.
نُشر هذا المقال سابقًا في عدد مطبوع من مجلة طواسين.
للصوت دور مقدس في التصوف، ولهذا توسط مكانة مهمة في سلوك ورحلات كثير من الأولياء والصالحين عبر التاريخ. نجد مثلًا ذلك الرعيل الأول من المسلمين الذين شهدوا لقاءً مدهشًا بين السماء والأرض، تنزل على الجسد النبوي من خلال الوحي الإلهي المتجلي في أنواع مختلفة من الأصوات: كرنين الجرس، طنين النحل، أو ضمة الملك جبريل للرسول التي أبلغه أثناءها بالأمر الإلهي: “إقرأ”. تخللت هذه التجربة النبوية حياة وتجارب المسلمين الأوائل الذين كانت تلاوتهم للقرآن بالنغمات وتراتيلهم المتواصلة للذكر تومئ وتذكّر بذلك الاجتماع الأزلي بين السماوات والأرض.
مع الأخذ بعين الاعتبار الأهمية البالغة للموسيقى في المجتمع العربي والمحيط الجغرافي ما قبل الإسلام، فليس من الغريب أن قدسية الصوت، وخصوصًا النغمات والألحان، استمرت بعد ظهور الإسلام لقرون. فيما يخص المتصوفة مثلًا، نجد في الرسالة القشيرية لأبي قاسم القشيري (م. ١٠٧٤) نظرة دقيقة لهذا الدور المهم للموسيقى والألحان التي تصل إلى قلوب البشر عن طريق الاستماع. في باب مخصص لهذا الموضوع تحت عنوان السماع إلى الموسيقى نستطيع أن نستلهم أهمية الموسيقى والسماع عند هذا الرعيل الأول من الزهاد والصالحين.
خذ مثلًا قول الزاهد الصوفي ذو النون المصري (م. ٨٥٩) الذي أجاب حين سئل عن الموسيقى: “إنها وارد إلهي يحرك القلوب إلى الله. فمن أخذها بالحق تحقق، ومن أخذها بالنفس الدنية تزندق.” أيضًا نجد قول سيد الطائفة، أبو قاسم الجنيد (م. ٩١٠) الذي قال: “إن الرحمة الإلهية تتنزل على الفقراء في ثلاث مواقع: عند سماعهم للأنغام والألحان، فإنهم لا يستمعون إليها إلا بهمة عالية ولا ينطقون إلا عن وجد مع الله؛ وحين يأكلون الطعام، فإنهم لا يأكلون إلا لحاجة ملمة، وحين مناقشتهم للأمور الدينية، فإنهم لا يذكرون إلا خصائص الأولياء الصالحين.”
ما يتضح من هذه المقولات وغيرها الكثير في الرسالة القشيرية وغيرها من كتب الصوفية، هو أن المتصوفين ينظرون إلى النغمات والألحان، المستخدمة في غير قراءة القرآن أو الأذكار والتواشيح، على أنها عطاء روحي في غاية اللطافة والرقة، والخطورة أيضًا. حيث إنها إذا وصلت إلى أذن مستمع لم تتهذب نفسه وسجيته بعد قد تودي هذه الألحان إلى ارتكابه عملًا خاطئًا نتيجة وجد أو، ما هو أكثر خطورة، أن تغذي هذه الألحان النفس الحيوانية عند الإنسان فيبتعد عن الله والحضرة الربانية. لهذا السبب نجد القشيري نفسه يفسر كلمة يحبرون في آية: “فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون” (٣٠:١٥) أن معناها السماع إلى الموسيقى. تظهر الموسيقى هنا كالسكر الروحي مثلًا، فكلاهما مثالين لتجربة وذوق يتطلبان دقة عند المستمع وتأمل ووعي روحيين.
