.
كانت دائما تقول “هو ليس بالصوت الكبير، فتارة يصعد عدة نغمات إلى أعلى وتارة أخرى للأسفل، ليس صوتا شرعياً“. لم يكن صوتاً قوياً، ممتلئاً، بل كثيراً ما تسلل إلى تلك المساحة بين الغناء والحديث. بدا كصوت مؤدي أكثر من مُغني. ولكنه صوت برع دائماً في إعادة تشكيل التناغمات لأي قطعة موسيقى، ليخلق إيقاعات مرتجلة بين الجمل الموسيقية تحمل كثير من التباطؤ والتوتر الذي يأسر المستمع في حالة أشبه بالطرب.
شهد عام ٢٠١٦ مرور أكثر من قرن على ميلاد بيلي هوليداي لتصبح اليوم أكثر شهرة مما كانت عليه طوال حياتها الفنية القصيرة نسبياً بدأت بيلي هوليداي بتسجيل أول أسطوانة لها ١٩٣٣ وآخر جلسات تسجيل لها كانت ١٩٥٨ Lady in Satin ولتنهال الإشادات الواحدة تلو الأخرى لمن هي في اعتقاد الكثيرين، من أهم علامات الغناء الحديث في تاريخ الموسيقى الأمريكية باختلاف أنواعها.
يصعب الكتابة عن حياة بيلي هوليداي دون السقوط في فخ التنميط والإثارة. فهي إمرأة أولاً، بالكاد تجيد القراءة والكتابة، من أصول أفريقية، نشأت في فقر مدقع، وبحلول عامها الخامس عشر كانت تعمل في منزل دعارة. تصبح سيرتها الذاتية معرضة للمزيد من الجدل والتهويل بتقاطعها مع صعود قوانين جم كرو مجموعة قوانين عنصرية ظهرت في جنوب الولايات المتحدة ترسخ الممارسات العنصرية ضد الأفرو-أمريكيين Jim Crow laws حيث وجدت هوليداي نفسها في مواجهة تمييز شديد ضدها كإمرأة أولا وكشخص من أصول أفريقية ثانياً.
من ناحية أخرى استغل النظام الرأسمالي موهبتها الفريدة لجني أموال طائلة، وفي نفس الوقت انتقم منها بسن قوانين عنصرية ضاعفت من مآسيها. ما يزيد الأمر تعقيداً هو أنها أقدمت على كتابة سيرة حياتها الشخصية، Lady Sings the Blues، مع الصحفي ويليام دفت في ١٩٥٦ لتؤجج كل تلك الإشاعات عن مأساة الأفرو–أمريكيات ومواجهتهم نظام ذكوري–عنصري–رأسمالي يقوم بقهرن واستغلالهن بأبشع الصور وأكثرها عنفا.
بعيدا عن نميمة المشاهير والشفقة على حياة هوليداي – التي كانت بالفعل مليئة بالعنف والتعاسة – لا نستطيع إلا أن نعترف بظلم ذلك النظام الاجتماعي الاقتصادي السياسي، الذي أدى إلى موت هوليداي بشكل تعيس ومأساوي (توفيت بليي هوليداي وهي مربوطة في سرير مستشفى بتهمة حيازة مواد مخدرة). في نفس الوقت، سنتذكرها كما أرادت وحسب ما صنعت وما خلفت من إرث موسيقي في غاية التعقيد والثراء. فهي لم تكن مجرد ضحية نظام عنصري ظالم، بل كانت فنانة متفردة وغاية في الحساسية والعبقرية.
