.
إلى أحمد ناجي
الذي استخدم خدش الحياء في زمن رَمْنَسة الجيش ورَمْنَسة الثورة
منذ عقد ونيّف، عادت الرومانسية إلى واجهة الأغنية اللبنانية السائدة. لكنّها رومانسية شديدة المحافظة شكلًا ومضمونًا، يمثّلها أفضل تمثيل المغني والملحّن وكاتب الكلمات مروان خوري، الذي يطلّ على جمهوره من وراء بيانو أبيض تعلوه وردة حمراء ليعزف ألحانه التي باتت قبلة نجوم الأغنية اللبنانية ونجماتها.
تزامن صعود خوري مع دخول السلم الأهلي اللبناني مرحلة الإحباط، قبل أن يتحوّل حربًا أهلية تخرق برودتها اغتيالات سياسية بين الحين والآخر؛ وإذ بدا خوري بإحباطات أغانيه العاطفية استجابةً فنيةً للأزمة السياسية، فإنّه لم يكن غريبًا أن تأتي معارضته من باب خدش الحياء الذي لا يخدش بقدر ما يكشف المستور في عالم خوري الرومانسي.
هكذا تتكرّر في فيديو كليبات المخرج جاد شويري الإيحاءات الجنسية من غزل البنات، والسوسيت مصاصة التي تحمل اسم المغنيّة، والبانيو الممتلئ بالحليب. إيحاءات ساهمت في الصعود السريع لشويري المغنّي ولفيديو كليباته الخادشة للحياء، وذلك بعد نجاحه في تجاوز موجة من السخط الأخلاقي ضدّه.
في حفل موركس دور الأخير في حزيران ٢٠١٥، حظي خوري بجائزة الفنان الشامل، أمّا شويري، فنال جائزة الفنان المعاصر. كأنّ هاتين التسميتين الغريبتين تتوّجان خوري بـ شموليّته رمزًا للأغنية الرومانسية السائدة، وشويري بـ مُعاصرته رمزًا للاعتراض عليها. فهل نحن فعلًا أمام لعبة مرايا كلّما نظر الرومانسيّ فيها إلى المرآة وجد نفسه خادشًا للحياء؟ وإذا كان الوضع كذلك، فعن أيّ أغنية رومانسيّة نتحدّث وعن أيّ خدش للحياء؟
ليست الهيمنة الرومانسية طارئة على الأغنية اللبنانية. ففي بلد الأزمات السياسية والحروب الأهلية، يشكّل الهروب من الواقع إلى عوالم الأحاسيس الداخلية ملاذًا دائمًا. هكذا غابت منذ الستينيات واقعية عمر الزعني وحلّت محلّها رومانسية الأخوين رحباني التي انطلقت من التغنّي بالطبيعة والكروم لتصل إلى لبنان المتخيَّل نفسه وقد بات كرمُا كبيرُا. مع اصطدام هذه الموجة الرومانسية التأسيسية بصخرة الواقع المتمثّل بالحرب الأهلية، صعد نجم رحبانيّين بديلين. استلم الياس، الأخ الأصغر، الأغنية السائدة، وكان منبعها المنطقة الشرقية التي عرفت هدوءًا نسبيًا بعدما أحكمت ميليشيا القوات اللبنانية المسيحية يدها عليها، فيما استلم زياد، الابن الشيوعي، الفن المغاير الذي نبع من بيروت الغربية. تمكّن زياد من قتل رومانسية أبيه وعمّه، فيما بدا الياس وكأنّه يعيد تدوير الأغنية الرومانسية لمصلحة لبنان الآتي من رحم المناطق المحرّرة، فتاهَ مع سامي كلارك في الليل والساحات بحثُا عن “تامي“، وبكى في الوقت نفسه بشير الجميّل مع باسكال صقر، قبل أن “يرشّ الفلّ“ على العسكر الذي طلّ ليقصف مناطق لبنانية خارجة عن سيطرة الشرعية. في تلك الفترة نفسها، كان زياد يغنّي مع جوزيف صقر عايشة وحدها بلاك منهيًا بذلك رحلة عذاب الحبيب التي لا تنتهي، ويعلن نهاية لبنان الرحابنة بإحلال يا زمان الطائفية مكان لبنان الكرامة والشعب العنيد.
