أجنبي جديد

بين النشأة والبعث | ٣٠ عامًا من إيفكس توين

محمد ياسر ۱۵/۰۲/۲۰۲۲

قدم ريتشارد ديفيد جيمس ما يقرب من ألف تراك، ما بين إصدارات طويلة وقصيرة وإصدارات غير رسمية وتراكات على ساوند كلاود وتراكات في أعماق الإنترنت، تحت اسم إيه إف إكس، وإيفكس توين، وجاك، وبرادلي سترايدر والعديد غيرهم، ليساهم في تطوير وإلهام الموسيقى حول العالم. أثرت موسيقاه بشكل مباشر في عشرات الفنانين مثل تايم إمبالا وفلاينج لوتس وبيورك وراديوهيد وأركا ودافت بنك، وحتى كانيه وست وترافيس سكوت. لكن شيءٌ ما يخص جيمس لا يمكن فهمه إلا من خلال شخصيته كـ إيفكس توين، الذي غاب فجأة لـ ١٣ عامًا ثم عاد ليس كما ذهب.

في ألبومات إيفكس توين من ١٩٩٢ إلى ٢٠١٤ تكمن معظم الإجابات.

سِلِكتد أمبيانت ووركس ٨٥-٩٢ – عام ١٩٩٢

 

يحتوي الألبوم على إصدارات جرى تأليفها بين ١٩٨٥ و١٩٩٢، في عام ١٩٨٥ كان عمر ريتشارد ١٣ عامًا، وفي عامه الـ ٢٠ قرر أن هذه المؤلفات هي أفضل أعماله حتى ذلك الحين، وجمعها في ألبوم يمكن القول بكل ثقة أنه كان بداية مشواره.

بعيدًا عن عنوانه، إلا أن الموسيقى المحيطة ليست عنصرًا قويًا في الألبوم باستثناء تراك واحد. رغم أن الألبوم ليس أكثر إصدارات إيفكس توين تعقيدًا من الناحية التقنية، إلا أنه أصبح أحد أهم ألبومات التسعينيات والموسيقى الإلكترونية بشكل عام. كان ظاهرة انبثقت منها فئة كاملة من الموسيقى، وأعطى سياقًا وتصورات – ليست دقيقة بالضرورة – عن مستقبل إيفكس توين، الصوت الإنجليزي الجديد الذي ظهر منذ بضعة أعوام بموسيقى متحررة من مدرسة برلين الإلكترونية إلى حد كبير. 

يتحرك الألبوم بشكل مذهل داخل عدة أنماط موسيقية، بأصوات أثيرية وإيقاعات بارزة تميل إلى الهاوس، ونسبة معقولة من الضوضاء. صنع إيفكس توين رابطة فريدة بين نغمات السنث الهادئة والأصوات العميقة لبناء طبقات صوتية بدقة وبراعة جعلت من الألبوم تحفة كلاسيكية حتى الآن؛ وجعلت من إيفكس توين اسمًا يستثير البحث وراءه، دون جدوى.

لاحقًا في عام ١٩٩٨ أصدر ثنائي بوردز أُف كندا ألبومهم الأهم ميوزك هاز ذَ رايت تو تشيلدرن، الألبوم المتأثر بشكل واضح بسِلِكتد أمبيانت ووركس ٨٥-٩٢، ليصبح علامة كلاسيكية أخرى.

سِلِكتد أمبيانت ووركس: الجزء الثاني – عام ١٩٩٤

خلال مدة تزيد عن ساعتين ونصف، وتتضمن ٢٤ تراكًا من الموسيقى المحيطة الصافية، رحلة طويلة ومتقلبة داخل ألبوم يستمر الجدل حوله بكونه أهم ألبومات الجنرا. لا إيقاعات ثقيلة، لا لحظات انفعالية، لا انفجارات مفاجأة، وإنما أصوات تقليلية ناعمة تتوسع وتنتقل بين الأمزجة والحالات النفسية، بين أصوات سوريالية مُقبضة، وأُخرى مسترخية، وأُخرى ميلانكولية، مع أصوات حالمة تأمليّة. بنسيج موسيقي متماسك كهذا ونغمات تكرارية يتدفق الألبوم لصناعة تجربة استماع كثيفة لا تُنسى. 

أخذ إيفكس توين مفهوم الموسيقى المحيطة، كما جرت صياغته على يد الألمان أمثال بوبول فوه وكلاوز شولز، ثم تحسينه بواسطة براين إينو في ميوزك فور ذَ إيربورتس، إلى منطقة أخرى، ضخ من خلالها استنتاجه الخاص، وحتى بشكل متميز عن الموسيقى الجديدة وقتها مثل موسيقى هارولد باد وستيف رايش. 

