.
بين فنون الأداء النغمي العربي يظل الإنشاد الديني ركنًا ثابتَ الحضور في جميع البلاد العربية تقريبًا، على اختلاف أشكاله وطرائقه وسياقاته، واختلاف روافده الدينية وحواضنه الاجتماعية من بلد لآخر.
هذا متوقع، فإنه يكاد يكون من قوانين الحضارة أنّ الفنون تنشأ من رحم الدين، بصريةً كانت أم سمعية، جماعية كانت أم فردية، إذ ينطلق الناس مِن تقديس عقائدهم وعباداتهم إلى تجميل الممارسات التي تصاحبها، فتنمو على حوافها الفنون، وتنضج في محاضنها الدينية قبل أن تستقل عنها أشكالها الدنيوية.
بهذا نضجت فنون النحت والتصوير على ضفاف العقائد الوثنية في التاريخ القديم، والمسيحية في التاريخ الوسيط، ونمت ونضجت فنون الخط والزخرفة عند المسلمين.
انطبق هذا على فنون الغناء والأداء الصوتي، وقد نشأ فن تلاوة القرآن مشفوعًا بالأحاديث التي تحث على التغني بالقرآن وتحسين الصوت به، أو التي تُثني على صحابة أجادوا ذلك. فيما تبدو نشأة الإنشاد الديني كما لو كانت تأخرت عدة قرون، إلى العصر الذي تشكلت فيه الطرق الصوفية وصارت كيانات منظّمة تؤدي طقوسًا معروفة، بل إن تراث الشعر العربي الذي وصلنا من القرون الهجرية الأولى لا يُسعفنا بذخيرة ذات شأن من الشعر الديني الذي يصلح أن يكون مادةً للإنشاد.
رغم ذلك لدينا نصوصٌ تاريخية تؤكد قِدمَ الإنشاد الديني، وحضورَهُ خلال القرون المتقدمة قبل تحوله إلى ضرورة على يد الطرق الصوفية. يحكي المؤرخ المقريزي عن أحمد بن طولون الذي أسس في عام ٢٥٤ هـ / ٨٦٨ م دولة حكمَت مصر والشام لعدة عقود أنه:
“كان قد اتخذ بقربه حُجرة فيها رجال سماهم المُكبّرين، عدّتُهم اثنا عشر رجلًا، يبيت في كل ليلةٍ منهم أربعة يتعاقبون الليل نُوَبًا، يُكبّرون ويُسبحون ويُحمّدون ويُهللون، ويقرؤون القرآن تطريبًا بألحان، ويتوسلون بقصائد زهدية، ويؤذنون وقت الأذان.”
في هذا النص كثير من مكونات الإنشاد الديني التي نعرفها، كالتكبير والتسبيح والتحميد والتهليل، التي وفدَت من مأثور الأذكار النبوية لتمر عبر هذه الحاضنة الإنشادية – ربما – إلى صورتها الراتبة المعهودة في الحضرة الصوفية. الأهم من ذلك أن النص يذكر لنا القصائد الزهدية بصحبة القراءة المُطربة للقرآن، ما يعني وجود شعر يصلح للإنشاد بصورة مُنغمة في السياق الديني؛ ويبدو أنّ وصف قصائد زهدية في هذه الحقبة يحيلنا إلى ما يشبه شعر الزهد عند أبي العتاهية وصالح بن عبد القدوس وغيرهما.
يذكر المقريزي – نقلًا عن مؤرخي الفاطميين – تفاصيل شبيهة عن إحياء ليالي رمضان في قصور الخلفاء الفاطميين في مصر (٣٥٨ – ٥٦٧ هـ / ٩٦٩ – ١١٧١ م)، يزيد عليها قيام المقرئين والمؤذنين بإنشاد (الصوفيات)، وقيام الجماعة للرقص، ما يزيد الملامح الصوفية المعروفة للإنشاد وضوحًا، ويفتح بابًا للسؤال عن أثر الدولة الفاطمية ذات المذهب الإسماعيلي في تطوير هذه التقاليد، ويُغري بتتبُّع أولية هذه التفاصيل بحثًا عن السابق واللاحق.
