.
بعكس معظم أنواع الموسيقى، تتناقل الموسيقى الكلاسيكية محتواها عبر التنويط، لا عبر الذاكرة السمعية أو التسجيلات. تشكّل النوطة الموسيقية لعمل ما نصًا له قدسيته، يقوم باحثون مختصون باحثون موسيقيون (musicologists)، مهمتهم مقارنة المخطوطات المختلفة الموجودة من عمل ما، والتوصل إلى نسخة متفق عليها، خصوصًا عندما تكون النسخة الأولى بخط المؤلف مفقودة. كذلك يقومون بكتابة هوامش لتفسير بعض الكلمات الغريبة أو ترجمة بعض الإشارات لمكافئاتها المعاصرة. بدأت هذه الممارسة بشكل منهجي في القرن التاسع عشر، صار المؤلفون وأساتذة الموسيقى يقومون بها عند نشر أعمال أقدم (وكانوا بالتالي يأخذون راحتهم في تغيير الكثير من الأشياء). في القرن العشرين أصبح الموضوع علميًا أكثر مع ولادة علم الموسيقى (musicology) بدراسته وتنقيحه ثم نشره، فيصبح من المستحيل تغيير أي تفصيل مكتوب فيه، بل ومن واجب المؤدي الأخلاقي الالتزام بكل تفاصيله، وبرغبة المؤلف، الذي يبقى حتى بعد موته، السلطة العليا للعمل الموسيقي. قد يعطي كل ذلك الانطباع بأن النوطة الكلاسيكية هي نص مغلق، وأن كل الأداءات لعمل ما ستظل ذاتها إلى الأبد، وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة.
لا شيء يشبه العلاقة بين الموسيقى المسموعة والنوطة المكتوبة أكثر من العلاقة بين الطبخة والوصفة، فمهما تكن الوصفة مكتوبة بدقة، لا شيء يضمن ماهية النتيجة، أو حتى أنها ستكون قابلة للأكل، بل لا يمكن لذات الشخص حتى لو استخدم ذات المكونات والأدوات أن يضمن نتيجة مطابقة تمامًا لآخر مرة. النوطة أيضًا وصفة، بينها وبين النتيجة النهائية طريق وعر مليء بالأفخاخ والحوادث، وبالقواعد غير المكتوبة والاستثناءات غير المعلنة. يكتب المؤلف لعصره قبل كل شيء، وإن كانت النوطة مسجلة على الورق، فإن الكثير من المعارف اللازمة لتفسيرها لم تسجل (وصفة المايونيز كذلك لا تشرح لنا أين نجد البيضة ولا كيف نكسرها)، لذلك تحتاج النوطة مثل أي نص أدبي إلى عملية تأويل، وهو ما يقوم به العازف أو المغني المنفرد، أو قائد الأوركسترا أو الكورال عندما يصبح عدد الموسيقيين أكبر من أن يستطيعوا تأويل العمل وحدهم.
على طول المقال، سأقوم بالعودة إلى أغنية يا أيتها التجليات الحزينة للمؤلف الفرنسي جان فيليب رامو، والمأخوذة من الفصل الأول لأوبرا كاستور وبولوكس من عام ١٧٣٧، تحديدًا من المقطع الذي ترثي فيه الأميرة مقتل حبيبها كاستور ورحيله إلى العالم السفلي، وذلك لمقارنة ثلاث نسخ مسجلة من الأغنية تقدم ثلاث تأويلات مختلفة للنوطة ذاتها، الأولى من عام ١٩٣١، الثانية من عام ١٩٧٢ والثالثة من عام ٢٠١٤.