بحسب تصريح إيفكس توين معظم تراكات الألبوم مستوحاة من أحلامه الواعية (lucid dreams) داخل استوديو. يشكّل هذا التصريح أحد المرات النادرة التي يشارك فيها إيفكس توين بشخصه في الحديث الدائر حوله، وفي صناعة أسطورته، كشاب مغرور يصنع موسيقى معقدة ويلف نفسه بالغموض. غالبًا، تكون مشاركة إيفكس توين بعدم التصريح.

في عام صدور الألبوم طلب أحد الصحفيين إجراء مقابلة معه، فطلب منه بحماس الذهاب إلى سوبرماركت، وأخبره أنه يمكنهم التسوق والحديث معًا أمام منتجات البقالة بدلًا من ملل المكاتب. يقول الصحفي أنه انتظر نصف ساعة تحت المطر أمام السوبر ماركت ولم يظهر جيمس.

آي كير بيكوز يو دو – عام ١٩٩٥

هذا الألبوم مرحلة انتقالية بين كل الأصوات السابقة له وما تلاه، إذ ابتعد فيه إيفكس توين عن مرحلة استكشافاته المحيطة واتجه إلى بناءات صوتية أكثر قوة وتجريبية. هنا بدأت الهوية الغرائبية التي صارت غلاف الألبوم (الابتسامة المريبة المستهزئة) وظل يستخدمها حتى سنوات طويلة لاحقة، كما في تراكاته المصوّرة ويندو ليكر وكم تو دادي. رغم أن إيفكس توين لم يغير جلده بالكامل هنا، لكن تظل هناك فجوة واسعة بين أعماله السابقة وبين هذا الإصدار، فجوة حددت أسلوبه بشكل واضح، ورسمت ملامح أغلب أعماله اللاحقة. 

في آي كير بيكوز يو دو يصل إيفكس توين أولى قمم تجريبيته، بإضافات أوركسترالية وتناغم مدهش بين السنث والوتريات، واستخدامه للبيانو المعدل تأثرًا بستيف رايش للحصول على أصوات أكثر برودة، وكمٍّ معتبَر من النغمية والضوضاء. تفنن أيضًا في دمج المشاهد المحيطة والأسيد مع إيقاعات ثقيلة وأصوات حادة، يضاف إليها عناصر جديدة مع التقدم في التراكات لتحافظ على رشاقتها، ولتخرج أغلب تراكات الألبوم منفعلة وعنيفة، منهم واحد من أجمل ما قدم إيفكس توين، ألبرتو بلسالم، الذي لا تخلو قائمة مفضلات منه. لهذا قد يظهر الألبوم غير متماسك، ومن الواضح أنه لا يسعى لذلك، فهو عبارة عن تجميعات لمؤلفات سابقة لم تُنشر من قبل. 

في الألبوم أيضًا يأخذ إيفكس توين عينة من فيلم بورن استخدمها في تراك كَم أون يو سلاجز، معززًا فكرة إطلاق العنان للتجريبية. تتجلى قدرة أصوات إيفكس توين على الوصول، وتأثيره في المحيط الموسيقي حينها، في رغبة مؤلف الموسيقى الكلاسيكية فيليب جلاس في إعادة إنتاج إحدى تراكات الألبوم، إي سي سي تي هيدرال، الذي “استفزّ” جلاس.

بهذا الألبوم حسم إيفكس توين الجدل حول فيما إذا كان الحديث حوله مبالغٌ فيه أم لا. من يستطيع تغيير جلده خلال ثلاث أعوام فقط يستحق وضعه تحت الرادار، لكن في هذه المرحلة لم يعد إيفكس توين يكترث لأي رادار، فأسطورته بدأت بالفعل.

ريتشارد دي جيمس ألبوم – عام ١٩٩٦

أول ألبوم ينتقل فيه إيفكس توين كليًا إلى استخدام الكمبيوتر ويترك الأجهزة الأنالوج. ريتشارد دي جيمس الألبوم الرابع في مسيرة إيفكس توين، صُنع بالكامل على جهاز آي ماك، نصف ساعة من موسيقى آي دي إم خالصة تتفرع أحيانًا إلى دريل أند بايس، حيث يبرز التعقيد التقني خلال فوضوية طبقات الموسيقى وتداخلها معًا في نفس الوقت. من البناء إلى الفواصل إلى الانتقالات، تتنوع اللحنية بدرجات مختلفة عن أعماله السابقة، خصوصًا مع إكثاره من استخدام الآلات الوترية، الأمر الذي يشترك فيه هذا الألبوم مع آي كير بيكوز يو دو، لكن الاستخدامات هنا أكثر تطورًا ووضوحًا رغم كثافة الضوضاء وخشونة أغلب أصوات الألبوم. 