الراجح أن الإنشاد الديني قفز بعد ذلك قفزة فارقة مع البوصيري (ت ٦٩٥ هـ) حين حقق طفرة واسعة في شعر المديح النبوي عبر قصائده وعلى رأسها البردة، وعلى يده اكتملت ملامح هذا الفن الشعري وكتب الناس على منواله حتى كثرت فيه القصائد؛ وهو الفن الشعري الذي بات أقوى الموضوعات حضورًا في تراث الإنشاد الديني الذي وصلنا.
إذا انطلقنا إلى تراث الإنشاد المسجّل الذي وصلنا، تغرينا نماذجه الأولى بتتبُّع أصوله التي يُفترض أن توصلنا إلى القصائد الزهدية والصوفيات؛ لكنّ هذه الأصول ستُدخلنا في دائرة مشتبكة من العلاقات، تجعل من العسير علينا التعامل مع الإنشاد الديني في هذه المرحلة المبكرة مستقلًّا عن غيره من الفنون، كما تجعل من العسير البحث عن نمط واحد من الإنشاد الديني مستقلًّا عن غيره من الأنماط.
يُوقعنا في أول هذه الاشتباكات جمع الجيل الأول من مشايخ الغناء العربي الحديث بين عدد من فنون الأداء، كالإنشاد والغناء معًا، وقد يُضاف إليهما التلحين، وقد تُضاف التلاوة، والأغلب أن جميع مشايخ الغناء في عصر النهضة مارسوا جميع هذه الفنون، وإن تركز عطاء بعضهم أو شهرته في أحدها دون سواها.
فالشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب (ت ١٩٢٧) وهو فاتحة أعلام عصر النهضة في مصر يصفه تلميذه كامل الخلعي في كتابه الموسيقى الشرقي بقوله: “هو المنشد الشهير، والملحن المصري الكبير، راوية فن الموشحات القديمة العربية، وشيخ مشايخ منشدي الأذكار الصوفية.”
كذلك قرينه الشيخ إبراهيم المغربي وقد أخذ عنه الخلعي أيضًا، يقول عنه غطاس عبد الملك خشبة: “من كبار ملحني طرائق المولد النبوي في مصر في أواخر القرن التاسع عشر …، وكان حُجة في الإيقاعات الطويلة، ومن حفّاظ الموشحات البديعة.”
نعرف الأمر نفسه عن الملا عثمان الموصلي في العراق، والذي هو من شيوخ الخلعي كذلك في الموشحات التركية والشامية، وأحد أهم الروافد المشرقية لعصر النهضة الموسيقي في مصر، يقول عنه عادل البكري: “ويكاد الملا عثمان ينصرف في أشعاره وقصائده لمدح الرسول وآل بيته حتى أنه ألف كتبًا في ذلك، فلا عجب أن يكون من شعراء الموالد النبوية والموشحات، بل إنه يُعد من أبرز قراء الموالد في العراق.”
امتد إلينا هذا الجمع مع الجيل الأول من المنشدين الذين وصلتنا تسجيلاتهم، كالشيخ إسماعيل سكر، والشيخ محرز سليمان، والشيخ علي محمود، والشيخ إبراهيم الفران. كانت هذه طبيعة الحال إذ كان جل الموسيقيين في هذه العصور، وفي جميع البلاد العربية، من المشايخ الذين بدؤوا من الكُتّاب فحفظوا القرآن وجوّدوه، وحفظوا الموالد النبوية، والتي كانت الصورة الفنية التي تُقدم للجمهور من السيرة النبوية المشرفة، كما أنشدوا المدائح النبوية والأذكار في حلقات الطرق الصوفية، ثم امتدّت حناجرهم إلى الموشحات ذات الطابع الدنيوي، وربما كان شعر العشق الإلهي بما له من لفظ دنيوي ومعنى ديني المَعبرَ الذي عبروا منه إلى الموشحات والأغاني الدنيوية المحضة، فمارسوا الغناء والتوقيع والتلحين والعزف على الآلات.
لكن المشكلة التي يوقعنا فيها هذا الجمع أنه يُغيّبُ عنا الحدود الفاصلة بين ما كان يُعد إنشادًا وما كان يُعد غناءً، ويُجبرنا ونحن نتتبع تاريخ الإنشاد الديني على الوقوع في المساحة المشتركة التي كانت ولا بد موجودة، إذا اشتبهت طرائق التلحين والأداء، واختلفت موضوعات الأشعار والموشحات.