استمر هذا التأكيد على قدسية الصوت والموسيقى في التصوف حتى وقتنا الحالي. نجد مثلًا تحليلًا صوفيًا رائعًا لهذا الموضوع في كتابات الموسيقار والصوفي المشهور حضرة عناية خان، الذي هاجر من الهند متجهًا نحو الغرب ونشر مفاهيم السلام التي اتسمت بها تعاليم الصوفية في القارتين الأوروبية والأمريكية، مؤكدًا في تعاليمه على أهمية الصوت والموسيقى كعنصر مهم ومقدس في الفيض الإبداعي الإلهي. كما نجد الكاتب يستفسر في مؤلفه روحانية الصوت والموسيقى: “لماذا سميت الموسيقى بـ الفن الإلهي؟ لأن الصوت وحده هو المجرد عن الصورة والجسد”، ويوضح: “ما يعجز عن وصفه الرسم قد يستطيع القلم أن يوجزه. لكن ما يعجز حتى الشعر عن شرحه نجد انحناءاته في الموسيقى.”
ننتقل الآن إلى شيخ التصوف الأكبر، محيي الدين ابن عربي (م. ١٢٤٠)، لنجد أن أهمية الفن عمومًا في فكره قلما شرحها المتخصصون والمفكرون. أما فيما يخص الصوت والموسيقى فظاهرًا لم يهتم بها أحد كاهتمامهم بنواح أخرى من كتاباته، ما عدا بعض المفردات المذكورة في بعض الدراسات الإجمالية ككتب المفكر الأمريكي ويليم شتك: طريق التصوف العلمي وتجلي الله. يستوقفنا هذا الأمر بعض الشيء، لا سيما أن كتابات الشيخ قد نالت إعجاب الكثير من الباحثين، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضًا أهمية الموسيقى في عقائد وشعائر الصوفية عبر التاريخ.
كأسلافه من أمثال القشيري وذي النون المصري والجنيد، يناقش ابن عربي هذا المجال الصوتي للإبداع أيضًا من منظور السماع، وهو مفهوم يحتوي على عدة معان علينا أن نفهمها أولًا قبل أن نغوص في كتابات الشيخ. مع أن الباحث الأمريكي ألكسنادر كنش، الذي ترجم الرسالة القشيرية إلى الإنجليزية، ترجم مفهوم السماع إلى الموسيقى، قد يكون من الأفضل أن نصف هذه الكلمة بأنها مجلس استماع، لا سيما فيما يخص الذكر والشعائر الصوفية. مع هذا، فإن اختيار المترجم للفظة الموسيقى يفتح لنا بابًا فكريًا واسعًا نستطيع من خلاله أن نناقش أهمية كتابات ابن عربي فيما يخص دور وأهمية الموسيقى في ثقافة المجتمعات المعاصرة.
من المهم أيضًا أن نؤكد على الأسس والمعاني القرآنية لكلمة السماع التي تؤثر تأثيرًا واضحًا على فهم ابن عربي لهذا المفهوم؛ ففي القرآن نجد الصورة الفعلية للسماع، سمع أو استمع. نقف مثلُا عند آية: “قد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء” (٣:١٨١) أو “وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدا.” (٧٢:٩)
من هذا المنظور القرآني يبدأ ابن عربي بمناقشة السماع في كتاباته، فتجتمع في فكره الدلالتين، الاسمية (السماع) والفعلية (الاستماع)، لهذا المفهوم، والتي تسمح له بالغوص في أعماق اللغة العربية من خلال إبداعه في فن الاشتقاق اللغوي الذي عرف به جيدًا. هكذا يخرج لنا ابن عربي معان كثيرة للسماع يحاول من خلالها أن يومئ إلى حقيقة ميتافيزيقية وروحية. من هذا المنظور نجد أن للسماع معنًى لطيفًا جدًا في صورته الفعلية، ألا وهو الحالة الروحية الحاضرة دائمًا في تأهب وصول الوحي الإلهي. من هذا المنطلق فقط يمكن لنا أن نتوقع المعاني والطرق الكثيرة، التي يستطيع ابن عربي أن يبحر من خلالها إلى أعماق هذا الموضوع، فيما يخص السماع الروحي، والتي لها أيضًا أن تنقلنا من العالم المادي إلى الروحي والمعنوي.
فيما يلي، سوف نبحر في كتاب الفتوحات المكية، مؤلَّف الشيخ الأكبر الأهم، لنستكشف ذكر السماع في هذه الموسوعة الصوفية الشاملة. يوجد في الفصول الخمسمائة والستين من هذا الكتاب أكثر من خمسين ذكرًا لكلمة السماع. من بين كل هذه الصفحات، نجد سبعة منها تطوف حول موضوع الموسيقى والألحان. في الفقرات والصفحات القليلة القادمة سنحاول أن نستنبط أهداف وآراء الشيخ من وراء كل هذه الإشارات، انتهاءً بموجز نلخص فيه أهمية السماع والموسيقى عند ابن عربي وتوابع نظرته في هذا الموضوع لواقعنا المعاصر.