كان لا بدّ من انتظار نهاية الحرب الأهلية حتّى يتمكّن غسان الرحباني من قتل رومانسية أبيه الياس، وقد ارتكب جريمته في وضح النهار. لم يكتفِ بأغانيه الخاصّة التي لا تمتّ للرومانسية بصلة، بل استخدم أغاني الياس نفسها معيدًا توزيعها بإيقاعات راقصة، بعد استبدال كول روليه جورجيت صايغ الكلاسيكية والمحافِظة بالإغواء الذي قدّمته أربع نساء معًا في فريق الفور كاتس. شكّل صعود الفور كاتس حصّة اللهجة اللبنانية من عالم التسعينيات، عالم الفيديو الكليب والفضائيات وسياسات الإعمار والسلم الأهلي. أدّى تضافر هذه العوامل، والآمال التي حملتها، إلى عودة الرومانسية إلى الظلّ، وظهور أغنية ما بعد الحرب ذات الإيقاعات السريعة، واللهجة الهجينة التي تتراوح بين اللبنانية والخليجية.
في تلك الفترة، بدأ مروان خوري يشقّ طريقه. وكسائر أبناء جيله، بدأ بكتابة أغانٍ بلهجة التسعينيات الهجينة نفسها، وبألحان غير رومانسية، كما في خيّال العمر، ولاصبر على ويله، ولعب أيضًا على الفولكلور الراقص كما في أغنية دلعونة التي كتبها ولحّنها لنوال الزغبي.
https://youtu.be/HwPEx6ZMm3U
وإذا كان هناك من استثناء رومانسي في تلك الحقبة، فقد مثّله وائل كفوري. لكنّ صاحب الغرام المستحيل الـ “حامل بإيدي وردة، آهات وذكريات” لم يتمكّن رغم نجاحه الفرديّ من تعميم حالته. فقد كان الزمن فعلًا زمن الوعود بـ “نجوم الليل“، لا زمن المنجيرة الموروثة.
كان لا بدّ إذًا من انتظار تحوّلات سياسية تطوي صفحة الوعود الحريرية وآمال السلم الأهلي، وتستدعي الرومانسية لإعلان الحداد على انتظاراتٍ وأحلام لم تدُم طويلًا، فبدت أغاني التسعينيات مجرّد فاصل زمنيّ قصير بين عهدين من الرومانس. هكذا انتقل خوري من “ويش العمل يا بنيتي” إلى “شو مشتاق لبيت زغيّر وإنتِ تحبّيني مش أكتر”، وبدأ البيانو الرومانسي يحتلّ الحيّز الأكبر من موسيقاه، وتبعته لاحقًا ميلانكوليا التشيللو. ثم ما أن تأكّد هذا الاتجاه الجديد حتّى تحوّل وجهه الطفوليّ وذكوريّته المضمَرة من نقطة ضعف إلى نقطة قوّة، فأكّد حضوره كمغنٍّ ينافس النجوم الآخرين الذين استمرّ في كتابة الكلمات والألحان لهم. لم تكن صدفة أن تأتي نقطة تحوّل خوري مع ألبوم قصر الشوق الذي أطلقه عام ٢٠٠٦، بعد عام على الاغتيالات السياسية التي عرفها لبنان ودخل على إثرها حالًا من الانقسام والتفسّخ المستمرّين حتّى اليوم.
لكن رغم تربّعها على عرش الأغنية اللبنانية السائدة، لا تبدو هذه الرومانسية الجديدة أكثر من كيتش ثمانيناتي يمثّله لوك Look مروان خوري نفسه، وكلماته من “ناطر بعَتْم الليل” إلى “اتطلع بعينيّ اتطلع بعد شوي” التي يحاكي فيها ما حدا بيعبي مطرحك بقلبي التي كتبها مارون كرم ولحّنها إحسان المنذر لماجدة الرومي قبل أكثر من ثلاثين عامًا.
لم تكن صدفة، والحال هذه، أن تتلازم الأغنية الرومانسية الجديدة مع عودة أغاني السبعينيات والثمانينيات التي باتت تحتلّ الملاهي الليلية. تقاطر المغنّون الجدد لإعادة تسجيل تلك الأغاني، فغنّت إليسا لالياس الرحباني لو فيي التي كانت قد أدّتها سابقًا عايده شلهوب. لكن هذه المرّة، تمّت الاستعادة بشكل محافظ، لا بل ضاعف التوزيع الجديد من رومانسية الأغنية عبر استخدام الناي والبيانو في المطلع بدلًا من الأورغ.