يتمثّل الاشتباك الثاني في الوقوف على الملامح الفنية التي كانت تميز هذا الإنشاد المشايخي في كل قُطر من الأقطار العربية لدى مطلع القرن العشرين، فبماذا كان يتميز إنشاد المشايخ في القاهرة عن إنشاد المشايخ في دمشق وحلب عنه في الموصل وبغداد عنه في إسطنبول؟ ولنا أن نمد الخط على استقامته غربًا إلى طرابلس وتونس والجزائر ومراكش، إذ كان أكثر القائمين على أمر الموسيقى هناك من المشايخ أيضًا.
لا شكّ أن هناك اختلافات وتمايزات سيقودنا إليها شكل الموسيقى الغالبة على كل بلد، من حيث المقامات المستعملة ومساراتها الشائعة والإيقاعات الرائجة، ومِن حيث شكل التلاوة السائد في البلد والذي يفرض بالضرورة مغايرةً ما، مع شكل الإنشاد، لا تنفي تقاربًا معه بمسافة محسوسة، وثالثًا من حيث طبيعة الاحتفالات الدينية والصوفية التي شكلت الممارسات الإنشادية، وكثيرًا ما تحكمت في مساحة الفن وطبيعته فيها.
لكن برغم ذلك تبدو تقاربات وتشابهات كثيرة في الإنشاد المشايخي بين الأقطار العربية، لعل سببها الأبرز أنه ينبع من ثقافة دينية واحدة وإن اختلفت البلدان، قوامها حفظ القرآن وتجويده وحفظ المدائح النبوية ونصوص المولد وقصائد الزهد والحكمة، والتي يُنشد كل منها غالبًا في مناسبات راتبة.
بهذا تشكلت أرضية ثقافية مشتركة لمشايخ الإنشاد في البلاد العربية، طبعَت فنهم بطابع بارز، هو أنه فن نخبة وليس فنًّا شعبيًّا، فالقائمون عليه أولو معرفة دينية وثقافة أدبية ومعرفة موسيقية وينشدون شعرًا فصيحًا، ويشتركون على اختلاف بلدانهم في نصوص بعينها أيضًا كقصائد البوصيري والبرعي. بذلك افترقوا عن أنماط الغناء الديني التي نجدها في الغناء الشعبي، سواء التزم الأخير طبيعته العامية كالمواويل والقصص الدينية التي كان ينشدها المغنون الريفيون في دلتا مصر، أو اختار لنفسه عيون القصائد الفصيحة كما فعل الإنشاد الديني الصعيدي في طفراته الأخيرة.
أما الاشتباك الثالث فيختصّ بالمصطلح، إذ اضطرب المعنيون بهذا الفن في استعمال الألفاظ التي تشير إليه، فكثرت واختلطت رغم ما بينها مِن فروق لغوية، ورغم ما يقتضيه بعضُها من اختصاص ببعض أشكاله دون بعض، فلدينا الإنشاد والابتهال والتواشيح والذِّكر والمدح والمديح والمدائح والحضرة.
يمكننا رد هذا التعدد والاضطراب إلى تعدد الأصول الشعرية والموسيقية للإنشاد، وتعدد ممارساته الاجتماعية، ما أدى إلى غلبة أحد هذه المصطلحات على غيره في سياق اجتماعي بعينه، والظاهر بحسب الدلالة والاستعمال أن الإنشاد يشملها جميعًا، ويحصرها ويفصلها فصلًا واضحًا عن أشكال الغناء.
أما الابتهال فيختصُّ بما كان موضوعه مناجاة وتضرّع إلى الله، والتواشيح لفظ شاع إطلاقه خلال القرن العشرين على كل أشكال الإنشاد المشيخي في مصر، لكن لكونه جمع توشيح فالأصح أن يتجه إلى ما نُظم على طريقة الموشحات، وأما المدح والمديح والمدائح فيتوجه إلى ما كان موضوعه مدح النبي صلى الله عليه وسلم وآل البيت والصحابة، وأما الذكر والحضرة فيرتبطان بالممارسة الصوفية الجماعية.
