.
الأغنية السياسية أو الثورية أو الوطنية الفلسطينية، اختزال وتكثيف لعدد هائل من الرموز والذكريات والعلامات والشواهد والتواريخ، في كلمات منظومة ولحن يجمع بين صلابة الصراع وهشاشة الحزن. لم تستمر هذه الأغنية على حال واحدةٍ منذ تشكلها المعاصر في ستينات القرن الماضي. لقد ساهمت تحولات حركة التحرير الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني في تحولها على نحو ترافق مع تحولات جذرية شهدها العالم والمنطقة لتثمر الأغنية الفدائية الفلسطينية كما عرفناها. بعدٌ رصده بدقة الأكاديمي الفلسطيني جوزيف مسعد، في دراسته الرائدة حول أغاني التحرير (مؤسسات الدراسات الفلسطينية ٢٠٠٣)، حيث استعرض الأغاني عن فلسطين منذ عام ١٩٤٨ حتى مطلع القرن الحالي، ودرس كيف تتوافق التغييرات في الأسلوب الموسيقي وكلماتها مع التغيرات في مقتضيات النضال الفلسطيني نفسه. راصدُا سيادة مصر الثورية في الخمسينيات والستينيات، والدور المركزي لفيروز والأخوين الرحباني في أعقاب حرب ١٩٦٧، وظهور الفرق والمطربين الفلسطينيين اعتبارًا من أواخر الستينيات.
يتطلب رصد تاريخ الاغاني الفلسطينية، المرتبطة بالنضال التحرري، وعيًا قويًا بالسياق الذي تتشكل فيه، وكذلك بالمكان والوظيفة التي شغلتها وتشغلها هذه الأغاني. إذ تحورت الأغنية الثورية الفلسطينية – والتي أسميتها الفدائية لأن هذه المساهمة تعتني بشكل خاص بالأغاني المرتبطة بالكفاح المسلح، بفعل ترحال الحركة الوطنية الفلسطينية بين أمكنة مختلفة، ما جعلها تشهد تحولات على مستوى المضمون والنغم.
انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة عام ١٩٦٥. بدايةً من هذا التاريخ، أصبح هناك كيان فلسطيني بصدد التشكل، ليس ذائبًا تمامًا في النظام الرسمي العربي، بقدر ما كان حتى ذلك الوقت مرتبطًا به وبشدة. قبل ١٩٦٥، غنى مصريون ولبنانيون الأغاني المهتمة بقضية فلسطين، وقد شكل ذلك تعبيرًا عن قيادة مصر لمشروع التحرير في عهد الرئيس جمال عبد الناصر. لم تتشكل الأغنية الفلسطينية الثورية، كما نعرفها اليوم، إلا بعد انطلاق العمل الفدائي عام ١٩٦٥، وترسخت بعد هزيمة ١٩٦٧، عند اللحظة التي تراجعت فيها السطوة العربية على مشروع التحرير، وأصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية أكثر استقلالية.
كانت الأردن القاعدة الأولى للثورة الفلسطينية عند انطلاقها. ترافق ذلك مع حرب فييتنام، حيث شهد العالم براعة حروب العصابات التي قادتها المقاومة الفييتنامية ضد الاحتلال الأمريكي. أرادت الفصائل الفلسطينية إعادة إنتاج النموذج نفسه، وذلك بتحول الأردن إلى “هانوي فلسطين”، أي قاعدة خلفية للكفاح المسلح. في ذلك السياق الثوري، بدأت تتشكل أسطورة الفدائي الفلسطيني كأيقونة ساحرة، وقد ترسخت بشكل قوي بعد معركة الكرامة (أذار / مارس ١٩٦٨). أيقنت قيادة العمل المسلح مبكرًا الحاجة إلى ترسيخ هذه الأيقونة في النفوس، وتحويلها إلى مصدر جذب الآلاف من الشباب الفلسطيني والعربي، كي يلتحقوا بمعسكرات المقاومة.
