.
في طفولتي، اعتدت أن أسمع الأغاني بشكل خاطئ. سمعت الكثير من الأغاني بطرق غير المقصودة. والكثير منها نسيتها، أما القليل فهو الذي جعل للأغاني معاني أخرى تماماً. لعلّ ذلك كان خيالي يحلّ ما استعصى عليه. ولكن الأمر ليس ذلك فقط؛ فعندما أستعيد بعض هذه الأخطاء أكتشف أموراً أخرى:
طبعًا، كان محمد منير يقول “لو نسيت القدس“، وهذه هي الكلمات كاملة لمجدي نجيب:
ينساني دراعي اليمين
ينساني دراعي الشمال
ينساني نني العين
وآهة الموال
لو نسيت القدس
ينساني فرح النهار
وضلّة الديار
ورنّة الأوتار
وضحكة كل جار
لو نسيت القدس
تنساني أفراحك
ينساني صباحك
تنساني الشموس
وتنكرني النفوس
والبيوت
والمطر
والشجر
والقمر
تنساني الشوارع والبيوت
وادبل
أدبل أموت
لو نسيت القدس
لم أستمع لذلك فقط وأنا طفل، بل استعصت عليّ الكلمة الرئيسية لأستبدل بها كلمة أصعب. والآن أتساءل: أيّهما أكثر شعريّة؟ فلن تحدث في هذه الأغنية مشكلة واحدة لو وضعت “البؤس” مكان “القدس“، بل تصبح أرحب وأعمق لتتّسع لكل المآسي: فلسطين وغيرها، وتقفز بالمعنى قفزةً غير متوقّعة عندما يمزّق المغنّي بؤسُ الفقراء والمرضى والمضطهدين، ويعمّق غربته وينغّص عليه حياته كلها على هذا النحو الذي تتكفل بقية الأغنية بوصفه ببساطة عبقريّة على طريقة مجدي نجيب التتابعية.
كم من الأفلام العربية القديمة شاهدت وأنا بعد في الخامسة من عمري، في قريتي البعيدة في الصعيد بعيداً عن لهجة القاهرة الحديثة نفسها، لكي أحوّل غناء نيللي من: “قلت لها طاب يللا العبي يا ام جناحات ملوّنة“، إلى هذا الردح الذي عفا عليه الزمن للفراشة التي تدعوها للعب؟ لم أعرف حقيقة ما تقوله نيللي إلا منذ 8 سنوات– عندما حصلت على تسجيل للأغنية. لكنني مستمر في غنائها “إدّلعدي“.
هذه الغلطة تكشف عن مأساة من مآسي طفولتي: فبالرّغم من أنني كنت بالتأكيد فوق التاسعة أو العاشرة عندما غنّت وردة “باتونّس بيك“، إلا أنه كتب علي الوقوف، بحكم أنني كبرت وصرت رجلاً، في طابور فرن العيش الكريه. كل يوم تقريباً، بالساعات أو بعشرات الدقائق وبالمشاجرات، ومع مختلف طبقات مجتمع القرية ممن لا يخبزون في بيوتهم وأنا الطفل الغض المدلل. (أمّي لم تكن تتمكّن من الخَبْز أحياناً، أو ينقصها الدقيق). هكذا صرت أسمع “وامّا بتبعد أنا باتونس بيك” بهذا الشكل المشوّه الغريب الكارثي: “وامّا تجيب عيش أنا باتونس بيك“.
لو كان الأمر أمري
لو كان فيه شيء بيدي
كنت اقدر اشتري لك
جزيرة ويخت فضي
ربّما بعد مرور بعض الوقت بدأت أتبيّن ما هو اليخت عندما بدأت قراءة ميكي وسمير، فصحّحت سماعي للأغنية. لكنّني بالتأكيد سمعتها هكذا في البداية: “كنت اقدر اشتري لك / جزيرة ويا اختي فضي“. ما هذا الإعجاز؟ لقد تحوّل تركيب الجملة تماماً، وظهرت هذه الشقاوة البناتية ثانيةً في الحديث: “يا أختي“، وصار نعت الجزيرة المؤنّثة مذكّراً (جزيرة فضي) على عادة المصريين عندما يقولون “جزمة حريمي“، “عشرة بلدي“، “زفة إسكندراني” وما إلى ذلك، وعلى غير عادة الأطفال الذين يدركون التأنيث والتذكير ويمارسونه أحيانا بطريقة مضحكة، عندما يشتمون ولداً مثلا قائلين: “يا جزم” بدلاً من: “يا جزمة“.
