.
لا شك أن عقد الثمانينيات من القرن الفائت شهد تحوّلًا حادًا في الموسيقى بمصر. إذ ازدادت وتيرة تغيّر ذائقة المستمع المصري، الأمر الذي بدأ في السبعينيات، وتغيّر معه سوق الموسيقى والغناء. تكمن أسباب هذا التغيّر في استقرار شريط الكاسيت الصغير كوسيط أساسيّ لتداول المنتج منذ أواسط العقد السّابق، وبداية انزياح شكل أوركسترا الموسيقى العربيّة كما رسخته فرقة أم كلثوم ومن بعدها الفرقة الماسيّة بقيادة المايسترو وعازف القانون أحمد فؤاد حسن عبر ثلاثة عقود، شيئًا فشيئًا، لصالح أشكال أصغر من مجموعات العازفين. وبتمكين لآلات لطالما اعتبرت غربيّة كالكيبوردز، والجيتار، والبايس جيتار، وطاقم الطبول – ما يعني أن تحوّلًا جذريًا في فلسفة التوزيع الموسيقي كان بصدد الحدوث.
كان المشهد أيضًا قد بدأ ينفتح على موسيقى ثقافات فرعيّة لطالما كانت مهمّشة في المتن الذوقي في مصر، وتحديدًا الموسيقى النوبيّة والبدويّة. فشدت الفترة نجاحًا بالكاد لمحمد منير بدمج “اللون” النوبي في متن الذائقة الغنائيّة المعاصرة، وبشكل تدريجي، في أوساط المثقفين والنخب أولًا، ثم أخذ طريقه خطوة خطوة، عبر السنوات ليحتل المكانة التي صار عليها الآن. ولعل الفضل الأكبر في تلك الانتفاضة الموسيقيّة، سواء على مستوى استلهام الثقافات الفرعيّة، أو على مستوى تثوير التوزيع الموسيقى يعود للموسيقي المتميّز حميد الشاعري، الذي لم تتم حتى الآن دراسة تأثيراته الموسيقيّة الفارقة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين لاستكشاف المكانة التي يستحقّها في ذلك التاريخ. ولنا فقط أن نشير إلى ألبوماته الأولى التي كان يغنّي فيها ألحانه بنفسه، مستلهمًا تراث الأغنية الليبية كما طوّرها ناصر المزداوي وأحمد فكرون، أو توزيعه للألبوم الأول للموسيقي والمطرب النوبي أحمد منيب والذي حمل عنوان مشتاقين، أو إطلاقه لتجربة المطرب البدوي علي حميدة، القادم من بادية مطروح في غرب مصر، والتي كسرّت الدنيا في صيف العام ١٩٨٨، فيما عرف بظاهرة ألبوم لولاكي الذي حطم الأرقام القياسية لمبيعات أي ألبوم غنائي في مصر حتى تاريخه.
وعليه، فبخلاف الركود السياسي والثقافي الذي ميّز الثمانينيّات، كانت الموسيقى (والسينما أيضًا) تشهد مخاضًا جديدًا استمرارًا لموجات من الزعزعة التي تمّت على استحياء خلال سنوات العقد السابق، ساهم فيها موسيقيون كهاني شنودة ويحيى خليل وأسماء أخرى لم يكتب لها أن تستمر.
وفي خضم هذه السنوات، ظهر الألبوم الأول للبحر أبو جريشة والمعنون بـ كفاية بعاد، بلون موسيقي غير معتاد. وإن كانت العادة قد درجت على إلحاقه بالفن النوبي، فإن مصادر موسيقاه في الحقيقة لا تُختصر فقط في السلم الخماسي المميز للموسيقى النوبيّة. بل تتعدّاها إلى تأثيرات ساحليّة، اسكندريّة أو من منطقة قناة السويس، وتُحيل بشكل ما لفنون السمسميّة والرانجو، وهي فنون لعب النوبيون، والأفارقة المستوطنون في مصر، على الترتيب، دورًا هامًا في نقلها من الجنوب إلى السواحل المصريّة شمالًا ومن ثم تطويرها.
كان صوت أبو جريشة الأجش الخشن غير مألوف النبرة للذائقة المصرية التي اعتادت الأصوات العذبة السلسة. كان صوتًا ذا لوعة عميقة، يحمل طاقة كتلك التي تميز مغنيي البلوز السود الكبار في الولايات المتحدة، كان غريبًا حتى في سياق وسوق ما يعرف بـالأغنية الشعبيّة التي كان أباطرتها الكبار كعدوية أو عبده الاسكندراني لا يشّذون كثيرًا عن تصنيف الحلاوة والطلاوة في الصوت كما كانت ترعاه وترسخه اختبارات الإذاعة المصريّة ولجانها التي تجيز المطربين لوسائل الإعلام العريضة، والمُسيطَر عليها حتى ذلك الوقت دولتيًا في خدمة الطبقة المتوسطة وتسييدًا لذوقها المحافظ.