إذا كُنّا قد عرفنا أن بدايات هذا الفن الحديثة ترجع إلى مشايخ الموسيقى المؤسسين كالمسلوب والمغربي والموصلي، فإننا سنحاول انطلاقًا منهم أن نتتبَّع رحلة الإنشاد المشيخي القاهري خلال القرن العشرين.
هنا يعود إلينا الاشتباك الأول، جمعُ المشايخ بين أكثر من فن، ففي كتابه الأغاني العصرية الصادر عام ١٩٢١ يسرد كامل الخلعي ملحني الفقهاء – وهو اصطلاح متأخر في مصر للمشايخ الذين يقرؤون القرآن في السهرات، وتُخفف العامية مفرده إلى فقي – فيذكر منهم:
الشيخ حسن مملوك، الشيخ إسماعيل سكر، الشيخ علي محمود، الشيخ درويش الحريري، الشيخ محمود صبح، الشيخ سيد موسى، والشيخ محمود البربري.
مِن بين هذه الأسماء يلمع اسم الشيخ علي محمود، الذي يُعد في ذاكرة الاستماع الشائع رأس مدرسة الإنشاد المشيخية القاهرية، وأحد أشهر القراء في مدرسة التلاوة، فيما اتجهت أسماء أخرى جهات أخرى، كالشيخ درويش الحريري الذي اشتهر برواية الموشحات وتعليمها، والشيخ محمود صبح الذي انصرف إلى التلحين والغناء.
فيما ذكر الخلعي من مشاهير المنشدين في حلقة الذكر: الشيخ سالم صالح، الشيخ علي القصبجي، الشيخ إدريس (أحمد إدريس؟)، الشيخ عبد الله القوصي، الشيخ محمد المسلكاتي، محمد أفندي نديم، الشيخ الشعشاعي، والشيخ أحمد البساتيني.
نفاجأ هنا بالشيخ الشعشاعي الذي اعتزل الإنشاد بعد سنوات قليلة وتفرغ للتلاوة ليصبح واحدًا من أهم القراء، ورأس مدرسة التلاوة مع الشيخ محمد رفعت حتى وفاته عام ١٩٦٢.
امتد اختلاط التخصصات والفنون التي يمارسها الفقهاء حتى نشأة الإذاعة الحكومية عام ١٩٣٤، والتي يبدو أنها كان لها الأثر الأكبر في تحديد الاختصاصات وفرز المشايخ إلى ثلاث فرق رئيسة، قراء ومنشدين ومطربين، وربما كان للسينما والنموذج الذي قدمه محمد عبد الوهاب للمطرب دور في التعجيل بفصل الفريق الثالث عن الفريقين الأولين، لكنهما سرعان ما تمايزا وانفصلا، ولم يبق إلا عدد قليل من المشايخ يمارس التلاوة والإنشاد معًا بشكل رسمي، أي عبر أثير الإذاعة.
وقد وصلنا عبر الأسطوانات تسجيلات إنشادية للشيخ علي القصبجي والشيخ محرز سليمان والشيخ إسماعيل سكر، لكنّ يظل أبرز اسمين شكّلا هوية الإنشاد الديني الذي وصلنا في حقبة ما قبل الإذاعة وفي سنوات الإذاعة الأولى هما الشيخ علي محمود والشيخ إبراهيم الفران.
أما الشيخ علي محمود (١٨٧٨ – ١٩٤٣) فيحتل مكانة رفيعة على رأس دول التلاوة والإنشاد والغناء، إذ هو أقدم قارئ وصلنا صوته بتلاوة القرآن، فلم يصلنا صوت قارئ من مواليد سبعينيات القرن التاسع عشر غيره، وأما في الغناء فقد شهد له كبار ملحني عصره بالأستاذية والمعرفة الرفيعة بالموسيقى، وعبر مجموعة من الأسطوانات التي سجلها لشركة أوديون وصلنا له تراث غير قليل من القصائد المغناة بمصاحبة الموسيقى وبلا إيقاع، أكثرها دنيوي الموضوع.