تبدأ الرحلة عندما يضع المؤلف لمساته الأخيرة على النوطة ثم يوقّع ويرحل عن الدنيا، مفوضًا سلطته إلى المؤدين، والذين سينوبون عنه، تمامًا كالمحامين، في تطبيق وصيته واتخاذ القرارات اللازمة. قد تكون تلك القرارات مصيرية مثل نوع الآلات المستخدمة، وهو شيء لم تحدده النوطات بدقة إلا مع القرن التاسع عشر. في عصر مؤلفنا رامو مثلًا، اعتاد المؤلفون كتابة دور بسيط للمرافقة يسمى بالـ باص المستمر دون تحديد الآلة المسؤولة عن أدائه. حتى القرن العشرين، ظن المؤدون أن دور الباص المستمر هذا كان موجهًا ببساطة لآلات الباص، أي للآلات الغليظة في الأوركسترا كالتشيلّو والكونترباص، وهو ما تقوم به النسخة الأولى (١٩٣١) من أغنيتنا، والتي تلتزم حرفيًا بالتوزيع المكتوب.
ظل ذلك التأويل جاريًا حتى منتصف القرن الماضي، حين بدأت الأدلة تشير إلى احتواء فِرق القرن الثامن عشر على آلات ذات مفاتيح (مثل الكلافيسان)، حتى عند غياب أي دور مكتوب لها على النوطة. استُنتج أن تلك الآلات قامت بالارتجال على دور الباص لتوليد مرافقة معقدة ومزخرفة، ما يبرر خيار قائد الأوركسترا في النسخة الثانية (١٩٧٢) بإضافة آلة كلافيسان تقوم بإغناء خط الباص والارتجال عليه. مع تزايد الدراسات في القرن الواحد والعشرين، تبين أن الدور المرتجل ذلك كان يتغير حسب السياق، فتُكلف به آلات كالكلافيسان في سياق البلاط، أو الأرجن في سياق الكنيسة، بينما يخضع في سياق الأوبرا إلى متطلبات المسرح وإلى مزاج كل لحظة في القصة. لذلك تستعيض النسخة الثالثة (٢٠١٤) عن آلة الكلافيسان الحادة بآلة الثيورب الأكثر نعومة، والتي نسمعها بالكاد في أول كل ميزور تدق نوطة الباص دون أي ارتجال إضافي. ربما رأى القائد أنه سيخرب سكون الأغنية وهدوءها، فاكتفى بإضافة الكلافيسان إلى الجزء الأوسط فقط (٣:٥٢)، ما يساهم أيضًا في توضيح البنية الثلاثية للأغنية (أ-ب-أ).
من المسلي أيضًا ملاحظة اختلاف دوزان النوطة الأولى بين النسختين الأولى والثانية، حيث كان هارنونكور (قائد النسخة الثانية) من أوائل من تجرؤوا على العودة إلى دوزان القرن الثامن عشر بخفض تردد نوطة الـ لا من ٤٣٢ هرتز إلى ٤١٥ (أي ما يعادل نصف بعد على السلّم الموسيقي)، ما يتيح للأوتار أن تسترخي، معطيةً ذلك الصوت الدافئ والمميز لموسيقى الباروك.
كل هذا ولا نزال على الصفحة الأولى من النوطة، فاختيار الآلات وتموضعها في الصالة ودوزانها هي مجرد تحضيرات، وعندما نظن أننا أصبحنا جاهزين للحديث عن الموسيقى بحد ذاتها نفاجأ بجملة قصيرة مبهمة تسبق النوطة الأولى: تعليمة التِمبو أو سرعة الأداء، وهي بدورها لغز كبير؛ إذ حتى بعد اختراع الميترونوم عام ١٨١٥، وهي الآلة التي سمحت بخلق مقياس موحد ودقيق للتعبير بالأرقام عن السرعة المرغوبة بمعدل كذا نوطة في الدقيقة، ظل بعض المؤلفين حتى القرن العشرين يكتفون بتعليمات غائمة من قبيل “بهدوء عميق، في ضباب ناعم ورنان” (ديبوسي، الكاتدرائية الغارقة، ١٩١٠) أو “باعتدال نبيل” (كورنجولد، كونشرتو الكمان، ١٩٤٥).
التِمبو دائمًا نتيجة لشخصية معينة يريدها المؤلف لقطعته، تقوم تلك الشخصية بفرض سرعة معينة، ليس العكس. عندما سُئل ديبوسي عن غياب أي تعليمات ميترونومية في إحدى قطعه الشهيرة للأوركسترا كان جوابه: “افعلوا كما يحلو لكم.” ليس من المهم أن تُعزف المقطوعة بسرعة ٥٠ أو ٥٢ سوداء في الدقيقة فقط لأن النوطة تأمر بذلك، بل لأن تلك السرعة أتت نتيجة رغبة بإعطاء القطعة روحًا تناسبها.