كان الفدائي الملثم بالكوفية حاملًا بندقية الكلاشينكوف صورة شائعةً على أغلفة المجلات وعلى حيطان المخيمات، وكان لا بد لها من أصوات وأهازيج حماسية ترفدها ضمن نظام رموز متكامل. رافقت هذه الأغاني والأهازيج الحماسية هؤلاء الفدائيين في التدريبات القاسية وأذيعت في المحطات المتنقلة للثورة في درعا السورية وفي مخيمات اللجوء في عمان ولبنان وخاصة في إذاعة صوت العاصفة في القاهرة.
شكلت الأغاني في تلك الفترة، وحتى في فترات لاحقة من الكفاح الفلسطيني، أحد الأدوات الأيديولوجية لقيادة العمل الوطني. أولًا في ترسيخ هوية فلسطينية، رغم كونها عربية، إلا أنها تملك تفردها الخاص؛ وثانيًا، في ترسيخ نهج الكفاح المسلح كطريق للتحرير. لذلك كانت كل أغاني مرحلة الأردن تتحرك ضمن هذا الخط. يؤكد نبيل عمرو في كتابه، صوت العاصفة: سيرة إذاعات الثورة الفلسطينية في المنفى (٢٠١٣)، هذا النهج القصدي في توظيف الأغاني والأهازيج، بوصفه كان مسؤولًا عن إذاعة فلسطين:
“لم تهتم الإذاعة بأناشيد الحنين والتغزل بجمال الوطن وإظهار حبه وسرد مزاياه الجمالية كلون البرتقال والسهول الخضراء، بل اهتمت بأن يكون النشيد مكملًا للتعليق أو أنه تعليق سياسي بحد ذاته. كانت هنالك أناشيد تعالج بكلمات مباشرة وبأداء موسيقي وغنائي متقن، المنطلقات الأساسية للثورة الفلسطينية وتخاطب كل قطاعات الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده مثل يا جماهير الأرض المحتلة، ويا شعبنا في لبنان، وتعالج كذلك مفاهيم الثورة وأهمية الالتزام بها والدفاع عنها أمام الأخطار، لم يكن يترك للشاعر مؤلف النشيد أن يكتب على مزاجه وهواه.”
بدا واضحًا أن البيئة الأردنية للثورة الفلسطينية، ومرحلة حرب العصابات التي كانت تخوضها الفصائل من خلال الدوريات التي تنزل إلى فلسطين المحتلة، قد أثرت في طبيعة أغاني تلك المرحلة، التي دارت حول تمجيد الفدائي الفلسطيني، والدعوة للكفاح المسلح، فيما كانت ألحانها بسيطة، وصاخبة، وحماسية أقرب إلى الموسيقى العسكرية، ذات هدف تعبوي وليس جمالي. قاد هذا الانبعاث الغنائي الثوري الشعراء، محمد حسيب القاضي (١٩٣٥ – ٢٠١٠) وصلاح الدين الحسيني (١٩٣٥ – ٢٠١١)، وسعيد المزين (١٩٣٥ – ١٩٩١)، والملحنين مهدي سردانة (١٩٤٠ – ٢٠١٦) والمصري علي إسماعيل (١٩٢٢ – ١٩٧٤)، من خلال موجة من الأغاني الفدائية، التي مازال بعضها يتمتع بحضور قوي في الواقع والذاكرة مثل: أذن يا رصاص الثورة ويا جماهير الأرض المحتلة، وطل سلاحي وعلا يا بلادي علا.
تميزت أغاني مرحلة الأردن بكونها ترجمة لصدى العمل الفدائي على خطوط المواجهة المتقدمة، من خلال أدائها على نحو جماعي حماسي، حيث صورت أغانٍ مثل حرب الشوارع، المعروفة على نطاق واسع بمطلعها “طالعلك يا عدوّي طالع من كل بيت وحارة وشارع”، العقيدة العسكرية للعمل الفدائي القائمة على حرب العصابات الشعبية. كذلك نشيد فدائي، الذي كتب خلال فترة العمل الفدائي في أغوار الأردن، ثم اعتُمِد ليكون النشيد الوطني الرسمي الفلسطيني بقرار من اللجنة التنفيذية لـمنظمة التحرير سنة ١٩٧٢، خلفًا لنشيد موطني المعتمد من الثلاثينات.