يأتي الذكر الأول للسماع في الفصل الثالث والثلاثون، تحت عنوان في معرفة أقطاب النيات وأسرارهم وكيفية أصولهم ويقال النياتيون. بعد بداية هذا الفصل بقليل، يشرع المؤلف في شرح سبب اهتمام الأقطاب المذكورين بنوايا القلوب:
واعلم أن هؤلاء الرجال إنما كان سبب اشتغالهم بمعرفة النية كونهم نظروا إلى الكلمة وما فيها، فعلموا أنها ما ألفت حروفًا وجمعت إلا لظهور نشأة قائمة تدل على المعنى الذي جمعت له في الاصطلاح، فإذا تلفظ بها المتكلم فإن السامع يكون همه في فهم المعنى الذي جاءت له، فإن بذلك تقع الفائدة ولهذا وجدت في ذلك اللسان على الوضع الخاص. لهذا لا يقول هؤلاء الرجال بالسماع المقيد بالنغمات لعلو همتهم ويقولون بالسماع المطلق، فإن السماع المطلق لا يؤثر فيهم إلا فهم المعاني، وهو السماع الروحاني الإلهي وهو سماع الأكابر والسماع المقيد إنما يؤثر في أصحابه النغم وهو السماع الطبيعي.
ابتداءً من هذه الفقرة الأولى يعطينا ابن عربي تفصيلًا دقيقًا لأنواع السماع المختلفة، وهو تجنيس يشبه تصنيفات أخرى نجدها في الفتوحات المكية، خصوصًا في استعمال المؤلف للفظ المقيد والمطلق. ما يظهر من الفصل بين نوعي السماع المذكورين هنا هو أن المؤلف لا يرى فائدة في الاستماع إلى النغمات التي لا هدف منها سوى تحريك المشاعر الإنسانية وحسب، بينما يؤكد على أهمية السماع الذي يصدر عنه معرفة إلهية تكون موصولة بمعاني الكلمات وأصوات الحروف. في هذه الفقرة نجد أن السماع المطلق والمقيد نوعين مختلفين تمامًا من الاستماع إلى الألحان.
يأتي الذكر الثاني للسماع في الفصل المائة وسبعة وستين، تحت عنوان في معرفة كيمياء السعادة. يحتوي هذا الفصل على إحدى روايتي المعراج الروحي التي يذكرها المؤلف في الكتاب. أما إحداهما فتسرد رحلة الشيخ نفسه الروحية إلى حضرة الخالق في صيغة المتكلم. أما القصة الثانية التي نحن في خضمها الآن، فتروي تفاصيل عروج شخصين: التابع المحمدي أو الولي وصاحبه الفيلسوف المفكر. بعد أن أكمل المؤلف ذكر الأحاديث والأحداث التي يشهدها التابع المحمدي في السماء السابعة، يقول:
ثم إنه يفارق هذا الموضع ويزج به في النور الأعظم فيغلبه الوجد، وهذا النور هو حضرة الأحوال الظاهر حكمها في الأشخاص الإنسانية، وأكثر ما يظهر عليهم في سماع الألحان فإنها إذا نزلت عليهم تمر على الأفلاك ولحركات الأفلاك نغمات طيبة مستلذة تستلذ بها الأسماع كنغمات الدولاب؛ فتكسو الأحوال وتنزل بها على النفوس الحيوانية في مجالس السماع، فإن كانت النفس في أي شيء كانت من تعلق بجارية أو غلام. أما أن يكون من أهل الله فيكون تعلقه حب جمال الإلهي … ومنهم من يغمره الحال لا من حضرة التخيل بل يجد أمرًا لا يكيف ولا يدخل تحت الحصر والمقدار؛ ومنهم من تهب عليه من هذه الأحوال التي تعطي الوجد روائح على نفوس غير عاشقة إلا بنسبة جزئية لا كلية.