لاستحضار تلك الروح يجب العودة مجددًا إلى عصر المؤلف ومحيطه. في المثالين السابقين، سيستنتج المؤدي بقليل من الخبرة أن السر لدى ديبوسي يكمن في كلمة رنان، أي أن سرعة ترابط الكوردات البطيئة للقطعة تحكمها سرعة تلاشي كل كورد بعد ضربه على مفاتيح البيانو، وعلى المؤدي أن يحكم أي من الكوردات يمكن أن تمتزج ببعضها، وبالتالي أن تتواصل بسرعة، وأيها يجب أن تأخذ الوقت لترن بشكل مستقل. تمامًا كما يقرر الفنان الانطباعي إضافة ضربة فرشاة فوق أخرى لخلط اللونين، أو إبعادهما عن بعض. في كونشرتو كورنجولد مثلًا، يكمن المفتاح في فيلم هوليوود فجر آخر من عام ١٩٣٧، والذي كتب كورنجولد موسيقاه وأشرف على تسجيلها قبل أن يعيد استخدامها في كونشرتو الكمان. في هذه الحالة يمكن استنتاج التِمبو المثالي عن طريق الأخذ بعين الاعتبار شخصية الفيلم وسرعة موسيقاه من جهة، وفروقات التوزيع والكتابة لآلة الكمان من جهة أخرى.
كعالم آثار، يتتبع المؤدي أدلةً تركتها تقاليد اجتماعية بائدة للبحث عن معلومة تأويلية ثمينة مثل التِمبو، تعيد إحياء قطعته. عندما يكتب مؤلف ما من القرن التاسع عشر: “بسرعة الفالس”، لا يلمح إلى رقم محدد بل إلى ذاكرة جماعية اختزنتها أقدام الناس وأجسادهم آنذاك نتيجة سنوات وسنوات من الرقص. أما اليوم، يجد المؤدي نفسه مضطرًا إلى القيام بقليل من البحث والمقارنة لاستنتاج أن سرعة الفالس الوسطية هي ١٨٠ نوطة سوداء في الدقيقة. يبدو وكأن الموضوع محلول، كون الفالس يقوم على ثلاث ضربات متساوية تتكرر باستمرار، إلا أن المؤدي الجيد يعرف أن الضربات الثلاث هذه ليست متساوية إلا على الورق، ففي الفالسات الفييناوية مثلًا، درجت العادة بإطالة الضربة الثانية بشكل طفيف على حساب الثالثة، بينما امتازت الفالسات الفرنسية بتساوي ضرباتها، أما الفالس الأنجلو-أمريكي فعادةً ما يكون أبطأ (٩٠ سوداء في الدقيقة). يتعقد الموضوع أكثر حين يقوم مؤلف فرنسي مثلًا بتقليد فالس نمساوي، كما في فالس كوريوجرافيك بوِم لـ موريس رافيل. هنا يأتي دور المؤدي ليدرس سياق العمل ويقرر ما إذا كان ذلك التقليد من باب السخرية أو الاحتفاء أو الرثاء، ويتخذ قراراته الموسيقية بناءً على ذلك بتقليد العرجة الفييناوية الشهيرة أو بإزالتها أو حتى بالمبالغة فيها.
في أغنية رامو مثلًا، يكتفي المؤلف بكتابة “بطيء جدًا” على النوطة، الشيء الذي يفسره المؤدون في كل من النسختين الأولى والثانية بسرعة ٨٦ نوطة سوداء في الدقيقة، بينما تفسره النسخة الثالثة بـ ٤٠، أي نصف السرعة، وتستغرق بالتالي ضعف مدة النسختين الأولتين.