لكن ربما كان الإنشاد هو المجال الأبرز الذي تجلت فيه المعرفة الموسيقية للشيخ علي محمود، إذ تتجلى فيه معرفته الواسعة بالأنغام ومسالكها، والتي يُترجمها بشكل مُعجز إلى تحوّلات وتنقّلات مقامية غريبة ومفاجئة وشديدة الصعوبة، وفي الوقت نفسه ليست عبثية ولا استعراضية ولا تقطع خط الطرب الذي ينضبط عليه مزاج المستمع.
تذيع الإذاعة للشيخ ست تلاوات هي كل ما وصل من تراثه في التلاوة، كما وصلنا عدد قليل من قطِعه الإنشادية: أشرق فيومك ساطع بسام وبشراك يا نفس وأجمل أماني ليلة القدر، وقطعتان من المولد النبوي في احتفالات المساجد، فيما وصلت طلع البدر علينا بمصاحبة الموسيقى، وعدد أكبر من القصائد المغناة أشهرها يا نسيم الصبا وأنعم بوصلك لي.
كما كان الشيخ علي محمود عبر معرفته الواسعة بالأنغام، ومشاركته الواسعة في فنون الأداء جميعها، مدرسةً تخرّج فيها معظم منشدي ومطربي عصره، وخاصة من أتيح لهم المشاركة في بطانته، ولعل أشهر من نُسبوا إلى التلمذة له من خلالها الشيخ زكريا أحمد، والشيخ طه الفشني؛ ولعل الشيخ علي محمود هو الوحيد الذي أثبت لنفسه حضورًا بارزًا ومتوازنًا في التلاوة والإنشاد والغناء معًا، فلم يفعلها أحد بعده، ولا نستطيع إثباتها لأحد قبله في ظل شح التسجيلات.
أما الشيخ إبراهيم الفران (١٨٨٤ – ١٩٤٧) فخلّد حضوره بصوت شديد الجمال والمرونة، مع مساحة استثنائية أوصلته إلى طبقات حادّة نادرة في أصوات الرجال، ولا تُذيع الإذاعة تسجيلاته رغم حضور اسمه في برامجها قديمًا، وقد وصلنا له قطعة نفيسة من المولد النبوي وقطع إنشادية، أشهرها وأجمل منك لم تر قط عيني، وقطع غنائية بمصاحبة الموسيقى سجلت لشركة أوديون، أشهرها ألا إن ديني فاعلموه هو الهوى وكم ليلة منع الغرام منامي.
مع إنشاء الإذاعة عام ١٩٣٤ بزغت شهرة جيل جديد من المنشدين كان وريثًا شرعيًّا لجيل المؤسسين، وقد لعبت الإذاعة على مرحلتين دورًا رئيسًا في فصل تخصصات الأداء، فكان هذا الجيل من المشايخ أول جيل انفصل عن الغناء ليتفرغ للتلاوة والإنشاد، على الأقل بحسب قوائم برامج الإذاعة التي وصلتنا
يتصدر الشيخ طه الفشني (١٩٠٠ – ١٩٧١) هذا الجيل، وقد قرأ في الإذاعة مبكرًا منذ عام ١٩٣٥، ومارس التلاوة والإنشاد، وحافظ على حضوره البارز بهذه الثنائية حتى رحيله، ولم يمارس فيها الغناء، لكنه مارسه في عقد العشرينيات ووصلنا بصوته أسطوانة غنائية واحدة على الأقل.
خلَفَ الشيخُ طه الفشني الشيخَ علي محمود على زعامة دولة الإنشاد، ويُعدُّ بحق الشخصية المركزية في تاريخ الإنشاد القاهري خلال القرن العشرين، فقد عاصر أجيال المتقدمين والمتأخرين، وكان المَعبَر الذي جازه الإنشاد من عصر المشايخ الجامعين لفنون الأداء وصولًا إلى المشايخ وحيدي التخصص، وشهد التحولات التي مرت على أشكال الأداء، ووصلنا بصوته ثروة هائلة من التسجيلات، شملت جميع الأشكال القولية التي مارسها المنشدون من قراءة للمولد النبوي، ومديح نبوي، ومناجاة ودعاء، ووعظ وحِكم، منفردًا ومع البطانة.