كما في عازف الليل وألو حياتي، عرفت الرومانسية الجديدة دفعًا قويًا مع صعود موجة الدراما التي بات خوري أشهر من يقف خلف تيتراتها. في عام ٢٠١٥ وحده، كتب أغاني أربعة مسلسلات رمضانية، فأعلن في تشيللو: “حزينة حزينة السعادة لْ عذابها ناطرها”، وخاطب حبيبته مع راغب علامة في مسلسل ٢٤ قيراط: “لاقيني ولو تهتي عنّي سألي هالنجمة هالمدى.” حتّى قصص المسلسلات لم تتمكّن من الإيحاء بكلمات تتجاوز المفردات التي جرى تدويرها أكثر من مرّة في أغاني الثمانينيات.
كذلك تلقّفت الأغنية الرومانسية عودة تقليد الديو الثنائي الذي كان سيمون أسمر أوّل من استعاده من زمن رونزى ورجا بدر في استوديو الفن مع وائل كفوري ونوال الزغبي، في أغنيتهما مين حبيبي أنا. أدّى خوري نفسه الديو مع أكثر من مغنية كألين لحود في بعشق روحك، وكارول سماحة في يا رب.
جاء مسلسل ديو الغرام في العام ٢٠١٢، تتويجًا لمثلّث صعود الدراما، والرومانسية كما تظهر في قصة المسلسل القائمة على علاقة حبّ بين فنانة متزوّجة من ثريّ تقع في غرام فنان صاعد فقير، وأغنية الديو التي أدّاها الممثلان كارلوس عازار وماغي بوغصن. لتكتمل رمزية المشهد، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كارلوس ليس إلا ابن المغنّي جوزيف عازار، أحد نجوم المسرح الرحباني، والذي أدّى أغنيته الأشهر، بكتب إسمك يا بلادي، في ديو مع ابنه الفنّان الصاعد قبل أن يطبع قبلة على وجنته. انتهى زمن قتل الآباء، وبات نجاح الأبناء مرتبطًا بقدرتهم على أداء أغاني آبائهم في بلاد غابت ولم يبقَ لنا إلا أن نكتب اسمها ع الشمس ل ما بتغيب.
بخلاف العديد من أغاني الثمانينيات، تتميّز الرومانسية الجديدة بمحافظة شديدة، فلا يتورّع المغنّي المعذَّب عن تبنّي ثنائية الحلال والحرام، كاشفًا عن بهجته “أحلى عروس بهالدني صارت حلالي.” كما يمكن للدعاءَ أن يصبح عنوانًا لأغنية تناجي اللّه: “يا رب تدوم إيامنا سوى”، كما في ديو يا رب الذي يكرّس تقسيم الأدوار بين الرجل والمرأة، حيث يخاطبها قائلًا: كنتي حلوة وصرتي أحلى”، فيما تردّ هي عليه: “إنت بعدك وما بتتغير، محيّر لي قلبي ومحيّر”، في تأكيد على أن المرأة دائمًا هي التي لا تمتلك صفات إلا في مظهرها الخارجي. أمّا جماليّات الطبيعة الملازمة للأغنية الرومانسية، فتغيب تمامًا لتحلّ محلّها الأجواء الباذخة غالبًا، كأن تظهر أزياء المصمّم العالمي زهير مراد في الفيديوكليبات بدلًا من طير الزغلول الذي كان مع الأغنية الرحبانية: “ياكل عإيدي اللوز والسكر.” لعلّ ذلك يعود إلى البيئات التي تصدر عنها هذه الأغاني، والتي دمّرت الحرب الأهلية والتحوّلات العمرانية طابعها الريفي دون أن تحوّلها إلى مدن.
ليس غريبًا والحال هذه أن تتوسّل الاعتراضات على هذه الأغنية السائدة خدشَ الحياء سلاحًا في مواجهة المدّ الرومانسي؛ وإذ يأتي خدش الحياء هذا مغلّفًا أحيانًا بالكوميديا في مواجهة الميلانكوليا، فإنّه يأتي في أحيان أخرى عاريًا في مواجهة الطهرانيّة المصطنعة.