لندخل الآن في النوطات ذاتها، فأعمال الموسيقى الكلاسيكية قد تستمر لساعات يؤدي فيها عشرات الموسيقيين أدوارًا طويلة ومتشابكة، ولا شيء أسهل من أن يتكلم الجميع فوق بعضه وأن تضيع الموسيقى بين النوطات. هنا تأتي إحدى مهام المؤدي: إيجاد اللحن الرئيسي في كل لحظة، انتشاله من المرافقة، وتحديد كيفية نطقه. يمكن للحن، مثل أي جملة شعرية، أن يغير معناه بتشديد هذا المقطع الصوتي أو ذاك، بإلقائه باستعجال أو بتباطؤ، بصوت هامس أو استعراضي، كل ذلك دون تغيير حرف واحد، ينعكس بتغييرات في شدة الصوت وجرسه وحتى في تباعد النوطات وسرعتها، تغييرات قد تكون أخف من أن تنوّط، لكنها تعطي اللحن حياته. لا شيء أسوأ من الأداء الروبوتي الذي يشدد بداية كل ميزور من اللحن، ناسيًا أن الميزورات هي مجرد وحدات تقسيم اصطلاحي على الورق، مثل خطوط الطول والعرض على الخريطة، لا ترتبط بأي حدود في الواقع، وأن الجمل الموسيقية غالبًا ما تستمر لأكثر من ميزور، وتعمل وفق منطقها الخاص.
مع تزايد الأصوات يدخل عامل جديد هو التوازن الصوتي، أي التحكم بنسب تلك الأصوات والآلات لسماع ما يجب سماعه، وهو قرار قد يبدو أوتوماتيكيًا عندما نتحدث عن أغنية لشوبيرت تقوم على لحن مغنى ومرافقة بيانو، لكنه يأخذ أبعادًا كبيرة عند الحديث عن حركات سيمفونية يتوازى فيها لحنين وثلاثة ومرافقة دسمة، كلٌ يحيا حياته الخاصة. يكفي أن نأخذ أول نوطتين من ثالثة بيتهوفن لنلاحظ أنه لا يوجد نسختان متطابقتان، حيث تطغى الكمنجات أحيانًا والنحاسيات و طبول التيمباني أحيانًا أخرى، يضاف إلى ذلك أن آلة كالكمان مثلًا قادرة على تغيير شدة الصوت ضمن النوطة ذاتها، تشديد أولها أو بتر آخرها، أو عزفها بقوس صاعد أو نازل، بكل الشعر في القوس أو بنصفه؛ باختصار: الخيارات لامنتهية، والتأويل هو القدرة على اتخاذ تلك القرارات، مهما كانت تفصيلية، بحيث تساهم في بناء العمل ككلٍ متكامل ومتجانس ذو رسالة واضحة من النوطة الأولى حتى الأخيرة.
بالعودة إلى أغنيتنا، تعطي النسخة الأولى كرتًا أبيض إلى اللحن المُغنى ليطغى بالكامل على المرافقة، بينما تحاول النسخة الثانية منح حضور أكبر للأوركسترا، فنسمع في الثانية الثامنة صوت الفيولا الذي يطغى على باقي الوتريات قبل أن تعود الكمنجات في الثانية ٢٩ لتعزف بصوت كثيف وغني بالفيبراتو (ذلك الصوت المرتجف الذي تشتهر به الوتريات)، ولا تتردد الآلات بالتمايز عن بعضها كل فترة وأخرى، ما يضفي ديناميكية داخلية على المرافقة. أما في النسخة الثالثة، تشكل المغنية والأوركسترا كتلة واحدة ضبابية وشاحبة لا تكاد تظهر فيها أي آلة على حساب أخرى إلا في لحظات مدروسة، كما في الدقيقة ٢:٢٢، حين تغني المغنية: لا، فتستجيب آلات الباص بتشديد نوطتها المنخفضة (الأخفض في كل القطعة بالمناسبة)، ما يرسل رعشة جنائزية.