بانتقال الثورة الفلسطينية إلى لبنان، في أعقاب أحداث أيلول الأسود وعجلون، والقطيعة مع الأردن، بدأت منظمة التحرير الفلسطينية، وأساسًا قيادتها الفتحاوية، في النزوع نحو عقيدة سياسية أكثر بعدًا عن عروبة القضية وأكثر قربًا من ترسيخ الجوانب الوطنية الفلسطينية في الصراع. كانت القطيعة الدامية مع النظام الأردني، ورحيل جمال عبد الناصر، ثم حرب أكتوبر، عواملًا أساسية في ترسيخ فكرة ضرورة استقلالية المشروع الوطني الفلسطيني والقرار الوطني الفلسطيني في ذهن ياسر عرفات.
لم يعد البعد القومي قويًا في نظام الرموز، باستثناء جوانبه اللبنانية الضرورية للتحالف بين منظمة التحرير واليسار اللبناني، خلافًا للبعد القطري الوطني الذي أصبح أقوى من أي وقت مضى. أعطت مساحة الحرية في لبنان الفلسطينيين مجالًا لبناء مؤسسات ذات طابع فلسطيني، أكاديمية وعلمية وثقافية، في سبيل إعادة إنتاج الهوية الفلسطينية، المهددة بفعل الاحتلال أساسًا، والمهددة كما بدا للبعض، لاسيما داخل حركة فتح، من الذوبان في مشاريع عربية.
لذلك مثلت لبنان ساحة صراع بين نهج عرفات ونهج الرئيس السوري حافظ الأسد، الذي اعتبر فلسطين جزءًا من سوريا الكبرى. هنا لعب أبو عمار لعبة السياسة والحرب والرموز، ومن بين رموز الهوية الفلسطينية، التي سعى إلى تمييزها عن بقية الهويات الفرعية في المنطقة، الموسيقى والأغاني.
كان لبنان ساحة متطورة ثقافيًا وفنيًا، قياسًا للأردن في ذلك الوقت. كما كان اليسار اللبناني، الحليف الأساسي للثورة الفلسطينية، رائدًا في المجال الثقافي. أتاح ذلك للفلسطينيين تطوير إنتاجهم الثقافي الفدائي، صحفًا ومجلات وقصائد وأغانٍ ومسرحًا وسينما. كما أدى هذا الانتقال إلى لبنان إلى نهضة العمل الثقافي والفكري والفني في المخيمات الفلسطينية في سورية. أثمر كل ذلك العلامة البارزة في تاريخ الأغنية الفدائية الفلسطينية في حقبة لبنان، وهي ظهور فرقة أغاني العاشقين، التي تأسست في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في دمشق عام ١٩٧٧، بقيادة الملحن الفلسطيني حسين نازك، والفنان اللبناني حسين منذر (أبو عليّ).
أحدث ظهور الفرقة نقلةً نوعيةً وشكليةً في تاريخ أغاني الثورة، تجلت في نضجّ أغانيها كلمةً ولحنًا، وقد أضافت إلى الغناء الرقص الشعبي الفلسطيني كدال أكثر بصريةً على رسوخ الهوية الفلسطينية. كما شكل دخول العنصر النسائي إلى الفرقة دالًا إضافيًا على تقدمية الثورة واستيعابها لكل مكونات وفئات الشعب الفلسطيني. كان تأثير البيئة اللبنانية واضحًا على عمل الفرقة، ولاسيما في مستوى الشكل. حيث استوحي حضور أعضائها على المسرح غناءً ورقصًا من أعمال الرحابنة المسرحية الغنائية، مع فارق البصمة الفلسطينية، التي تظهر في الأثواب النسائية المطرزة وملابس الفلاحين الفلسطينيين حينًا والبدلات العسكرية الكاكي حينًا أخر.