يُعدُّ جيل الشيخ طه الفشني آخر جيل شهد حضورًا أساسيًّا ومبدعًا للبطانة مع المنشد، كما يُعد الشيخ طه الفشني النموذج الأمثل للمنشد ذي البطانة من حيث التجاوب بينه وبينهم وحسن إدارته لهم، ومهاراته البارعة في تسليمهم والاستلام منهم والدخول عليهم واستعادتهم وتوجيههم، كل هذا بانضباط وتفاهم شديدين لا يحدث معهما أي اختلال.
كما ارتفع حظ السميعة حين وصلتنا تسجيلات محفلية مطولة للشيخ طه الفشني، أشهرها يا أيها المختار وميلاد طه، وأبان أداؤه في المحافل عن قدرات مذهلة في التطريب والتحكم في الجمهور وانتزاع إعجابه العنيف وصيحاته المتأوهة، عبر تقنيات تطريبية بدت أشد تحررًا منها في الاستوديو كالآهات والمدود والغُنن والزخارف.
تمتع الشيخ طه الفشني بصوت شديد الجمال والليونة ضمن له نجومية بارزة في عالمي التلاوة والإنشاد، وربما كان سببًا في تهميش نجومية منشدَيْن معاصرين له كانا في الطبقة العليا من الإبداع الفني، هما الشيخ محمد الفيومي (١٩٠٥ – ١٩٨٨) والشيخ عبد السميع بيومي (١٩٠٥ – ١٩٨١).
مارس الشيخان التلاوة والإنشاد معًا في الإذاعة، ويرد اسمهما في التلاوات الصباحية خلال سنوات الأربعينيات، لكنّ ضوابط صارمة وضعتها لجان الاستماع والإجازة في أوائل الخمسينيات، بقيادة الموسيقار محمد حسن الشجاعي والشاعر محمود حسن إسماعيل، أدت إلى استبعادهما من ممارسة التلاوة في الإذاعة والاكتفاء بهما مُنشدَيْن.
لا تعني هذه الضوابط طعنًا في قدرة الشيخين وأهليتهما للتلاوة، فقد استُبعدت أسماء كثيرة أخرى خلال هذه الحقبة لم نعُد نعرف عنها اليوم شيئًا. كان الشجاعي يبحث للإذاعة عن درجة عليا من الكمال في جمال الصوت وثراء الأداء ووضوح الشخصية الفنية للتلاوة واستقلالها عن الفنون الأخرى؟
تفرغ الشيخان للإنشاد، ووصلنا لهما عدد جيد من التسجيلات مع البطانة، كما وصلنا لهما تسجيلات مع الموسيقى لأعمال مُلحنة سلفًا. كان هذا تحولًا جديدًا أفرزه تطور الإنتاج الإذاعي، أن تكلف ملحنين متخصصين بتلحين أعمال للمنشدين وتسجيلها مع فرقة كاملة. إضافة إلى ذلك، أبقى الشيخ محمد الفيومي لنفسه حضورًا خاصًّا عبر ظهوره اللافت منشدًا في بعض الأفلام السينمائية، أشهرها رصيف نمرة ٥ عام ١٩٥٥.
مع أواخر الأربعينيات وخلال الخمسينيات بزغ نجم جيل ثالث من المنشدين، كانوا أشد اختصاصًا بهذا الفن، أو تخصيصًا له مِن قِبل الإذاعة، باستثناء الشيخ كامل يوسف البهتيمي (١٩٢٢ – ١٩٦٩) الذي جمع التلاوة والإنشاد، وكان قارئًا مبرزًا من الطبقة الأولى، وخلّف عددًا غير كثير من التسجيلات الإنشادية التي تشهد بعلوّ كعبه صوتًا فذًا وفنًّا رفيعًا، رغم دخول تقاليد التلاوة على إنشاده، كالابتداء بالقرار، وكاعتراض بعض الجُمل والقفلات الشائعة في تلاوته.
لعبت قرارات الشجاعي دورًا بارزًا في تمييز التخصصات بين المؤدين في الإذاعة، ولم يعد لنموذج الشيخ القارئ المنشد المطرب وجود. صحيح أن هؤلاء المنشدين ظلوا يمارسون التلاوة خارج الإذاعة، إلا أن تصنيف الإذاعة لهم حسم تصنيفهم عند الجمهور.