في فرق واضح بين هذه الفقرة والتي قبلها، لا يتحدث ابن عربي هنا عن الألحان والنغمات على أنها مجرد أصوات دنيئة تحرك نفس الإنسان الحيوانية، بل إنه يلمّح إلى كونها نوعًا من الحوار يتصل بأرقى الأحوال الروحية التي تتجلى من فوق سبع سماوات. هنا أيضا نجد أن الشيخ قد ركز على نية المستمع، لا اللحن أو النغمة بحد ذاتها، كونها الفرقان الذي يفصل بين السماع المحمود والمذموم. أو بطريقة ثانية لنا أن نقول أن هذه الفقرة تشرح التي تسبقها، حيث أن السماع المقيد والمطلق لا يشيران إلى نغمة أو لحن معينين، ولكن إلى نفس المستمع، ونيته وتعلقه الروحي أثناء الاستماع.
أما الذكر الثالث للسماع فيطرأ في الفصل المائة وثمانية وسبعين، تحت عنوان في معرفة مقام المحبة. يناقش المؤلف مفهوم السماع من خلال بحثه عن أصل الخلق والجنس الإنساني خصوصًا، وماهية التخاطر الأول بين هذا الكون وخالقه. يأخذ ابن عربي هنا تأكيده على أهمية الألحان إلى مدى أبعد يبرز فيه الألحان على أنها وسيلة وطاقة تستطيع أن توقد في وجدان الإنسان شرارة ذكرى مقدسة أزلية:
فقبل صور العالم وأرواحه وطبائعه كلها، وهو قابل إلى ما لا منتهى له فهذا بدء حبه إيانا. وأما حبنا إياه فبدؤه السماع لا الرؤية، وهو قوله لنا ونحن في جوهر العماء ‘كن‘، فالعماء من تنفسه والصور المعبر عنها بالعالم من كلمة كن فنحن كلماته التي لا تنفد … فهذا كان سبب حبنا إياه ولهذا نتحرك ونطيب عند سماع النغمات لأجل كلمة كن الصادرة من الصورة الإلهية غيبًا وشهادة.
تؤكد هذه الفقرة ما طرحناه سابقًا أن ابن عربي لا يرى أن اللحن أو النغمة نفسها هي التي يمكن أن توصف بالمقيدة. بالعكس فإن هذه النغمات الصوتية التي تتنزل من السماء وتحرك الأفلاك السماوية وتحمل تذبذات عذبة إلى آذان المستمعين هي بحد ذاتها تجلٍّ لقول الله: “كن”، وبعد فإن المؤلف يشير أيضًا إلى الدور المهم الذي تؤديه مثل هذه الألحان، حيث أنها تسمح لنا بتذوق شيءٍ لطيف من حلاوة وطلاوة ذلك التفوه الإلهي الأزلي.
على هذا فإن ابن عربي، بإبداعه وعبقريته المعتاده، يقدم لنا الوحي الإلهي على أنه لحن تجلى في عالم المادة وأوصل إلينا كل ما أمر به الحق خلقه في صورة نغمات وتوقفات، لا كلمات كسائر كلام البشر.
في الفصل المائة واثنَين وثمانين من الفتوحات المكية، تحت عنوان في مقام السماع، يتعمق الشيخ أكثر في أهمية وقوة الألحان، خصوصًا فيما يتعلق بتقبل الوحي الإلهي. يعطينا المؤلف هنا أيضًا تفصيلًا جديدًا للسماع وأنواعه:
قال تعالى ’سميع عليم’ وقال ’سميع بصير’، فقدم السمع على العلم والبصر، وهو أول شيء علمناه من الحق وتعلق به منا، القول منه والسماع منا. فكان عنه الوجود وكذلك نقول في هذا الطريق كل سماع لا يكون عنه وجد وعن ذلك الوجد وجود فليس بسماع، فهذه رتبة السماع التي يرجع إليها أهل الله ويسمعون فقوله تعالى للشيء قبل كونه كن هو الذي يراه أهل السماع في قول القائل (المغني أو العازف) وتهيؤ السامع المقول له كن للتكوين بمنزلة الوجد في السماع.