هذه لم أسمعها في التليفزيون مع بقية أطفال القُطر. كان الشباب في القرية يحيطون بالعريس، الذي يحْيُون فرحه بأنفسهم، بالطارات (الدفوف النوبيّة)، ويحيّونه هاتفين: “عريس بسطيبو / يا واحد / الورد كان شوك / من عرق النبي فتّح / سعيد يا نبي سعيد / ما تصلوا عليه / مبروك مبروك مبروك“. ولكني لم أميّز أبداً “فتّح“، لأنّني لم أميّز “كان شوك” بسبب طريقة النطق وضخامة وعلو الصوت، لتتحوّل على هذا النحو السوريالي إلى هذه الصورة الغريبة على المدح والغزل: ما أجمل وأسعد أن يفوز الإنسان بفتّة حساؤها عرق النبي، سواءً أخذت العرق كسائل، حرفيّاً أو مجازيّاً بمعنى تعب النبي. ربما ربطت ذلك أيضاً بصحون الفتة التي كانت توزّع على كبار القرية وصغارها وبيوتها كلها احتفالاً.
***
تنبّهني ملاحظة صديق إلى أنني الطفل الوحيد تقريباً في جيلي، رغم كل الأخطاء غير المألوفة الواردة أعلاه، الذي سمع أغنية صفاء أبو السعود بشكل صحيح: “سعدنا بيها بيخليها ذكرى جميلة لبعد العيد“، بينما تبلبل أقراني في وحل من نوع “سعد نبيهة” (أي سعد ابن نبيهة) و“سعد نبيها” (أي سعد النبي الخاص بهذه الذكرى). أيضا تذكرت حيرتي مثله في جملة “وتبقى نَوّ” في أغنية يا طيور النورس التي لا أعرف من كاتب كلماتها البديعة، رغم أن رائحة صلاح جاهين تفوح منها. كان صديقي السكندري وبسبب كلمة “نَوَ” (التي سيفهمها بسبب سكندريته بعد حين) يتخيل البحر وقد تحول إلى قط متوحش هائج.
لا تأخذوا السمع الخاطئ بهذه البساطة، أحياناً يكون بالفعل إعادة إبداع، حتى عند الكبار. دليلي على ذلك أن صلاح جاهين اكتشف في البروفة أن داليدا تغني كلماته هكذا:
فيه شجرة جُوّا جنينة
عليها علامة
أنا ياما كنت بافكر فيها
وكنت باسأل ياما
يا ترى موجودة
وقلبي محفوظ فيها
أيوة موجودة
وقلبي محفوظ فيها
سالمة يا سلامة
وجد جاهين أن “محفوظ” رائعة وأحلى كثيرا من “محفور” التي كتبها.
شهدت في منتدى محمد منير الجدل المقيت الخاص بألغاز من نوع “أصل الحكاية حكايتنا نبني الإنسان” أم “ابن الإنسان“، و“دار الفرح غنى وصفّر” – كما كنت أسمعها وأراها جميلة – أم “غار الفرح” الغشيمة التي لن يفهم الواحد منها معنى الغيرة أو الإغارة بدلا من أن تكون ماضي “يغور” العاميّة وهي أول ما يأتي إلى الذهن – ذهني على الأقل. (والبحتري نفسه، لأسباب أخرى لغويّة ولكن غير سمعيّة، سيثير بيته الابتسام الآن للأسباب نفسها: “حلّي سعاد غروض العيس أو سيري / وأنجدي في التماس الحظ أو غوري“.) فمنير ينطق بشكل عجيب، وأحياناً يغيّر هو وأحمد منيب في الكلمات بين تسجيل وآخر. وهو عموماً من أكثر المغنين بالعربية إحداثاً للخلط. ولكنه لا يمكن أن يقارن بمايكل جاكسون الذي صار الاستماع الخاطئ من سمات أغانيه. وقعت عن نفسي في أخطاء استماع في كل أغانيه، منها مثلا:
التي صارت: You’re my lollypop
التي تذكر بالمصاصة الشهيرة، ولكنها تستقيم مع المعنى الغزلي وتصبح أكثر حسيّة.
بوب مارلي أيضا كان له نصيبه:
We’re not fool but we’re hungry
Hungry mom, we’re hungry mom
إلى هذه الشكوى الطفولية تحولت الأغنية، في أول سنة جامعية ومع بداية إطعامي لنفسي بعيدا عن أمي، من الصرخة الاجتماعية–السياسية:
Them belly full, but we hungry
كنت في أول سنة بآداب إنجليزي التي لا يفهم طلبتها مثل هذه ’الأخطاء النحوية‘ في غناء مارلي.
**
منذ أعوام كانت آلاء، ذات العشرة أعوام، تصدح في الصالة:
جات تصالحني وقعدت يا ما حامل فيّااا
هكذا، وليس “تحايل فيّ“.
ومنذ أعوام فوجئت بصديقي المحترم يغنّي لكميليا جبران “فيلٌ في حذائي“، متأثرا بزيادة وزنه فيما بدا، عاكساُ معنى الكلمات التي تشكو انعدام الشهيّة. كميليا تقول “فيلٌ في حسائي“.
للاطلاع على حالات أخرى وتعليقات المتابعين حيث نُشِر هذا المقال للمرة الأولى في ٢٠٠٧، ولمعرفة إلى أي مدى كنا أيضا مهرطقين ولا أخلاقيين ومتأثرين بالإعلانات، وغير ذلك.