يُعد الشيخ محمد الطوخي (١٩٢٢ – ٢٠٠٩) من أهم أعلام هذا الجيل، دخل الإذاعة في الأربعينيات، وله عدة تسجيلات مع البطانة، وأخرى منفردة، وثالثة لأعمال ملحنة بصحبة فرقة موسيقية، وظل يمارس الإنشاد حتى فترة متأخرة من عمره الطويل بعد أن رحل جميع أقرانه.
وقد أهدى هذا الجيل الإنشاد المشيخي أشهر علَمين في ذاكرة الجمهور المعاصر، وهما الشيخان نصر الدين طوبار وسيد النقشبندي.
أما الشيخ سيد النقشبندي (١٩٢٠ – ١٩٧٦) فحجز لنفسه مكانةً متفردة بصوت استثنائي في مساحته وقوّته، تصغُر إلى جنبه الأصوات؛ ورغم أنه لم يكن يَصدر في أدائه عن تخطيط نغمي فإن المحافل الخارجية كانت تصل بمزاجه الأدائي إلى درجات مدهشة من الطرب، خاصة مع وصول صوته إلى أقصى طبقاته العليا التي لا نظير لها، ما يوصل الجمهور إلى أعلى درجات النشوة الطربية، ويدفع الشيخ إلى المزيد.
ما زالت تسجيلات محافل الشيخ النقشبندي من أكثر تسجيلات الإنشاد شعبية عند الجمهور، وترقُّبًا لنوادرها بين السمّيعة، خاصة مع ظهور مرئيات نادرة له في السنوات الأخيرة.
كما شجعت إمكاناته الصوتية الهائلة الملحنين للتعامل معه والتلحين له، فلحّن له محمود الشريف وسيد مكاوي وبليغ حمدي وعمار الشريعي وغيرهم، وسجل ألحانهم بصحبة فرقة موسيقية كاملة، ومِن أشهرها أنشودة مولاي التي لحنها له بليغ حمدي.
أيضًا حجز النقشبندي لنفسه حضورًا خاصًّا في شهر رمضان، فلسنوات طوال كان صوته النشيد الرسمي لساعة الإفطار في الإذاعة المصرية؛ ورغم تأخر اعتماده في الإذاعة حتى النصف الثاني من الستينيات، فلا شك أن شهرته سبقت ذلك بكثير، إذ له تسجيلات وصور من رحلة مشهورة إلى سورية عام ١٩٥٧، ومثلت وفاته المبكرة ضربةً قاسية لفنّ الإنشاد.
أما الشيخ نصر الدين طوبار (١٩٢٠ – ١٩٨٦) فقد اعتمد بالإذاعة عام ١٩٥٦، وسجل في بداياته أعمالًا قليلة مع البطانة، ثم تَحوَّل إلى الأداء المنفرد على طريقة خاصة به جعلته المؤسس الحقيقي لفن الابتهال بين فنون الإنشاد.
إذ تخصص في أداء أبيات المناجاة والضراعة إلى الله على سمت هادئ خاشع نفذ إلى قلوب الجماهير، وملأ ما يبدو أنه كان فراغًا في المادة الإنشادية الرائجة، وفي السنوات اللاحقة على نكسة ١٩٦٧ التحمت الجماهير بطريقته أكثر، لحاجتهم إلى الضراعة والدعاء بالنصر.
كان من فرائد الشيخ طوبار أيضًا أنه طوّر – عبر صديقه الشاعر الصاوي شعلان – فقراتٍ نثرية مسجوعة يبدأ بها مناجاته، وتأخذ مساحة كبيرة يشغلها ببناء نغمي مخطط ومتصاعد، قد يمتد معه لنحو ديوانين، ونسجل هُنا تناغمًا مدهشًا بين طبيعة التطويرات التي أحدثها طوبار وطبيعة الكلمات التي كان يختارها، ما يدل على أنّ الأمر بُني عنده على معرفة وتخطيط.
إلى جانب ذلك ترك طوبار عددًا من تسجيلات المحافل على الطريقة التقليدية، كما ترك عددًا من الأعمال الملحنة المغناة بصحبة الموسيقى.