يؤكد ابن عربي في هذا القبس من الفتوحات المكية على رسوخ فكره ونظرته للسماع والموسيقى في الوحي الإلهي والقرآن، من ثم يبني على هذا الأساس القرآني وجهًا من التشابه والإشارة التعبيرية بين عملية خلق الكون والإيجاد وبين الاستماع إلى الألحان. يبين الشيخ بعبقرية أنه كما أن قول الخالق الأزلي للكون “كن” وسماع الآخر لهذا الأمر الإلهي لا بد أن يطرأ عنه إيجاد ووجود، فأيضًا كل مجلس من الاستماع إلى الموسيقى والألحان لا بد أن يطرأ عنه أيضًا وجود ووجد. أي أن المستمع للألحان، إذا كان ينصت إلى النغمات بكل وجدانه، لا بد أن يشعر بنوع من الوجد يوجد فيه شيءٌ جديد من المعرفة بأسرار الموسيقى وسرائرها.
هنا نقف أيضًا على نقطتين مهمتين: أولًا، كما أشرنا سابقًا، لا يحمّل ابن عربي النغمات والألحان مهمة الإيجاد والوجد، بل يعطي هذه المسؤولية إلى نية وآذان المستمع، فإذا كانت حالة المستمع تسمح له بالسماع الإلهي أو الروحاني، طرأ عليه الوجد والإيجاد، وإلا فلن يجد في نفسه سوى هيجان للغريزة الحيوانية، التي يصفها المؤلف بالسماع الطبيعي. ثانيًا، يظهر لنا ابن عربي في هذه الفقرة عبقريته في الاشتقاق اللغوي، إذ يوصل الوجد بالإيجاد والوجود، وهي رابطة تطرأ كثيرًا في الفتوحات المكية وفي كتبه الأخرى. أهمية هذه الصلة بين هذه المفردات هي أنها تسمح للمؤلف، من ناحية، بربط وجد المشاعر والطرب الذي يشعر به المستمع إلى الموسيقى بمفهوم الوجود، الذي يشير إلى الكون وعملية الخلق سواء. من ناحية أخرى تشير هذه الرابطة أيضًا إلى وجه التشابه بين الطرب في سماع الموسيقى والوجد الروحي الذي يشعر به أهل الذكر لدى تواجدهم في مجالس الصوفية. هذه العلاقة، بين الوجد والوجود وغيرها من المفردات المتقاربة، ستكون محل نقاشنا في ختام هذه الدراسة لنستطيع من خلال ذلك أن نطرح بعض الأسئلة المهمة فيما يتعلق بأهمية الموسيقى الروحية.
ننتقل الآن إلى الفقرة الأخيرة من الفتوحات المكية التي سنناقشها في هذه الدراسة. يطرأ ذكر السماع هنا في الفصل المائة وثمانية وتسعين، تحت عنوان في معرفة النفس بفتح الفاء. يذكر المؤلف الألحان والسماع أثناء مناقشته للطافة وكثافة النفّس، أي كيف تكون الأنفاس أحيانًا لطيفة وأحيانًا كثيفة. يبني ابن عربي هنا على أوجه التشابه التي شهدناها سابقًا، كالصلة بين الوجد والطرب وغيرها:
في اللطيف من النفس يرجع كثيفًا وما سببه والكثيف يرجع لطيفًا وما سببه كالملحن في الرفع والخفض في صوته. اعلم أن اللطف من المحال أن يرجع كثافة فإن الحقائق لا تنقلب ولكن اللطيف يرجع كثيفًا كالحار يرجع باردًا والبارد حارًا. فاعلم أن الأرواح لها اللطافة فإذا تجسدت وظهرت بصورة الأجسام كثفت في عين الناظر إليها والأجسام لها الكثافة شفافها وغير شفافها، فإذا تحولت في الصور في عين الرائي أو احتجبت مع الحضور تروحنت أي صار لها حكم الأرواح في الاستتار.
وأظهر ما يكون ذلك في أهل التلحين، فالصوت بما هو صوت لا تتبدل صورته فيغلظه الملحن في موضع ويرققه في موضع بحسب الرتبة التي يقصدها، ليؤثر بذلك في طبيعة السامعين ما شاء من فرح وسرور وانبساط، أو حزن وهم وانقباض، ولهذا جعلوا ذلك في الموسيقى في أربعة، في البم والزير والمثنى والمثلث، فإن المحل الذي يريدون أن تؤثر فيه هذه الأصوات مركب من مشكلتها من مُرَّتَين ودم وبلغم فيهيج سماع هذا الصوت ما يشاكله من الأخلاط التي هو عليها السامع، فيكون الحكم بسبب معين يقصده الملحن حتى يكون له ذلك سببًا إلى معرفة الوصل في قوله تعالى، إنما قولنا لشيء إذا أردناه فهو قصد الملحن أن يقول له كن فأتى بالكلام الذي هو الصوت الممتد والمنقطع في المخارج لإظهار أعيان الحروف التي تقع بها الفائدة عند السامع.