في ٧ أبريل ١٩١٥ ولدت أليانورا في مدينة بولتيمور في ولاية ميريلاند، لأب وأم لا يتعدى عمراهما العشرين عاماً. والدها كان عازف جيتار رفض العناية بالطفلة الصغيرة، الأمر الذي ترك في نفسها أثراً كبيراً جعلها تتحاشى أباها حتى وفاته. في المقابل كانت أمها لا تزال مراهقة تترك الطفلة الصغيرة لأقربائها أو أي كان. في عامها العاشر تعرضت لمحاولة اغتصاب و”عوقبت” إثرها بنفيها إلى مدرسة إصلاح كاثوليكية حتى تدخل أحد الأقرباء وأُطلق سراحها. في عام ١٩٢٧ ذهبت هوليداي مع والدتها إلى نيويورك لتستمر بالعمل في الدعارة وبوظائف غير رسمية حتى ذهبت يائسة إلى هارلم، قلب الموسيقى الأفرو–أمريكية في ذلك الوقت، لتحاول أن تعمل كراقصة في حانة. لم تكن راقصة بارعة ولكن عازف بيانو أخذته الشفقة بها وسألها: “هل تجدين الغناء” فأجابت: بالطبع!
“لطالما أردت صوت بيسي الكبير و إحساس بوب“
بيلي هوليداي
مع بداية القرن العشرين وهجرات السود الواسعة من ولايات الجنوب إلى الشمال نتيجة لقوانين جم كرو العنصرية، في نفس الوقت الذي بدأ فيه إنتاج اسطوانات الجرامافون بشكل تجاري، ظهر شكل جديد من الغناء يجمع ما بين الغناء الاستعراضي–المسرحي، مع مزيج من عناصر الجاز وفرق عزف الجنوب. تسيّد هذا المشهد مجموعة من الموسيقيين اليهود مثل Irving Berlin وGeorge Gershwin، مهاجرين أو أبناء مهاجرين من شرق أوربا غالباً، تفننوا في تلحين قوالب للمسرح الغنائي (مستعيرين كثيراً من أغاني وتراث يهود شرق أوربا). مع النقلة النوعية في تقديم الاسطوانات بشكل تجاري ظهر مشهد ما يعرف بالـ تن بان آلي Tin Pan Alley. لا يعرف أحد بالتحديد لم سميت هذه الموسيقى بهذا الاسم، لكن يرجح أنه ظهر نتيجة وجود عدة شركات انتاج تعرض خدماتها من ملحنين ومؤلفين عن طريق اللعب بشكل متواصل في فترينات المحلات فيتراءى للسامع أن الأصوات المتداخلة تشبه قرع الأواني.
على شارع بروادواي في نيويورك تطورت هذه التركيبة (والتي مازالت مستمرة بشكل ما في موسيقى البوب إلى الآن) وغزت السوق الأمريكية الكثير من مطربات والمطربين الذين استعاروا من المسرح الغنائي موضوع وشكل الأغنية القائم دوماً على العلاقات العاطفية ومشاكلها. كأي أسلوب غنائي تم قولبة الـتن بان آلي حتى أصابه الكثير من الجمود وأصبح بموضوعاته وموتيفاته وإيقاعاته مملاً ومتوقعاً. في ظل هذه الهيمنة تم اكتشاف بيلي هوليداي من قبل المنتج الأسطورة جون هاموند والذي انبهر بأدائها الذي لم يتبع تقاليد غناء الاستعراض أو حتى البلوز بشكل حرفي، لكنه مزج الاثنين وأضاف إيقاعات الجاز المتقطعة والمتغيرة بشكل غير مسبوق (كانت هويليداي تقول دوماً إنها متأثرة بعزف وغناء لووي آرمسترونج). سجلت بيلي هوليداي أولى أغنياتها مع شركة كولومبيا والتي نرى فيها بوضوح بقايا آثار الـتن بان آلي (مقدمة موسيقية–غناء–إعاد المقدمة بتنوعات موسيقية–غناء–إعادة عزف الموتيف الرئيسي).
ليس في ذلك ما يثير الدهشة، ليس فقط لأنه كان ينظر إلى هوليداي كمغنية مبتدئة لا تتمتع بالتقدير الكافي لتقوم شركة الإنتاج باستجلاب ألحان وكلمات مميزة أو مختلفة لها، ولكن أيضا لأنها سوداء، مما عنى عدم تمتعها بكامل الحرية في اختيار مادتها الفنية. بعد بضعة سنين على هذا الحال استطاعت هوليداي أخيراً أن تطور مادة خاصة بها لتنفض عنها غبار الـتن بان آلي، لتغيرها تماماً وتنقلها بشكل مبهر إلى مستمعي عصرها.