في إحدى مقابلات برنامج هيدا حكي، يعترف مروان خوري لعادل كرم بأنّه كسائر الملحنين والشعراء “بيطلع معي إشيا مش للنشر بيكون فيا إشيا غريبة، إشيا زعرنة، مش منيحة للحشمة، بضبّن بتسلّى فيّن.” أي أنّ الاحتشام، وفق خوري، صفة ملازمة لما يمكن أن يطلع على الملأ. فقط في برنامج فكاهي، يمكن لـ مروان أن يفصح متردّدًا عن إحدى أغانيه المحجوبة. لكن حتّى في لحظات الصفاء والصدق هذه، لا يسمح اللاوعي بخدش الحياء العام باللهجة اللبنانية، فيلجأ خوري إلى اللهجة المصرية: “إدّيني حبّة من المحبّة يللي إليك قلبي يميل / والله بقلّك إدّيني حبّة ليكزوتانيل / غلّبت صبري وانا يا عمري وراك وراك / ما لقيتش طلبي لقيتني عصبي خدت بروزاك / عايز أروّح أطلبلي تاكس / ولا أقلّك هات كزاناكس.” بعد سماعه هذه الأغنية، لم يتمالك عادل كرم نفسه، فأسرّ لضيفه: “هيدي بتمس كل إنسان عالأراضي اللبنانية والعالم العربي.” كأنّ كرم، دون قصد، يقول لخوري إنّ هذه الأغنية تحاكي الواقع أكثر من سائر أغنياتك التي تخرج إلى العلن. إذا كان كرم، بحجة الفكاهة، تمكّن من انتزاع هذه الأغنية من مروان خوري التي تذكّر بأغنية الكوكايين لسيّد درويش، فإنّ كوميديًا آخر هو ماريو باسيل استخدم السخرية ليعيد تقديم ديو يا رب الذي أدّاه خوري وكارول سماحة، إنّما بكلمات أخرى.
فيما يردّد الديو في الأغنية الأصلية المفردات الرومانسية نفسها التي تتكرّر من أغنية إلى أخرى، حوّر باسيل الكلام ليتحدّث عن المشاكل الجنسية التي غالبًا ما تصادف الزوجين: “ما تقنعني بحبوب / كل ما تجرّب بتنام / بس حبه مرة بليز / عطيني فرصه كمان / لوك خود العلبه كلها / حاج عايش بالأحلام.” الطريف أنّ نسخة هذه الأغنية المحوّرة التي يمكن أن تجدها على موقع يوتيوب يظهر فيها خوري وسماحة بين الجمهور غاشيين من الضحك. يمكننا تمامًا أن نتخيّل المشهد معكوسًا، أي باسيل مستلقيًا على ظهره من الضحك على الأغنية الأصلية التي تقول كلماتها: “مشّي نتذكر ع دروب / ويمرجحنا الغرام / يا ليل ل بعدو ناطرنا / ع مفارق هالإيام.” نتخيّل المشهد لكنّنا لن نراه على الشاشة.
باسيل نفسه ضرب ضربة أخرى، لكن هذه المرّة مع الفنانة هيفاء وهبي التي دخلت مع باسيل في اللعبة فقدّمت معه أغنيتها بابا فين. بدلًا من تحوير الكلمات، جرى تحوير مشاهد الفيديو كليب، فتحوّل باسيل إلى الطفل الذي ينادي أمّه هيفا، فيما تسارع هي إلى إعطائه البيبرونة. كأنّ هيفاء وباسيل أرادا فضح أو تأكيد الإيحاءات الجنسية التي تحملها الأغنية الأصلية، لتظهر الأمّ كامرأة مرغوبة ومحرّمة في الآن نفسه.
لعلّ أهمية هيفاء تكمن هنا، أي في كون خدش الحياء الذي تمارسه لا يقتصر على الكشف عن بعض أجزاء جسدها، بل يكمن أساسًا في استخدام هذا الكشف للتجرّؤ على المسلّمات الاجتماعيّة. هذا ما لم تلتقطه كثيرات ممّن حاولنَ تقليد هيفا وفشلنَ. لكنّ من التقط ذلك جيّدًا ليس إلا جاد شويري، فهو غالبًا ما يوظّف خدش الحياء في إطار فضح ادّعاءات العفّة الكاذبة في المجتمع، كما في أغنية بتكدب علي حيث تظهر ماريا التلميذة الغاوية أكثر صدقًا وانسجامًا مع نفسها من أستاذ المدرسة الذي يبصبص سرًا على صدرها، ومن الناظرة التي تحمل مسطرة مكارم الأخلاق، لكنّها تلعق سوسيت الخطيئة في الخفاء.