ألا ترى إلى صوت السنانير وإن لم يكن لهم حروف تتقطع في نفسها يغيرون أصواتهم لتغير أحوالهم ليعرفوا السامع ما يقصدونه بذلك الصوت، فعند الجوع يرق صوت السنور ويخفى يلطف وعند الهياج يغلظ ويجهر ويتتابع فيعلم من صوته أنه هائج أو أنه جائع فيؤثر ذلك في نفس السامع بحسب قبوله إما رقة وحنانًا فيطعمه وإما غير ذلك.
يهدي ابن عربي إلينا في هذه الفقرة باقة معانٍ راقية تؤكد على عمق فهمه للموسيقى ودورها الروحي في بناء المجتمع والفرد. نلاحظ هنا عدة أمور مهمة أولها أن المؤلف يتبع نفس خطواته الفكرية التي ابتدأها في الفقرة السابقة ليرسم لوحة من الإشارات ووجهًا من التشابه آخر بين الموسيقى والتصوف، بالأخص فيما يتعلق بلطافة الأرواح وكثافة الأجساد وكيف أن الأولى قد ترتدي زي الآخر والعكس. يمثل ابن عربي هنا بروعة لون الأرواح وكأنها نغمات رقيقة وحادة، بينما الأجساد تظهر في صورة الأصوات الغليظة. ما يكمن وراء هذا التصوير الفريد من نوعه هو أن المؤلف قد صير عالمي الروح والجسد كمقطوعة موسيقية ألفها وعزفها الله. يؤكد هذا التصوير ما ذكره الشيخ سابًقا حول وجه التشابه بين قول الخالق “كن” وتكوين الكون، من ناحية، وأداء العازف أو المغني وتواجد الوجد في نفس المستمع، من ناحية أخرى.
الأمر الثاني المهم الذي يظهر لنا جليًا في هذه الفقرة هو فهم المؤلف الواضح للموسيقى العربية ونظرياتها وآلاتها العريقة، وبالأخص العود. فنجد الشيخ يذكر بدقة أسماء أوتار العود كما وصفها من قبله الفيلسوف العربي الكندي (م. ٨٧٣): “البم والزير والمثنى والمثلث” (أو البم والمثنى والمثلث والزير تصاعدَا من الغليظ إلى الحاد) والتي تسمى اليوم بعشيران، دوكاه، نوا وكردان. من ثم لا يقف المؤلف هنا في إظهار معرفته بالموسيقى العربية وحسب بل إنه يربط لمرة ثالثة بين هذه الأوتار الأربعة ونظام جسد الإنسان وحواسه، حيث يرى أن هذه الأوتار الأربعة وتراقص النغمات والألحان المختلفة بينها تشبه وتؤثر في الخلائط الأربعة في جسم الإنسان التي كانت معروفة سابقَا عند المسلمين وغيرهم من الحضارات: المُرَّتَين (الصفراء والسوداء) والدم والبلغم.
أما في المقطع الأخير من هذه الفقرة التي يضرب فيها ابن عربي السنانير وأصواتها كمثل لقوة الألحان وتأثيرها في نفوس المستمعين، فإن الشيخ يؤكد على نقطة في غاية الأهمية فيما يتعلق بعلو مقام الموسيقى بين الأنواع الأخرى من الفنون والإبداع والتعبير. في تأكيده على أن السنانير تستطيع أن توصل مغزاها وشعورها إلى المستمع من غير حروف أو كلمات دليل على أن الموسيقى لها القدرة على إيصال معان ومشاعر تعجز لغة البشر عن وصفها والتعبير عنها، وهو رأي يذكرنا بقول الصوفي حضرة عناية خان المذكور في أول هذه الدراسة، الذي وصف الموسيقى بالفن الأجدر أن يقال له “فن إلهي” لأنه مجرد عن الصورة، وأنه الوسيلة للتعبير عن المعاني التي يعجز الرسم عن ذكرها وتهلك اللغة دون رسم انحناءاتها.