استمرت بيلي في الغناء في نوادي نيويورك الليلية، وأصبحت تلك الحانات والملاهي الحيز الاجتماعي الذي تحركت فيه. كان ذلك في الثلاثينيات عندما لم تخل هذه النوادي من الخمر والمواد الممنوعة مثل الكوكايين والحشيش. تقاطعت حياتها الشخصية مع فنها مرة أخرى إذ أصبحت هدفاً لـ شرطة نيويورك التي سجنت وعاقبت هوليداي بشتى الطرق خلال حياتها الفنية وحتى وفاتها. مع ذلك استمرت بيلي في الغناء وكان عقد منتصف الثلاثينات إلى منتصف الأربيعنات الأغزر إنتاجاً لها، بالأخص مع شركة كولومبيا (١٩٣٣-١٩٣٩) وشركة دكا (١٩٣٩-١٩٤٤). مع نهاية الثلاثينات أصبحت هوليداي أول سوداء تغني مع فرقة من الموسيقيين البيض فرقة Artie Shaw، فواجهت انتقادات شديدة ولعب العرق دوره مرة أخرى في حياتها. في المقابل كان العرق أيضاً سبب اختيارها لتغني في Cafe Society في نيويورك، أحد الأماكن القليلة التي كانت تستقبل جمهوراً مختلطاً من البيض والسود. قدم لها صاحب المقهى أغنية ستراينج فروت التي قام بكتابتها آبل ميروبول بعد أن شاهد صورة لعملية إعدام عشوائي Lynching لشابين أسودين. أصبحت ستراينج فروت إحدى أهم أغاني بيلي، وأصبحت أول مغنية تغني معارضة للممارسات العرقية في أمريكا.
صاحب ذلك تنقل بيلي بين فرق مختلفة من تيدي ويلسون، إلى كونت بيسي إلى آرتي شو. عند كل تغيير توسعت بيلي في اختياراتها الفنية حتى ابتكرت قسم وتريات كجزء من فرقتها. خاطرت بذلك عدم استساغة جمهور الجاز لمثل تلك الإبداعات، وظهر ذلك جليا في أغنيتها لفر مان التي غنتها في ١٩٤٤.
تبخر أثير الويسكي الذي أدمنته بيلي وتهدج معه صوتها الذي بدأ يظهر عليه علامات الوهن والضعف مع نهايات الأربعينات. كانت ذلك تجلياً رمزياً فسيولوجياً لعواقب الاختيارت الشخصية والإنسانية (من أزواج قاموا بتعنيفها وسرقتها، لوفاة والدتها، لإدمانها المواد المخدرة) التي اتخذتها بيلي. استعرت حولها الدعاية الإعلامية عن “الصوت الذي يمثل معاناة” الأفرو–أمريكيات، ليستهلكه الجمهور في حالة من النشوة والشفقة لإشباع تلك الرغبة في رؤية الآم الآخرين من خلال تهالك وضعف ذلك الصوت. إذا أخذنا لفر مان كمثال واستمعنا إلى تسجيل ١٩٥٤ في قاعة كارنيجي يتراىء لنا وكأننا نستمع إلى شبح المرأة التي غنت نفس الأغنية في ١٩٤٤.
رغم أن عبقرية هوليداي وقدرتها غير المسبوقة على التلاعب بالزمن والإيقاع ظلت كما هي إلا أن صوتها بدأ يتداعى ويفقد الكثير من بريقه. هذا يجعل النظر إلى هوليداي دون سردية المعاناة والألم أو الحقائق التي شكلت حياتها تحت نظام رأسمالي–قمعي–عنصري شبه مستحيلاً. فهي كانت مدركة تماماً كيف استغل الإعلام مآسيها الشخصية وواعية لرغبة العديدين في إسقاط نوازعهم التراجيدية عليها. بل حاولت استغلال ذلك بنفسها فنشرت سيرة ذاتية بها الكثير من الاختلاق – ليس في ما يخص حقائق موسيقاها ولكن ما يخص حياتها الشخصية. ما يجدر بنا أن ننتبه إليه الآن هو حقيقة أن هوليداي عانت كثيراً، وسقطت سقوطاً تراجيدياً، ولكنها موهبتها الفريدة هي التي جعلتها موسيقية عظيمة، عبقريتها التي مكنتها من إعادة تشكيل تناغمات الموسيقى بإيقاع زمني مختلف.