بعد هذا الجيل عانى فن الإنشاد مِن شُح المواهب الكبرى، وربما كان الشيخ محمد عمران (١٩٤٤ – ١٩٩٤) أبرز اسم يمكن ذكره من المنشدين المتميزين في الربع الأخير من القرن العشرين، وقد تمتع بصوت قوي ذي مساحة ضخمة ومعرفة كبيرة بالنغم، ورحل مبكرًا.
خلال الفترة الممتدة بين نهاية الثمانينيات ونهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين برزت أسماء كان لها حضور قوي في تمثيل فن الإنشاد، أهمها الشيخ محمد الهلباوي (١٩٤٦ – ٢٠١٣)، والشيخ سيد محمد حسن (١٩٤٥ – ٢٠٠٧)، والشيخ حسن قاسم (١٩٤٤ – ٢٠١٨)، والشيخ عبد التواب البساتيني (١٩٤٦ – ٢٠١٨) والشيخ سعيد حافظ (١٩٥١ – ٢٠١٦)، وكان لبعضهم أصوات ندية قوية، وسُهمة حسنة في الإنشاد في الحفلات العامة وعبر أعمال ملحنة.
لكنّ هذه الحقبة شهدت في المجمل تراجعًا وركودًا لفن الإنشاد المشيخي على مستوى منتجه الفني، ومِن جهة حضوره المجتمعي أيضًا، وبالتأكيد أثّر كِلا الأمرين في الآخر.
يمكن رد الركود الذي تعرض له الإنشاد المشيخي القاهري إلى حالة عامة ضربت التلاوة والغناء الطربي أيضًا، أسهمت فيها تحولات اجتماعية كثيرة، كانحسار الموالد التي كانت أهم ساحات الممارسة الإنشادية أمام الجمهور، وظهور ألوان جديدة من الغناء والإنشاد ولّت ظهرها للأشكال الكلاسيكية، وحاولت صكّ طرق جديدة للأداء، إلى جانب زوال مركزية الإذاعة التي كانت تضمن فرزَ الجيد وحجب الرديء. هذا مع انتشار أجهزة الكاسيت ونشأة شركات الكاسيت الخاصة في الأقاليم، وليس انتهاءً بصعود التيارات السلفية التي صنعت هامشًا من المتدينين غيرَ مُرحّب بالفنون بأكثر مِن حُجة، فوُصم الإنشاد حينًا بأنه بدعة، وأُجهض حينًا آخر مِن خلال وصم نصوص المديح النبوي التي تشكل أكثر مادته بالشرك، ووُئد حينًا ثالثًا من خلال تبديع المواسم التي اعتاد الإطلال من خلالها كالموالد واحتفالات المناسبات الدينية.
خلال هذا كله فقد الإنشاد المشيخي القاهري كثيرًا من حواضنه الاجتماعية، وبات موضة قديمة، وملأت فراغه ألوان أخرى، كأناشيد العفاسي مثلًا عند قطاع من الشباب الذي لم يتعود الاستماع للمشايخ القدماء، وكالإنشاد الصوفي الصعيدي الذي شهد طفرات مدهشة على يد الشيخ ياسين التهامي، ليصبح الشيخُ ومقلدوه نجومَ موالد القاهرة بعد أن خفتَ صوتُ مُنشديها.
رغم هذا التراجع شهدت العقود الأخيرة نهضة كبيرة في نشر التسجيلات القديمة، للتلاوة والإنشاد والغناء على الإنترنت، حتى لنستطيع القول إن أرشيفًا كاملًا قد بات متاحًا للمستمع، لا ينتظر منه سوى ضربة بحث.
بفعل هذا الانتشار السريع عادت تسجيلات كبار المنشدين للظهور والتداول على مواقع التواصل الاجتماعي، لتحظى بإعجاب أجيال جديدة من الشباب لم يعاصروا شيوخه الكبار، وتفتح أبوابًا للممارسة الفردية عبر تقليد ابتهالات وأناشيد مشهورة، فيما لا يزال الإنشاد يمارس في الاحتفالات الرسمية بالمساجد الكبرى بشكل رسمي روتيني تاركًا الفرصة سانحة لظهور نجوم جدد يمكنهم استعادة بريقه، إذا اجتهدوا في تحصيل ثقافة موسيقية وخبرة سماعية – باتت متاحة – تصلهم بالخيط الذي انقطع.