بإصدار ملفات مود أشبه بالمكتبات الصوتية. كانت ملفات المود غير معلومة المحتوى بذاتها، إذ تأتي مع كتيّبات لمحتوى الأصوات. يوجد اليوم أرشيف عملاق لملفات المود الموسيقية بمختلف صيغاتها معروف بـ ذَ مود أركايف.
رغم قصر هذه الحقبة، الممتدة من منتصف الثمانينات حتى نهاية التسعينات، كانت منعطفًا في تاريخ الصناعة، فلأول مرة في التاريخ استطاع المنتجون صناعة الموسيقى من منازلهم، كما فتحت مجالًا كبيرًا للشغوفين بالمجال لتجربة صناعة الموسيقى بتكلفة أقل ودون حاجة إلى استديو عملاق مع معدات بعشرات آلاف الدولارات. إضافةَ إلى أنها ساعدت الموسيقيين أصحاب الاستديوهات في تسهيل عملية الإنتاج، فمثلًا أستعمل فنانون مثل آيفكس توين برمجيات التراكرز في تراكات مثل فوردهوسبن، وكذلك كالفين هاريس في ألبوم آي كرييتد ديسكو، كما احتوى استوديو جيتارست الجاز لي ريتنور على جهاز أتاري إس تي.
طورت هذه الجذور أنواعًا مختلفة من الموسيقى الإلكترونية كالجانغل والدرام آند بايس، الهارد كور بريك بيت واليو كي غراج، إضافة إلى الجنرا التي تمثل هذا المشهد بشكل عميق وهي التشيب تون. ظهرت التشيب تون نهاية السبعينات وتطورت من موسيقى الألعاب الكلاسيكية، مع أجهزة الـ ٨ بت، مع سنثات الإف إم من ياماها. مع ذلك ظهرت ثقافة تجميع الشرائح الصوتية لأجهزة الألعاب والسنثات لصناعة الموسيقى، لتستمر هذه الجنرا حتى اليوم بنفس طعمها الكلاسيكي، حتى حصلت على مكان في المسرح الرئيسي لمهرجان ماج سوبر فيست.
ظهرت موسيقى الجانغل في ألعاب الفيديو تزامنًا مع جيل ألعاب الفيديو الثالث، في بداية التسعينات، حيث ركز عليها العديد من المنتجين الذين تزعمهم اليابانيين حينها. إذ انتشرت موسيقى الجانغل في نوادي أوروبا واليابان الراقصة، ليستلهموا منها طرق لتطوير موسيقى جانغل لألعاب الفيديو، مثل روائع أيب إيسكيب على البلايستيشن ١ من صنع سويتشي تيرادا، بالإضافة إلى جُن شيكوما والتي عملت على موسيقى بومبر مان هيرو على جهاز نينتيندو ٦٤. هناك أيضًا بعض الأوروبيين مثل الهولندي ميكيل فان دين بوس الذي عمل على موسيقى لعبة أنريل تورنمنت، والويلزي تيم رايت الذي عمل على موسيقى وايب أوت ٣ على البلايستيشن ١.
كان هناك العديد من نسخ هذه الحواسيب في العالم العربي، مثل صخر، النسخة العربية من حاسب ياماها الياباني إم إس إكس الذي كان انتشاره واضحًا في الخليج العربي، وحواسيب سنكلير التي اشتهرت في مصر بشكل كبير. لكن للأسف لم يلاحظ أي استعمال لموسيقيي ذلك الجيل تلك الحواسيب لصناعة الموسيقى. قد يعود ذلك الى قدرات شركات التسجيل المالية الكبيرة، والتي لم تكن تبحث عن طرق أسهل من خلال استعمال الحواسيب حينها.
نجد اليوم العديد من البلاجنز التي تحاول محاكاة صوت تلك الفترة، مثل الأميجو سامبلر الذي يحاكي صوت الكارتريدج سامبلرز التي عرفت في الأميجا، وحتى التشيب سنث سي ٦٤ الذي يحاكي صوت شرائح الكومودور ٦٤ بجودة عالية. تؤكد هذه الحركة تجاه هذا الصوت على أهميته التاريخية وجماليته، مع النوستالجيا الكبيرة التي يحملها لجيل الثمانينات.
اليوم نشهد تطورًا تقنيًا كبيرًا في مشهد صناعة الموسيقى، مع إطلاق إيميج لاين لإصدار إف إل ستوديو ٢١، بينما تستعد أيبلتون لإطلاق آيبلتون ١٣. مع إمكانيات كبيرة لتسهيل صناعة الموسيقى لكل الهواة والشغوفين، وفي زمن أصبحت القرصنة فيه أسهل، أصبحت صناعة الموسيقى متاحة للجميع.