يعتقد البعض أن أهم ما أضافته تقاليد غناء وإنشاد المجتمعات الأفرو–أمريكية –الدينية والدنيوية منها– هو الاستغلال العبقري لأنماط السكون والحركة للكلام المتحدث، ونقل تلك الأنماط لمجال مثل الغناء أو الأداء (المثال المعاصر على ذلك هو الراب) فيظهر ذلك جليا في الغناء الديني أو البلوز على سبيل المثال. مع بدايات القرن العشرين ومع تصاعد الـتن بان آلي، لم يكن هناك مغنين أو مغنيات حاولوا استغلال تلك المساحة من الارتجال بين أنماط السكون والحركة للكلام والإيقاع والزمن في الغناء لخلق أثر معين على وقع السامع، أو شخصنة أسلوب الأداء أو نقل نوع من الدراما تعتمد على الشكل التقني السليم للغناء. في تلك المساحة المبهمة (والتي يصعب حتى الآن تحليلها بشكل كامل وعلمي) بين ما يمكن فهمه عن كيف نتكلم وعلاقة ذلك بالموسيقى والإيقاع، تكمن عبقرية بيلي هوليداي.
ما فعلته بيلي هو ما يسمى بـ ارتجال الإيقاع من داخل الإيقاع، أو الوقت ثنائي–المسار. على سبيل المثال، إذا كانت الفرقة تلعب بمقياس زمن ٤/٤، تغني بيلي عند مقطع محدد أو حتى كلمة بإيقاع زمني ٤/٣، فتتأخر عن الفرقة ويتوهم المستمع أن الإيقاع قد تغير، ولكن ما فعلته هو تباطؤ محسوب، تنقل فيه نبرة لمقطع محدد أو جملة معينة في ارتجال يخلق توتراً لامتناهياً عند لحظة تغيير الإيقاع. استعملت بيلي ذلك التباطؤ لتضفي معنى معين للكلمات التي تغنيها بعيدا عن اتباع النغمات مباشرة والتي قد لا تأخذ في الاعتبار خصوصية المعنى للكلمة.
دفعت طريقة بيلي في الغناء البعض للتساؤل “أين اللحن؟“. لم يكن صوت بيلي بالضرورة جميلاً أو متسعاً، كما اتهمها البعض بأنها بطيئة ومملة. الحقيقة هي أن تباطؤ بيلي وتسارعها لتتماشى مع معنى الكلمات التي تغنيها دون الإخلال بالإيقاع الزمني لهو حدث فريد في موسيقى القرن العشرين في أمريكا، وبالتالي العالم. ما فعلته بيلي هو جوهر موسيقى الجاز كما نعرفها، إعادة تقسيم الزمن في وحدات متشابكة مرتجلة تُخلّ بتوقعات المستمع وتخلق حالة من الترقب المستمر والدهشة. على الرغم من أن هوليداي لم تتلقَّ أي تعليماً تقنياً للموسيقى إلا أن تلك الحساسية الشديدة لعلاقة الكلمات بالأداء والإيقاع الزمني كانت سابقة لعصرها بعقود، بل لنقل قرون. ما زلنا إلى الآن نندهش عند سماع هوليداي تتفرد مقارنة بمعاصريها ويظل صوتها وأداؤها معبراً ومتجاوزاً أساليب معينة وأذواق عابرة. جمعت هوليداي بين العديد من الموسيقات التي تأثرت بها – سابقة ومعاصرة – ومزجتها برؤية وإحساس متفرد لكيفية شخصنة الغناء. وليأتي كل مغني أو مطربة بعدها لتحاول تقليدها أو الاستعارة منها وتبقى هي متفردة تماما بذلك التحكم العجيب في الزمن والتباطؤ السحري الذي مازال يأسر مستمعيها حتى الآن.