بين تأسيسها عام ١٩٧٧ وخروج المقاومة من بيروت عام ١٩٨٢ قدمت الفرقة عددًا كبيرًا من الأغاني وأقامت حفلات جماهيرية واسعة في المخيمات والمدن. مواصلة في نهج تمجيد العمل الفدائي، جددت الفرقة الكثير من الجوانب في الأغاني الثورية الفلسطينية، لتقدم أغانٍ ذات كلمات فصحى بعضها من قصائد محمود درويش مثل يا دامي العينين والكفين، أو من قصائد قديمة للمناضل السوري نجيب الريّس مثل يا ظلام السجن خيّم. كما قدمت أغانٍ ملحمية طويلة تخلد رموزًا ثورية فلسطينية من ثورة ١٩٣٦ كملحمة سرحان والماسورة، التي كتبها الشاعر توفيق زياد تخليدًا لذكرى سرحان حسين العلي، أحد قادة الثورة الفلسطينية الكبرى (١٩٣٦ – ١٩٣٩)، وملحمة عز الدين القسام، التي قدمتها الفرقة عام ١٩٨١، معيدةً إلى التداول أحد الأيقونات الثورية الفلسطينية التاريخية.
يبقى الشريط الأكثر شهرةً في تاريخ الفرقة، والذي مازال يحافظ على حضور قوي لدى محبي الأغاني الثورية الفلسطينية هو شريط بيروت ٨٢، الذي يخلد ملحمة حصار بيروت الطويل والقاسي. جاءت أغنية الشريط الأكثر شهرةً اشهد يا عالم علينا وْعَ بيروت، والتي تصور مراحل الاجتياح والمقاومة جغرافيًا وحسيًا، تحيةً للعاصمة العربية التي احتضنت المقاومة وحيدةً ودفعت ثمن ذلك باهظًا دماءً وتدميرًا.
خلف خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت حالةً قاسية من الشتات. فيما توجهت قيادة منظمة التحرير نحو تونس، فضلت فصائل اليسار التوجه شرقًا إلى دمشق. أما المثقفون والشعراء والكتاب فكل توجه نحو وجهة. أما المقاتلون فقد تفرقت بهم السبل بين تونس والسودان واليمن الجنوبي والجزائر. لم تكن نتائج الخروج من لبنان مجرد شتات جغرافي، بل تمزق في الجسد الفلسطيني. حيث كلفت معركة بيروت منظمة التحرير وحدتها، بعد انشقاق جناح أساسي من داخل حركة فتح يمثل العناصر والفئات الأكثر يساريةً وقوميةً.
بدا واضحًا أن الصراع بين عرفات وحافظ الأسد قد عمق هذا الانشقاق. مضى عرفات وقيادة فتح نحو مزيد من “فلسطنة” القضية، فيما توجه المنشقون، فتح الانتفاضة، نحو مزيد من قومية القضية. بالنتيجة اتجهت أغاني الثورة الفلسطينية إلى التأكيد على جوانب الهوية الفلسطينية، كلماتٍ ورموزًا وصورًا. في هذه الحقبة، التي ميزها الشتات والصراعات الفلسطينية – الفلسطينية، والفلسطينية – العربية، بدا أن هذه الأغاني أصبحت إعادة إنتاج للتراث الفلسطيني. هذه الالتفاتة للتراث فرضتها معركة الهوية، وكذلك نزوع قيادة منظمة التحرير نحو تمييز قضيتها عن بقية الهويات العربية.