يضع أيضًا إيفكس توين بجانب الأصوات الوترية إيقاعات ناعمة لتخفيف حدة الدرَمز التي لا تتوقف على مدار الألبوم، لتعزيز صلابة البناء الهندسي للتراكات؛ فأحيانًا ينفجر الدرَمز بشكل مفاجئ وبدقات متسارعة، وفي الوقت ذاته تتآلف هذه الدقات مع الأصوات الحادة والوتريات حتى يهدأ الدرَمز، ويسطع اللحن وحده. 

هنا يجب التوقف عند تراك فينجربيب لخروجه عن سياق الألبوم. عند تشريح التراك الذي يعتبر من أجمل تراكات إيفكس توين، وأكثر تراكات الألبوم تميزًا، نجد أن الطبيعة اللحنية التي اختارها هنا تختلف في المضمون والبنية عن الأشكال السابقة لألحانه، وحتى بقية الألبوم. يُفتتح التراك بإيقاع لحني هادئ يتحور برفق ليخرج منه لحن داعم آخر يمتد ليضع فاصلًا موسيقيًا آخر يسمح للإيقاع بتغيير سرعته، ويفتح الباب لأصوات أخرى أكثر خشونة، لكن ليست بنفس مقدار خشونة بقية أصوات الألبوم. في مرحلة ما تندمج كل هذه الأصوات معًا بهارمونية مذهلة، دون أن يفقد التراك طاقته أو تماسكه.

يتشابه الألبوم في تكوينه وأصواته بدرجة كبيرة مع ألبوم أوتكر الكلاسيكي آمبر، أحد أهم ألبومات الموسيقى الإلكترونية، والذي أصّل لشكل معين في هذه الفئة. كان آمبر مرجعًا في استخدام الأصوات الإلكترونية والسنث، وألهم العديد من صناع الموسيقى الإلكترونية، من ضمنهم إيفكس توين، الذي خرج بأفكار الألبوم ووضع صوته الخاص ليشكل منها صورة أخرى لا يمكن الخلط بينها وبين ما قدمه أوتكر، تحولت بدورها إلى مرجع.

دروكس – عام ٢٠٠١

(دراج يوز بلغة إيفكس توين)

بعد خمس سنوات ومع بداية الألفية عاد إيفكس توين بألبوم مزدوج طويل، تخلى فيه عن الهوية البصرية المخيفة التي تقمصها في السنوات السابقة.

قبل هذا الألبوم، نجحت أعمال إيفكس توين بخطوط لحنية بسيطة وجذابة في طبيعتها، ما يجعل الأذن تستقبلها بسهولة، باستثناء أعماله التجريبية، لكن في دروكس أعاد إحياء شغفه الشديد تجاه صوت الأسيد، بأساليب وديناميكيات وأنسجة صوتية تطورت بشكل هائل عن أي عمل سابق له. يغرق إيفكس توين هنا في الموسيقى المبرمجة، من المحيطة المظلمة إلى الألحان التجريدية والأصوات الباردة وحتى الإيقاعات العنيفة، خلال ساعة وأربعين دقيقة لثلاثين تراك تتنوع وتتباعد. 

يمثل الألبوم تجربة استماع غير سهلة الهضم، ويقع في منتصف مسيرة إيفكس توين، راسما خطًا عريضًا يؤكد على نضجه الفني وعبقريته؛ مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يصدر ألبومًا طويلًا بعده لـ ١٣ عامًا. ألبوم غير متوقع لا يمكن التنبؤ بأي اتجاه يمكن أن يسلكه، يأخذك من الرقص بحماس في تراك بريك كور متسارع وعنيف إلى لحن شديد السنتمنتالية في قطعة بيانو صغيرة، إلى شعور غريب في تراك بأجواء شبحية، دون سابق إنذار، ليضع المستمع في حالة من عدم التوازن. يدفع إيفكس توين هنا كل أصواته إلى آخر مداها، في قطع البيانو القصيرة والتقليلية التي تشبه في بنيتها ولحنيتها نغمات إريك ساتي، وفي ضوضاء غزيرة وطبقات متعددة من الأصوات الثقيلة. من صنع هذه النغمات العذبة هو من صنع هذه الإيقاعات المنفرة، وهنا تكمن براعته.

يشاع حول هذا الألبوم أن إيفكس توين أضاع فلاشة تحتوي على بضعة تراكات، وخشي أن يجدها أحدهم ويسربها على الإنترنت فنشرها جميعًا في هذا الألبوم، ما قد يفسّر عدم تماسك الألبوم ككل، ويبدو كحيلة منه ربما لتبرير عاطفية وإنسانية الإصدار بأنها غير مقصودة.