من قلب حي عابدين، معقل المجتمع النوبي في القاهرة كانت تنطلق إبداعات ذلك المطرب والموسيقي، لتكسر تلك العزلة داخل إطار الجيتو وتتجاوزها إلى السوق المفتوحة للأغنية الشعبيّة في مصر. وتتحدّث الأقاويل عن فترة هجرة موسيقيّة قضاها الرجل مغتربًا في الكويت التي تقطنها جالية نوبيّة كبيرة، لا سيما من عرق الكنوز الذين ينتمي لهم أبو جريشة. حيث عمل الرجل هناك مطربًا في أعراس بني جلدته قبل أن يعود إلى القاهرة، لتبدأ شهرته الواسعة قصيرة العمر. ربما كانت للبحر إصدارات سابقة في مستوى الإنتاج منخفض التكاليف، وشركات الكاسيت الصغيرة، لكن ألبوم كفاية بعاد والذي ذاعت شهرته في السوق المصريّة بعمومها مع مطلع الثمانينيّات، جاء يحمل العلامة التجارية لشركة صوت الدلتا وهي من الشركات العملاقة آنذاك، وهي الشركة التي ستنتج ألبوماته اللاحقة، ويخصنا منها هنا ألبوماه الأوليان اللذان رسخا أسطورته، وصنعا لونه المميز. قبل أن يغيّر أسلوبه تدريجيًا بدفعه نحو منطق الغناء الشعبي العادي، متخلصًا شيئًا فشيئًا من عناصر الثقافة الفرعيّة التي تميّزه، ليقارب أداء حسن الأسمر مثلًا.
كان مقهى عبد النبي في ذلك الحي مقرًا للتجمّع اليومي للموسيقيين والمطربين النوبيين، حيث يسهل العثور عليهم والتعاقد معهم لإحياء أفراح وليالي أبناء الجالية. كان المطرب النوبي الراحل علي حسن كوبان قد اتّخذ من شقة صغيرة تعلو ذلك المقهى مكتبًا له يدير منه أنشطته التي تجاوزت أحياء الأفراح والحفلات ذات الطابع المحلي لإحياء حفلات في الخارج ذات طابع فولكلوري. حول مجموعة من الموسيقيين المميزين، وحضور قوي للأكورديون، وطاقم آلات النفخ النحاسية، والبونجوز كآلة إيقاع رئيسيّة، صنع أبو جريشة تراثه في مرحلته الأولى بألبوميه كفاية بعاد ورحال، وعلى كلمات لشعراء كعبد الرحيم شاهين وعبد العزيز زين العابدين وأحمد المستشار.
وتشير عناوين أغنيات كـ كفاية بعاد، رحّال، بحار، ليل يا بو الليالي وفينك يا حبيبي وحدها إلى قاموس محدد يدور في فلك معاني الاغتراب والوحشة. وهو اغتراب مختلف عما نجده مثلًا لدى مطرب وموسيقي نوبي آخر كأحمد منيب، طُبعت تجربته في معظمها بخبرة التهجير النوبي بعد غرق القرى الواقعة على النيل أقصى جنوب مصر وأقصى شمال السودان تحت مياه السد العالي وبحيرة ناصر، بكل حمولة الحنين للتاريخ والجغرافيا البائدين، وهو ما نلمحه أيضًا في عمل الموسيقار النوبي حمزة علاء الدين.
إلا إن تجربة الغربة كما تظهر في عمل البحر أبو جريشة هي ربما نتاج تغريبة أحدث قد تكون خبرة المصريين في دول الخليج مثلًا، وهي لا تبكي زمنًا ومكانًا قديمين، فقط تستدعي البُعد عن الأحباب، ومرارة الانتظار على الموانئ، والرسائل المتبادلة، وشوق لدار بانتظارك، لا دار طمرتها المياه واختفت إلى الأبد. ربما من المفيد هنا أن نشير إلى أن كلا منيب وحمزة الدين ينتميان لعرق الفادكة النوبي، بخلاف أبو جريشة الذي ينتمي لعرق الكنوز. وثمة اختلافات ثقافية بين العرقين تعود ربما لامتهان الفادكة قديمًا للزراعة، فيما امتهن الكنوز حرفة صيد الأسماك. قد تجدي هنا مقارنة بين طبيعة موسيقى منيب وحمزة من جانب، وموسيقى أبو جريشة وعلي كوبان من جانب آخر.
لاقى حسّ البلوز الأسيان لدى أبو جريشة نجاحًا ساحقًا لدى جماهير الأغنية الشعبيّة، بمزاجها المائل دائمًا للحزن، وذلك جنبًا إلى جنب مع خط إنتاجه الآخر الاستثنائي والمتمثل في أغنيات راقصة بألحان مرحة كـ سمارة، وسيب الهموم ووالله ماله. كانت الأغنية الأخيرة بالذات قد نجحت نجاحًا مدويًّا، ما دفع نجم البوب الصاعد كالصاروخ آنذاك، عمرو دياب، والذي كان يعمل لنفس شركة الإنتاج، إلى تقديمها كـ Cover في أحد ألبوماته الأولى، ناقلًا إياها إلى سياق آخر.
لم تتجاوز فترة مجد البحر أبو جريشة العشر سنوات معدودة، إذ سرعان ما تقاعد مريضًا في مدينة الإسكندرية ليختطفه الموت بعدها عام ١٩٩٥. ولا عجب، فقد عرفت الشهرة طريقها إليه وهو في نحو الخمسين، وظلّ معظم مشواره الفني السابق على إصداره لألبومه الأول غارقًا في النسيان والمجهوليّة، عائدًا إلى ثقافته الفرعيّة التي غمرت المشهد الشعبي كما يجب عليها أن تفعل.