.
صدر مؤخرًا على أسطوانة ١٢ إنش عمل جديد لـ مازن كرباج يحمل عنوان ستسقط الأسوار، والذي هو في الأساس تسجيل حي لقطعة موسيقية مؤلفة لـ ٤٩ ترومبِت، أُدّيت وسُجّلت في برلين في أيار المنصرم داخل مبنى مستودع مياه سابقًا. تعود فكرة العمل إلى القصة التوراتية في سفر يهوشع، حيث يقوم سبعة كُهّان بهدم الأسوار المحيطة بمدينة أريحا من خلال النفخ في الأبواق والصياح بعد ستة أيام من الدوران المستمر حولها.
بعيدًا عن الخلفية الدينية للقصة التوراتية، يستلهم كرباج فكرة هدم الأسوار كمقولة سياسية أساسية في العمل، يعبر عنها من خلال العنوان وتوظيف لفظ ذلك الشعار كأحد الأصوات المستخدمة في القطعة، دون أن يحمل العمل أكثر مما يحتمل من ناحية المقولة السياسية. إضافة إلى ذلك، يستلهم كرباج فكرة الرقم سبعة كعنصر تأليفي يشكل محورًا أساسيًا لسير العمل الموسيقي ومبناه، فتعتمد القطعة على توظيف سبعة أصوات مختلفة موزعة على سبع حركات موسيقية وصوتية، كما وتتشكل مجموعة العازفين من سبع مجموعات تتألف كل مجموعة منها من سبعة عازفين يكون أحدهم قائد المجموعة بحيث يمرر الإرشادات والإشارات الانتقالية، فيأخذ الرقم سبعة بالتالي دورًا يتجاوز رمزيته، ليكون عنصرًا عضويًا للأفكار التأليفية في هذا العمل.
يختلف هذا العمل عن المعتاد لدى كرباج كعازف يقدم الموسيقى الارتجالية الحية، فهنا هو المؤلف وليس أحد العازفين الذين يؤدون القطعة، ذلك إضافة إلى كون موقع الأداء (مستودع المياه الكبير في بنزلاور برج، برلين) عنصرًا مهمًا ورئيسيًا في العمل إلى درجة اعتباره الآلة الخمسين، إضافة إلى التسعة وأربعين ترومبِت. بالتالي، يعتبر هذا العمل مخصصًا لذلك الموقع بالتحديد site-specific composition، حيث يتميز هذا المستودع معماريًا بأبعاده الكبيرة وبممرات داخلية أشبه بمتاهات دائرية، ما يجعل الخصائص الصوتية لهذا الموقع مميزة وخاصة، من ناحية عمق، ضخامة وصدى الصوت. لا يعتمد هذا العمل على تقنيات التأليف التقليدية وهو ليس مؤلفٌ بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن لا ينقص ذلك من مفهوم التأليف في هذه الحالة، بل على العكس تمامًا، يوسع مفهوم التأليف بحيث أنه يتطرق لأدق التفاصيل الصوتية لآلة الترومبت وللخصائص الصوتية لمبنى مستودع المياه، حيث تشكل تلك المكونات الرئيسية لهذا العمل بالذات، كسياق صوتي وموسيقي مدروس ومخطط مسبقًا.
إن حقيقة كون العمل مخصصًا لـ ٤٩ آلة ترومبت ومستودع مياه، تدعونا إلى توضيح بعض النقاط حول مستودع المياه كمبنى / آلة من جهة، والإمكانيات الصوتية لآلة الترومبت من جهة أخرى. أما المبنى فيتألف من مساحة دائرية تدور في أربع حلقات داخلية مفتوحة على بعضها البعض من خلال أبواب صغيرة، بحيث تشكل تلك الحلقات مسارات داخلية تصبح أضيق فأضيق، مضافًا إليها العلو الكبير للمبنى، ما يخلق أبعادًا ينتج عنها تضخيم وصدى خاص للصوت، يصل إلى ١٨ ثانية (الوقت الذي يستغرقه الصوت للخفوت بعد حدوثه) ويختلف ذلك من نقطة إلى أخرى في المبنى.
أما بالنسبة للترومبت، فإضافة إلى الصوت الطبيعي للآلة كآلة نحاسية، يوظف كرباج الإمكانيات الصوتية الأخرى للآلة بحيث تشمل أصوات الآلة كجسم، أي على سبيل المثال أصوات الصمامات والقطع الأخرى التي تكون الآلة، ذلك إضافة إلى تقنيات العزف المختلفة كالنفخ دون تصويت، أو الضرب على فم mouthpiece الترومبت بكف اليد، وأصوات خطى العازفين عند دخولهم المبنى. كلها أصوات تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكن ينتج توزيعها وتنظيمها بين ٤٩ ترومبت والنقاط المحددة داخل مبنى مستودع المياه نسيجًا صوتيًا مركبًا وخاصًا، يختلف بين نقطة وأخرى، والذي بالتالي يشكل اختلافًا في التجربة السمعية للجمهور الذي كان حاضرًا عند تسجيل القطعة. الأمر الذي استدعى تقنيات تسجيل صوتي خاصة binaural recording techniques بهدف إنتاج تسجيل يعكس قدر الإمكان التجربة السمعية الحية داخل المبنى.