يقدّم شويري الصورة المعاكسة لمروان خوري. بدلًا من بلايزر خوري وتي شيرته “البيس أند لوف”، يحمل تي شيرت شويري شعار البلايبوي؛ وبدلًا من آهات الحب، يطلق شويري في أغانيه تأوّهاته الخاصّة؛ وبدلًا من كلمات العذاب والمسافات، يقترح شويري في أغنية أجازة التي أدّاها مع المغنية الشعبية المصرية بوسي “خُدلك من الهمّ أجازة، الدنيا حلوة ولذاذة.” أيضًا، كما لو أنّه في محاكاة هزلية لـ مروان خوري أو الياس الرحباني، يجلس شويري في بداية فيديو كليب قوللي ازاي أمام بيانو أسود، لكنّه سرعان ما يهجره إلى الجيتار الإلكتريك. يأتي ذلك متزامنًا مع تحوّل الكاميرا من التركيز على أنامله فوق البيانو إلى الاقتراب من عينيه اللتين تنتقلان من “التدبيل” الرومانسي إلى الجحوظ بإغراء ماجن. فتصبح لحظة الانتقال إلى الجيتار الإلكتريك هي نفسها لحظة الانتقال إلى الحقيقة.
لحظة الحقيقة هذه ليست بالنسبة لشويري عذاب الحب الذي لا شفاء منه، بل لحظة العلاقات التي لا تخلو من حبّ إنّما بشروط: “آه بهواكي وسهل أنساكي“، وهو حبّ قائم على التوازن بين الحبيبين: “ده أنا مرتحتش إلا بحبك ومريّحتش حد أنا قبلك”. ينعكس هذا التوازن في الفيديو كليب الذي تظهر فيه المغنّية ملك الناصر بزيّين، الأوّل ذكوريّ داكن اللون مع قبّعة وعصا تردّ به التحدّي لحبيبها الذي يهدّدها “ولو مش عاجبك بقى ورّيني”، فيما الزيّ الثاني فاقع اللون يحمل الكثير من الإغراء.
بعكس حلال مروان خوري وحرامه، تسخر أغنية مخطوبة لنسرين من الأهمية التي تُعلَّق على الخطوبة، فيسقط هذا الرابط التقليدي أمام أوّل لحظة إعجاب. تبدأ الأغنية بتوجّه نسرين إلى من أعجبها وأعجبته بالقول معتذرةً بأنّها مخطوبة و”أنا اللي أحبه ما أحب عليه”، لكنّ الأغنية لا تلبث أن تنتهي بشكل مفاجئ “جيت في ثانية خليتني تايهة، أنا خطيبي كان اسمه إيه؟”، قبل أن تغادر مع حبيبها المستجدّ وسط الصراخ الذي يلاحقها “إنتي مش مخطوبه يا بنت؟”
أمّا فيديوكليب السكة اللي تودي الذي أخرجه للمغنّي زياد ماهر، فيمكن اعتباره احتفالًا بـالفيتيش من السادو-مازو إلى التشيرليدرز إلى عبادة الأحذية النسائية، لكنّها فيتيشات تحمل أكثر من رسالة جندرية. فعبر قصّة شاب ثريّ يمارس مهنة مسح الأحذية لإرضاء هوسه الجنسي، يصوّر شويري الرجال ككائنات باهتة مقارنةً بنسائهم النابضات بالحياة، ولا يتردّد في تصوير أحد الرجال ككلب بربطة عنق تجرّه المرأة من رسنه. تكفي رؤية الكعب العالي فوق سندان علبة مسح الأحذية لنكتشف قلب الأدوار الجندرية الذي يحاول شويري تصويره. الرجل الوحيد الذي يستحق الاهتمام، بحسب الفيديوكليب، هو مثليّ يرتدي قميصًا عليه صورة مادونا، فيتخيّله ماسح الأحذية بلباس المغنية الأميركية وماكياجها، ممّا يتيح ظهورًا نادرًا لمتحول جنسي على الشاشة.