يصل المؤدي إلى المسرح فخورًا بقراراته بعد أن قام بدراسة النوطة بتفاصيلها، فيجد نفسه في آخر لحظة مضطرًا إلى تغيير الكثير من الأشياء. لا يمكن لتعليمات العزف بصوت قوي مثلًا أن تُطبّق بنفس الطريقة في غرفة صغيرة كما في الهواء الطلق، كما أن زيادة ثوانٍ في الصدى الذي تولده قاعة ما قد يقضي تخفيف سرعة القطعة، بعكس رغبة مؤلفها، كي لا تمتزج مكوناتها وتفقد وضوحها، بكلمات أخرى، مكان الأداء وزمانه لهما حصة أيضًا في التأويل. يبدو أثر الفراغ المحيط واضحًا على النسخ الثلاثة من أغنيتنا، فالصوت في النسخة الأولى جهوري وغني بالفيبراتو، مصمم لصالات الأوبرا الكبيرة للقرن التاسع عشر حيث تطلبت الأوركسترات الضخمة صوتًا قويًا يطغى عليها. أما في النسخة الثالثة، فالصوت يقدم العكس تمامًا: صوت رقيق وخافت يكاد يكون بلا فيبراتو، يذكر بأصوات مغنيات الجاز اللواتي يهمسن قريبًا من الميكروفون، وهو صوت لم يكن ليكون ممكنًا لا في قاعة أوبرا ولا حتى في المسرح الصغير الذي قدم فيه رامو أوبرته عام ١٧٣٧، لكن الأثر الحميمي الذي تتركه النسخة قد يكون أقرب ما يمكن إلى معنى الأغنية ذاتها. لا يعني أن تأخذ بعض الخيارات التأويلية الذوق الحالي والإمكانات التقنية بعين الاعتبار خيانة النية الموسيقية للنص بالضرورة.
في أحيان أخرى، قد تكون تلك الخيانة الطريق الوحيد لإنقاذ العمل. عندما يقوم قائد الأوركسترا روجر نورينجتون مثلًا بقيادة أعمال فاجنر بدون فيبراتو، الشيء الذي كان ليعتبر جريمة أيام فاجنر، أو عندما يستمر تقديم أعمال باخ على البيانو بدلًا من الكلافيسان، علمًا أن باخ لم يعر البيانو أي اهتمام طيلة حياته، فإن تلك القرارات الجدلية تستند إلى مزيج من تقاليد قديمة (عدم رغبة عازفي البيانو بالتنازل عن باخ)، ومن الرغبة، المعلنة أو لا، بتقريب تلك الأعمال إلى الأذن المعاصرة والسماح لمستمع اليوم بتجاوز قشرة نمطية ما (فاجنر كرومنسي هستيري ومتعجرف، أو باخ كمؤلف رتيب وقديم)، وسماع النوطة بأذن جديدة. في أغنيتنا مثلًا، لا يلتزم أي من المؤدين الثلاثة باللفظ الفرنسي الصحيح للقرن الثامن عشر، مستبدلينه باللفظ الذي انتشر بعد الثورة والذي كان ليعتبر سوقيًا ورديئًا أيام رامو. هنا يأخذ المؤدون قرارًا بالتضحية بمكون أساسي من النص مقابل إنقاذه والحفاظ عليه مفهومًا.
بمجرد أن ندرك أنه مهما فعلنا، فلن نسمع العمل تمامًا كما كان في رأس مؤلفه أو لحظة أدائه للمرة الأولى، سنفهم أن أنبل ما يمكن للتأويل الموسيقي أن يطمح إليه هو توليد أثر بذات قوة الأثر الذي ولدته المقطوعة آنذاك. التأويل الموسيقي لعبة بقاعدة واحدة: إكمال الأشياء غير المذكورة في النوطة على ضوء الأشياء المذكورة، وذلك من أجل تحويل النوطة من وثيقة تاريخية إلى طبخة قابلة للأكل. في النهاية، لا يوجد نسخة رابحة بين نسخ رامو الثلاث، فكل نسخة هي الأفضل لزمانها ومكانها، تخاطب أهلها بلغتهم، وعلى لسان مؤلف تستحضر شبحه من النوطة. بين الثغرات التي يتركها نظام التنويط من جهة، ورغبات المؤدي وذوقه من جهة أخرى، تولد تلك المساحة السحرية التي يتشاركها المؤدي وجمهوره لحظة الأداء.