تسير القطعة بحسب إرشادات وإشارات من قائد كل مجموعة من العازفين، فتتطرق إلى السبعة أصوات المعتمدة، وتنظمها في سبع حركات موسيقية تسير بشكل تسلسلي، فتبدأ القطعة بعد دخول الجمهور وتموضعه من جهة واحدة من الجدران الداخلية لمبنى مستودع المياه، حيث يبدأ الـ ٤٩ عازف بالدخول واحدًا تلو الآخر، ماشين عبر الممرات الحلقية نحو مركز المبنى حتى يصل كل عازف منهم إلى موقعه المعلم والمحدد مسبقًا. خلال المشي، يقوم العازفون كلهم بإصدار صوت واحد هو عبارة عن صوت كبس صمامات الترومبت المفكوكة. من الجدير بالذكر هنا، أنه بالرغم من قيام جميع العازفين بإصدار نفس الصوت، إلا أن الفروق بين الآلات المختلفة من جهة، واختلاف أساليب تحريك الأصابع على الكباسات، يجعل الصوت الصادر من كل عازف مختلف بشكل ملحوظ عن العازفين الآخرين. ينطبق ذلك أيضًا على أنواع الأصوات المختلفة المستخدمة في القطعة، فلكل عازف طريقته في مسك الآلة والعزف عليها، ما يخدم التنوع الصوتي في الأداء.
تتطور الأصوات في القطعة من صوت الآلة المفككة، ثم صوت ضرب خافت على فم الترومبت، فصوت النفخ دون تصويت (نفخ الهواء)، صوت نغمة دو قصيرة، ثم دو طويلة، ثم قول جملة ستسقط الأسوار، ثم صوت المشي خروجًا من المبنى. يُسمع هذا التسلسل وكأنه تشغيل بطيء لثانية أو أقل من العزف، بنسيج صوتي زخم مليء بالتفاصيل الصغيرة، ناتج عن إيقاع الحركات الصادرة من كل واحد من العازفين، والوقت الذي تستغرقه كل حركة موسيقية للاكتمال، إضافة إلى ترتيب تلك الحركات وتشكلها كطبقات من الأصوات بفعل الحركة التسلسلية وسير الإرشادات للانتقال من صوت إلى آخر. فتسمع الصوت البعيد والقريب، الطويل والقصير، والقوي والخافت بانسجام غير مألوف، يسببه الفارق الزمني في درجات الصدى داخل المبنى من جهة، وفي تسلسل الحركات الصوتية والموسيقية من جهة أخرى. تساهم في ذلك أيضًا إرشادات المؤلف المكتوبة، والتي توجه العازفين إلى الإصغاء والاستماع بعمق وانتباه، وإلى ضرورة الانسجام في النسيج الصوتي، والانتباه إلى عدم إصدار أصوات قد تخل بالتوازن في الصوت العام.
يعتمد كرباج في هذا التأليف أصواتًا وتقنياتٍ بسيطة جدًا من قاموسه الخاص الذي يستخدمه في ارتجالاته، ليرتبها وينظمها بحسب أفكار تأليفية تساهم في خلق عمل مركب وزخم رغم بساطة تلك الأفكار، بساطة ناتجة عن حذر وذكاء في التعامل مع عدد كبير من آلات الترومبت والخصائص الصوتية لمبنى مستودع المياه، والذي كما ذكر، يعتبره كرباج الآلة الخمسين في هذا العمل. ما يضيف إلى مفهوم التأليف في هذه الحالة كعملية تنبع عن دراسة ومعرفة إضافةً إلى رؤية فنية وصوتية، والذي يعود باعتقادي إلى براعة كرباج في الارتجال على مستوى إنتاج الأصوات وتنظيمها بحسب رؤية أو تفاعل يختلفان من سياق إلى آخر. هنا تظهر العلاقة بين الارتجال كفعل يعتمد على البحث في إمكانيات الآلة والتأليف كدراسة وتنظيم للصوت، الأمر الذي يزيل بعض الضباب عن بعض التصورات الخاطئة للارتجال كفعل غير مدروس أو كفعل عفوي تمامًا. بالتالي، يلتقي الارتجال بالتأليف في هذا العمل ليس من ناحية أدائية فقط، بل من خلال المساهمة بخلق سياق صوتي وموسيقي متماسك، تبينه الإرشادات المكتوبة والرسومات التوضيحية لسير الأداء الموسيقي كما وتبين مواقع العازفين داخل المبنى.