في هذه الفترة ظهر شريط دلعونا وظريف الطول لفرقة العاشقين، الذي كان صدى لهذه النزعة التراثية المجددة بكلمات توافق السياق الذي يعيشه النضال الفلسطيني، وقد تميزت تلك الفترة بأغانٍ ما زالت حاضرةً بقوةً، ويعاد إنتاجها مثل يا ظريف الطول وجفرا وقولوا هي يا الربع وهبت النار والبارود غنى وقيدي يا نار الثورة.
بالإضافة إلى كونها علامةً فارقةً في تاريخ القضية الفلسطينية سياسيًا وعسكريًا، أنتجت تسوية أوسلو قطيعةً عامةً بين ما كان عليه النضال الفلسطيني بشكله العام، قبل ١٩٩٣ وما بعدها. وضعت قيادة منظمة التحرير البندقية، ثم شرعت في تأسيس كيان، بدا أقل مما طمحت إليه أجيال من الفدائيين والشهداء والمثقفين والفنانين وحتى الأغاني، التي رسمت خريطة الوطن بدقة بين البحر والنهر. كان توقف فرقة العاشقين عن العمل عام ١٩٩٣ دالًا رمزيًا على نهاية حقبة وبداية أخرى في تاريخ الأغنية الفدائية الفلسطينية.
اعتقد الجميع أن المرحلة الفدائية قد ولت دون عودة، وأن المرحلة تحتاج فنًا جديدًا يواكب تطورات التحول من الثورة إلى السلطة. على هامش المركز السلطوي، لم تكن كل أطياف الشعب الفلسطيني، ولا مقاومته، قابلةً بالحد الأدنى الذي قبل به ياسر عرفات. عارض اليسار الفلسطيني الخطوة في مجملها لكنه كان ضعيفًا، منهكًا من سنوات طويلة من النشاط داخل منظمة التحرير، تابعًا في جزء كبير من إمكانياته للمنظمة ولعرفات، ومتراجعًا دوليًا في ظل سقوط الاتحاد السوفييتي. أما الإسلاميون، فقد كانوا في المعارضة، لكنهم أكثر فتوةً وقوةً، مستقلين عن منظمة التحرير، ويستمدون قوتهم من نهوض واسع للإسلام السياسي في المنطقة والعالم.
ترافق مشروع أوسلو بداية التسعينات، مع تحول حركة حماس إلى العمل المسلح، وتطور الخلايا الأولى لكتائب القسام في الضفة الغربية وقطاع غزة. قبل ذلك كان الإسلاميون في فلسطين شأنهم شأن الإسلاميين في بقية الدول العربية، يقتصرون في أغانيهم، التي تسمى أناشيدًا، على الجوانب الروحية والتربوية والدينية، والتي يتم إنتاجها لإقامة حفلات الأعراس، الخالية من الغناء والموسيقى.
https://youtu.be/522fWGQDsBo
حافظت الأناشيد الإسلامية، الحمساوية أساسًا، على الطابع الثوري للأغنية الفلسطينية، من تمجيد للعمل الفدائي والسلاح والمقاومة والشهداء، وأضافت إليها جرعة أكبر من المعجم الديني الإسلامي، حول الشهادة والموت في سبيل الله وذكر الجنة والجهاد، وأخذ الصراع مع إسرائيل نحو منطقة أكثر دينية بوصفه صراعًا بين الإسلام واليهود.
كانت التسعينات مرحلة تجريب، ومحاولات في تحول النشيد الإسلامي من طابعه الاجتماعي إلى حالته الثورية. ترافق ذلك مع مرحلة مضطربة ميزت العلاقة بين الفصائل الإسلامية، حماس والجهاد الإسلامي، من جهة، وحركة فتح والسلطة بقيادة عرفات، وصلت إلى حد الاعتقالات. كما ميزت نشاط الفصائل الإسلامية بتصاعد نوعي من خلال العمليات الاستشهادية في مقابل تراجع العمل المسلح في صفوف فتح وفصائل اليسار.
