.
يشكل بوكلثوم الضلع الثالث في ثلاثي “لتلتة” الموسيقي الذي تشكّل في دمشق العام 2012، بالإضافة إلى خيري أبيح “وتر” وهاني السواح “السيّد درويش” الذي انفصل لاحقاً عن الثلاثي ليتحول إلى ثنائي تحْول المسافة الجغرافية بين عضويه: بوكلثوم المقيم في الأردن، ووتر في بيروت.
ضمن مشهد الراب السوري الفقير نسبيّاً، والذي يفتقر إلى حدود احترافيّة دنيا مقارنة بدول الجوار (لبنان وفلسطين والأردن) يبرز “البوكلثوم” من خلال دخوله في تجارب أكثر نضجاً مع مغنّي راب من المنطقة مثل “ساطي“، “الفرعي“، وبوناصر الطفار، ومنتجين موسيقيين مثل اللبناني جواد نوفل “مونما“.
لغة الراب والمدينة
تتميّز لغة التدفّق التي يقدّمها “البوكلثوم” بجرأة وفجاجة لغويّة هي كما في أي لغة راب أصيلة لا تكترث لمهادنة المستمع، أو ضرورة مراعاة ذائقته. إذ يقول في أغنية “قوم وصلنا” التي نشرت منذ أشهر قليلة على مواقع التواصل الاجتماعي، وحقّقت نسبة استماع عالية، وظهر الفيديو الخاصّ بها مؤخّراً:
“حنون جامعة الدول خايف علينا نغرق
جايين بنص الجمعة نوقف عالطاولة ونخرى“.
وفي أغنية “هونيك..هون” مع “السيّد درويش” ومن إنتاج “مونما“:
“لسّا في لخبطة عند الفرق بين جنسي وجنسيتي
لهيك أحياناً بستفحل بطلعه بدل هويتي“
المفارقة أن هذه اللغة الصادمة، والتي تتكرّر في أمكان أخرى من أعمال البوكلثوم و“لتلتة“، تقف عاجزة عن تقديم لغة جديدة جريئة بالعلاقة مع مواضيع أغانيه الرئيسيّة، وهي المدينة، وتحديداً دمشق.
إذ أفرزت تداعيات المشهد السوري عقب الثورة، والحرب الحالية التي تلتها لدى عدد كبير من الفنّانين الشباب حالة من الارتباك ومساءلة مع الهويّة السوريّة، خاصة بعد هجرة أعداد منهم خارج بلدهم ومدينتهم. حالة الارتباك بالعلاقة مع الهويّة هذه انعكست في الراب وفنون أخرى بصورة ثنائية يندر أن نجد خروجاً عنها حتى اليوم: فهي إما علاقة قطيعة نهائيّة مع المدينة التي تشكل فيها وعي الفنانين الشباب وتملّص منها، أو علاقة نوستالجيّة غير نقديّة– وهو شكل العلاقة الذي نشهده في عدد من أعمال البوكلثوم، وأبرزها “قوم وصلنا“.
” ليك دمشق دانها سادة لغير ولادها ما بتسمع
هادا مو تراك موسيقي هادا طلب عفو من الوالدة “
هنا تتوجّه جرعة الغضب والتمرّد العالية نحو الآخر “جامعة الدول العربية” و“تجار الميديا” أو “العرب“، بينما تدير بوصلة التمرّد هذه ظهرها للذات التي تنسحب من مساءلتها. بل على العكس من ذلك، إذ تعتبرها ركيزة أساسيّة للغضب والتمرّد في وجه الآخر: “لو كانت دمشق بتحكي كانت إجت تخلع نيعك“. فالعلاقة مع المدينة هنا رومانسيّة غير نقدية يؤطّرها ظرف اللجوء السوري القسري بالنسبة للمؤدي، ولكنه لا يبرّرها.
ففي أعمال لأقران “البوكلثوم” في المنطقة، نجد علاقة أكثر مساءلة ونضجاً بالعلاقة مع المدينة في “بيروت خيبتنا” (الراس وبوناصر الطفار)، أو “الوسخ التجاري “الطفار“. وبذلك، نعثر سريعاً على الإشكاليّة الأساسيّة في علاقة تكوين لغة تدفّق البوكلثوم وجرأتها من جهة، بالمعاني التي تقدمها هذه اللغة من جهة أخرى. هذه الإشكاليّة هي التي تنتقص من متعة الاستماع لدى المتلقي المتطلب، فلغة البوكلثوم تصبح شبيهة بإطلاق رصاصات ثقيلة العيار من دون تحديد دقيق للهدف.
“أنا كاره المرايا، أنا خبز حلفايا
أنا الفجر شدّ الجيم فأصابعي شظايا“
إضافة إلى جرأة التدفق اللغوي للبوكلثوم، تكشف الصياغة اللغويّة للتدفق عن ذكاء في ترويض اللهجة السوريّة المعروفة عربيّاً عن طريق لغة الدراما التلفزيونية المفلترة والركيكة. إذ تتحرّك لهجة الراب “الشاميّة” التي يقدّمها بخفّة وتلاعب عالي الجرعة بالمفردات “كبريائكون وكبرت حاءنا لحالنا، حطيت رائي من بعد حائنا ليراقب حالنا“، في تلاعب ضروريّ بالمحكيّة السوريّة لتخليص اللهجة ممّا علق عليها من تراكيب رثّة من لغة التلفزيون. كما أنّه تلاعب على اللغة لطرح المعاني التي ابتذل طرحها (حتى النبيل منها) في الفترة التي تلت بداية الثورة السوريّة، فهو تلاعب لغوي تفرزه اليوم الحاجة التي يؤطرها الظرف السوري الحالي.
الهوية الموسيقية
بعيداً عن اللغة، لم تشكّل أعمال البوكلثوم المنشورة على وسائط الميديا والتواصل الاجتماعي أي هويّة صوتيّة أو موسيقيّة خاصة بها، سواءً في أعماله الخاصة، أو في أعماله مع شركاء آخرين. فمثلاً في “هونيك– هون” مع “السيد درويش” ومن إنتاج “مونما“، تنتمي الموسيقى التي تحضر بوضوح إلى أسلوب “المونما” في تصميم الموسيقى، ولا تحمل خصوصية العمل مع “البوكلثوم” أو “لتلتة“.
وحتى اليوم، وفي معظم إنتاجاته، لم يراكم “البوكلثوم” بما فيه الكفاية لخلق هويّة صوتيّة توازي اللغة الخاصة التي خلقها لنفسه. زد على ذلك أن الأعمال المنشورة للبوكلثوم و“لتلتة” على الإنترنت تنتمي لسويّات متفاوتة، بعضها شديدة البعد عن أدنى مقومات الاحترافيّة. فغربلة هذه الأعمال الموجودة على الإنترنت الموقعة باسم “لتلتة” شرط واجب لثنائي “لتلتة” لجسر الهوة الصغيرة التي تفصل اليوم بينهم وبين التجارب الأكثر نضجاً واحترافيّة في المنطقة.