قد يتفق كل من ابن عربي وعناية خان مع الأديب الفرنسي فكتور هوجو (م. ١٨٨٥) الذي وصف الموسيقى بأنها “ما يعجز الكلام عن وصفه وما لا يمكن أن يبقى في الصمت.” ليس من المدهش أن يتفق كلٌّ من هذين المفكرين الصوفيين مع عمالقة الفلسفة والأدب الغربي، فإن الحضارة العربية بموسيقاها وجميع فنونها قد قدمت ما لا يعد ولا يحصى من التراث الذي ملأ العالم بألوان ونغمات وكلمات لا زالت تدوي أنفاسها في مسارح ومكاتب وأوبرات القارتين الأوروبية والأمريكية. قد أظهر لنا ابن عربي في هذه الدراسة شيئًا بسيطًا من هذا التراث.
من المهم أن نؤكد على أن فهم ابن عربي الراقي للموسيقى كغيره من الصوفية والعلماء لا يقف عند الجانب الروحي فقط، بل كما أن مؤلف الفتوحات المكية قد أظهر لنا معرفته بأوتار العود وأسمائها فإننا نجد من قبله من أمثال الكندي والفارابي قد اجتازوا المدى البعيد في بحور الموسيقى العربية وعلومها. نجد مثلًا الفارابي في كتابه المشهور كتاب الموسيقى الكبير قد استنبط ما يقارب من ألف مقام موسيقي من دائرة الأخماس والأرباع المشهورة في الموسيقى الإفرنجية.
ها نحن نقف عند بعض النوافذ الفكرية التي أوصلنا إليها ابن عربي من خلال حديثه عن السماع والموسيقى في الفتوحات المكية. نبدأ أولا بمفهوم المقام الذي ذكرناه الآن، والذي قد يكون، بجانب الإيعاق، أهم عنصر في الموسيقى العربية. لا يخفى على القارئ المطلع أن مفهوم المقام له أهمية بالغة أيضًا عند الصوفية حيث أنه يصف المراحل التي يجتازها السالك إلى الله. فكما أن الموسيقى العربية تزخر بالبياتي والحجاز والنهاوند والصبا والعجم والسيكا وغيرها من المقامات، فأيضا الولي الصوفي عليه أن يجتاز مقامات كالتوبة والصبر والرضا والشكر في طريقه إلى الله.
لنا أن نستعير من ابن عربي عبقريته في الاشتقاق اللغوي ونتساءل: هل هنالك وجه من التشابه بين مقامات الموسيقى والروح؟ ربما أن مشاعر الحزن الشديد في مقام الصبا لها أن تزرع الشعور بالذنب والتوبة عند المستمع، كما أن للعجم القدرة على تكريس معاني الشكر والفرح عند السالك. هل هنالك تسلسل بين هذه المقامات الموسيقية كما جعل الصوفية تدرج بين مقامات الروح، ابتداءً من التوبة وانتهاءً بالرضا؟ ما هذه إلا بعض من الأسئلة لها أن تحفز القارئ المهتم بالتأمل والتفكر في هاتين المرآتين لمفهوم المقام.
نختم هذه الدراسة بوقفة بسيطة عند ثلاث مفردات ذكرناها سابقًا: الوجد والوجود، نضيف إليهما الآن الوجدان. ما هي المعاني التي ترمز إليها الموسيقى خاصة والتي يعجز عن وصفها أي فن آخر من التعبير؟ ما الذي تواجد من العازف والمستمع سويًا إذا التقيا في ضيافة الموسيقى والآلة الموسيقية؟ كعازف مبتدئ في العود وعاشق للموسيقى العربية وعلم المقامات، أجد نفسي مثلًا في هالة من الصمت طوال مدة عزفي للموسيقى. فقد يكون من المستحيل على الإنسان أن يصمت لمدة ساعة أو ساعتين في أية حالة أخرى، لكن حين يستمع إلى الموسيقى وهي تتجلى بين يديه على آلة ما فإنه ينصت وكأنه لم يكن، بل إنه يكون في حالة من الذهول وكأنه يسمع ذلك التفوه الأزلي: “كن.”