بين نهاية التسعينات وبداية الألفية أطلّت فترة فارقة في تاريخ النشيد الإسلامي عالميًا. بدأت محاولات الثمانينات والتسعينات في النضوج، كما وصل مد الصحوة الإسلامية إلى أوجه، مدفوعًا بدعم خليجي قوي وظهور كاسح للفضائيات العربية والدينية وشيوخ موجة الدعاة الجدد. في هذا السياق استفاد النشيد الإسلامي الفلسطيني من هذا التطور العالمي، فيما عززت انتفاضة الأقصى (٢٠٠١) تطور الوعي بصوابية خيار الكفاح المسلح.
في هذه الفترة ظهرت أسماء منشدين مثل موسى مصطفى وغسان أبو خضرة، وأيمن رمضان وعبد الفتاح عوينات، وأيمن الحلاق صاحب أنشودة فتنت روحي يا شهيد. لاحقًا بدأ النشيد الإسلامي يتخلص من سجون الشطط الفقهي في تحريم الموسيقى، متجهًا نحو إدخال الإيقاع والموسيقى في الأناشيد، التي صارت أغانٍ ثورية بمسحة إسلامية.
كما شكل ظهور فرقة العاشقين علامة بارزة في تاريخ الأغنية الفدائية الفلسطينية في حقبة لبنان، شكل صعود فرقة الوعد الإسلامية، بعد الانتفاضة الثانية، العلامة الأبرز في تاريخ النشيد الإسلامي الثوري الفلسطيني. تأسست الفرقة في لبنان منذ عام ١٩٩٢، إلا أن ولادتها الثانية جاءت مع ألبومها أطياف الاستشهاد الأول. بدت نبرة الألبوم الجهادية عاليةً، من خلال تمجيد العمليات الاستشهادية التي نفذتها حركة حماس داخل إسرائيل وتخليد لأسماء من نفذوا هذه العمليات. ثم حققت نجاحًا أكثر قوةً في ألبومها الثاني أطياف الاستشهاد الثاني، الذي عرف باسم عرس الشهادة، مخلدًا ذكرى الشهداء القادة في حماس: أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي.
حافظت فرقة الوعد طيلة عقدين من النشاط على نفس اللون من الغناء الثوري المفعم بالكثير من الجوانب الدينية، مع انحياز واضح لحركة حماس. كما سقطت أحيانًا في تكرار الألحان وإعادة تركيب كلمات جديدة عليها، إلا أنها حافظت على ربط أناشيدها بالأحداث والشخصيات، كالرثاء والتمجيد والتخليد، والقليل من الهجاء لخصوم مشروع الكفاح المسلح، والكثير من الذمّ لإسرائيل. بقيت الفرقة محافظة على نشاط مسترسل وإنتاج غزير، وعلى تماسكها، خلافًا لما تعانيه تجارب الغناء والنشيد الجماعي عادةً. حتى أنها لم تفوّت الحرب الأخيرة، والتي ماتزال قائمةً على غزة، لتنشر ألبومها حول طوفان الأقصى، والذي جاء متنوعًا رغم ضيق الحيز الزمني للإنتاج وحرارة الحدث. راوح الألبوم بين الحماسة الثورية والرثاء، والموال والنشيد والدحية، أحد ألوان التراث البدوي الفلسطيني.
في حالتنا الفلسطينية الراهنة، يبدو المكان هو المؤثر على الموسيقى وموجهًا لها. نشهد التعبير عن ذلك في تحولات بعضها مرئي وأكثرها مستتر، متجليًا فيما سمعناه ونسمعه منذ انطلاقة الكفاح المسلح وأهازيج التعبئة الفدائية المرتبطة به، في مجال التصاقات الهوية أو التوجهات الثقافية لحركة التحرر الفلسطينية، على مختلف مشاربها. اليوم، ومنذ أن ألقت هذه الحركة التحررية عَصَا التَّرْحَالِ لتستقر داخل الوطن المحتلّ، أصبح المكان ثابتًا، أما الموسيقى فقد واصلت رحلة تحولاتها متأثرةً بعوامل جديدة مجتمعية وسياسية.