https://youtu.be/i4vuR5L1Deg
في إحدى مقابلاته مع موقع العربية، لا يجد شويري نفسه مضطرّاً لتبنّي ادّعاءات أترابه، فيعلن أنّ “الفن ليس رسالة سامية وراقية، لكنه كل ما يمكن توصيله للجمهور من خلال الإحساس والتعبير عنه”، وهو غير معنيّ بالوصول إلى كل الناس كما يحاول سواه جاهدًا، بل يقول: ”قد يرفض الجمهور بالفعل شابًا يقول ’آه’ في أغنياته وهؤلاء لا علاقة لي بهم ولا علاقة لهم بي، لكنّ لي جمهورًا كبيرًا جدًا.”
الواقع أنّ شويري الذي واجه في بداية مشواره الفني انتقادات واتهامات بالإثارة الرخيصة، بات من الصعب إهماله أو تفاديه من قبل نجوم الأغنية بعدما أثبت نفسه كواحد من أفضل مخرجي الفيديو كليب. هل يمكن أن يؤدّي صعود شويري الخادش للحياء إلى عمل مشترك بينه وبين مروان خوري الرومانسي؟
حدث ذلك فعلًا، إنّما بشكل غير مباشر، حين أرادت الممثلة والمغنية سيرين عبد النور جمع المجد من أطرافه، فأخذت الكلمات والألحان من “الفنان الشامل” مروان خوري، وإخراج الفيديو كليب من “الفنان المعاصر” جاد شويري. كيف يمكن لـ جاد أن يتصرّف مع فنانة تقول عن الرومانسية أنّها كلّ حياتها، ومع كلام كتبه خوري نفسه؟ لقد ابتكر شويري الحلّ، فوجد اللقطة الذكية التي تسمح له بتقديم الإغراء دون خدش صورة سيرين، وأظهرها بفستان كاشف إنّما من الخلف.
كما مارس لعبته المفضّلة في قلب الأدوار بين الرجل والمرأة، فإذا بالذكَر هو الذي يخرج هذه المرّة عاري الصدر من الحمّام، يقطر الماء من وجهه وشعره. الأهمّ أنّ سيرين ظهرت في الفيديو كليب كامرأة مصابة بمرض نفسي يجعلها تشاهد تخيّلات. فكأنّ هذا هو المخرَج الوحيد لشويري كي يأخذ على محمل الجدّ كلام أغنية من نوع “حبك زرعني جروح هدّ الجسم والروح.” كأنّ الرومانسية بالنسبة إليه لا تصلح إلا كضرب من الجنون.
لكنّ سيرين عبد النور، كما تظهر في الفيديو كليب، ليست الضحية الوحيدة للرومانسية التي تقود إلى الجنون. ثمّة فنّانون آخرون سقطوا ضحية رومانسيّتهم الكيتشيّة نفسها، إنّما هذه المرّة على أرض الواقع. ها هو فضل شاكر يمسك بيد يارا ويسيران معًا بخطى سلو موشن في مرج أخضر تتغلغل أشعة الشمس بين أغصان أشجاره، قبل أن يضع شاكر رأسه على صدر حبيبته ويغمض عينيه بسعادة تامّة. شاكر الذي نجح في تقديم نفسه كأحد نجوم الأغنية الرومانسية، ترجوه يارا “لاقيني بمكان تننسى الزمان ونغنّي.” لكنّ هذين المكان والزمان الهائمين في فضاء الرومانسية، ما لبثا أن استدعيا شاكر لينتقما منه، كاشفَيْن عن وجهيهما هنا والآن في لبنان الانقسام المذهبي، والسلاح المنفلت من عقاله. انتقل “أمير الرومانسية” من حضن يارا إلى حضن الشيخ أحمد الأسير.
لعبة المرايا ليست في الواقع بين جاد شويري ومروان خوري، بل هي بين خوري وقرينه فضل شاكر الذي أنشد كلمات خوري وألحانه. الأوّل يريدنا أن نهرب إلى الماضي، والثاني أخذنا إلى قعر التفسّخ في الحاضر الذي نعيشه. حتّى الساعة، ما من مشروع آخر لخرق هذه اللعبة سوى عبر المزيد من خدش الحياء. خدشٌ لن يستحقّ هذا الاسم فعلًا ما لم يتمّ باللهجة اللبنانية لا المصرية كما يفعل شويري وزملاؤه.