سايرو – عام ٢٠١٤

بعد فترة طويلة من الانقطاع، يخرج ألبوم سايرو كتجميعة لجميع ملامح الألبومات السابقة، صورة أقل اكتمالًا، وهيئة تتداخل فيها تجارب واستنتاجات الماضي. لكل ألبوم من ألبومات إيفكس توين شخصية خاصة، عدا هذا الألبوم الذي اجتذب من كل شخصية جزءًا وبنى فسيفساء يستطيع عندها مستمع إيفكس توين فهم جذور كل جزء منها. بدلًا من الشعور بالتطور الذي حدث مع كل مرحلة سابقة، يبدو سايرو كأنه خطوة للخلف، يعود فيه إيفكس توين إلى استكشافاته القديمة، وكأن مسيرته استمرت في الصعود حتى دروكس ثم عادت مرة أخرى بشكل حاد إلى صورها الأولية. ليس المقصود بذلك وصف سايرو بالرداءة، لكن لرسم سياق عن ما يحدث في هذا الألبوم، كنسخة مصقولة من صوت إيفكس توين لكن غير متطورة، هذا الألبوم هو خلاصة تجربة وتاريخ إيفكس توين.

هناك تلميحات من الأسيد هاوس من سِلِكتد أمبيانت ووركس الأول، وأصوات دريل أند بايس من ريتشارد دي جيمس ألبوم، وموسيقى محيطة نقية من سِلِكتد أمبيانت ووركس الثاني. نسمع أيضًا ضربات سريعة وصاخبة من دروكس، بالإضافة إلى ومضات أخرى من الإصدارات القصيرة مثل ويندو ليكر وفينتولين وكَم تو دادي، وصوت سلسلة أنالورد التي أنتجها تحت اسم إيه إف إكس. لذا يُعد سايرو الألبوم الأسهل في الاستماع بين الألبومات الستة ومدخلًا جيدًا لعالم ريتشارد ديفيد جيمس، مركَّزًا في جلسة استماع واحدة. سايرو ألبوم دقيق ومُهندس بعناية شديدة وحريص في سهولة وصوله للأذن، على عكس مراحل سابقة من حياة إيفكس توين كانت الموسيقى فيها تتحدى الجمهور أكثر مما تجذبه، ما قد يعطي تخيلًا عن نمو ريتشارد الشخصي. 

يختتم إيفكس توين الألبوم بواحد من أكثر تراكاته عذوبة، أيزات سانا ١٠٢، لحن بيانو بسيط ورقيق، يدعو للتأمل بحزن وسلام، وفي خلفيته مجموعة من العصافير تغرد بوداعة. هذا التراك عكس كل ما حدث في هذا الألبوم. حتى أنه لدى الوصول إليه يبدو وكأن العالم قد صمت فجأة. بعد رحلة استمرت ساعة من البايس العميق ونغمات السنث التصاعدية والإيقاعات المتشابكة الحادة، يأتي أيزات سانا ١٠٢ الذي يستمر لمدة خمس دقائق ليختم آخر ألبوم كامل أصدره إيفكس توين.

يُعتبر سايرو أفضل أعمال إيفكس توين من حيث الجانب البصري، التي وصلت قمتها في إصداره القصير كولابس بتصميم غلاف مذهل وفيديو كليب يُعد أفضل ما قدمه بصريًا. مع ذلك، لم يقدم الألبوم جديدًا من الناحية الموسيقية، وكأن الاضطرابات التي مر بها صاحبه هي التي صنعت الموسيقى.

في ٢٠٠٢ رفض إيفكس توين اللعب في جولة مع راديوهيد، الذين ذكروا أن انتقالهم إلى الموسيقى الإلكترونية بألبوم كيد إيه كان بتأثيره،  لأنه “لا يحب موسيقاهم”. بعد تسع سنوات من هذه الواقعة أعلن أن كراهيته لراديوهيد كانت مبالغة إعلامية.

تغيرت شخصية جيمس كثيرًا من هوسه بكل ماهو غريب واستهزائه المتواصل بالإعلام، وسخريته من الطرق التي تسير بها الأمور في العالم من حوله، إلى تقبل الأوضاع والتعامل بحرص مع أفعاله وأقواله. كأنه كان في حرب بين هويته الحقيقية وهوية إيفكس توين، بين صراعات أيام مراهقته وأزماته النفسية التي تركها تُحرك الموسيقى التي ينتجها وتُحدد وجهة هويته، وبين الطرق المشوشة التي سلكها ليحمي نفسه من العالم.

يفصح سايرو عما حدث لأسطورة إيفكس توين خلال الـ ١٣ عامًا التي غابها. ألبوم يحتوي على كولاج مصنوع بجودة عالية من نسخه السابقة وأفكاره وأصواته، كتحية لكل ما مر به ليصل إلى سلامه وأسلوبه الأصلح للتعامل مع العالم، دون التنصل من شيء. في العام ذاته حصد الألبوم جائزة جرامي، لكنه بالطبع لم يذهب لاستلامها.

المزيـــد علــى معـــازف