.
يكتب ناشر التاريخ والموسيقى على الغلاف أن هذا الكتاب، الذي يضم مقالات لكتاب متعددين، “يحمل رؤى أهل التاريخ وأهل الموسيقى، وأفكار الفريقين فيما (كذا) يمكن تسميته ‘التاريخ الاجتماعي للموسيقى‘ “. والحق أن الكتاب أغنى من تعريفه وإن شابه من الأخطاء الكثير الذي كان تلافي بعضه ممكناً (كالقول إن “البؤساء” هو السلام الوطني الفرنسي صـ. ١٧٥ أو الظن بأن إضافات المطربين على الأدوار، مثل “عشنا وشفنا“، كانت تنتظر وفاة ملحنيها صـ. ١٢٠ أو الفقرة المطلسمة الملغزة عن أحمد فارس الشدياق صـ. ٦٩ أو القول بأن حفظ الموسيقى القبطية كان معجزة، بالمفهوم الديني للكلمة صـ ١٤٩، ناهيك بكم الأخطاء الطباعية الضخم)، وكان بعض الأخطاء الآخر مدار نقاشنا له من حيث كونها استمراراً وتكراراً غير مدقق للفكر الشائع الذي رأى فيه فلوبير تعريف السخف.
فالكتاب الذي تضم دفتاه رؤى باحثين موسيقيين ومؤرخين، ويبدو أن الفئتين لا تتمايزان حين يتعلق الأمر بانطباعاتهما عن الموسيقى، ينتقل من “فرقة حسب الله” وتقنيات أدائها (أحمد الحناوي) إلى “تاريخ الموسيقى الشعبية في سويسرا وحاضرها” (شيل كيلر/بييل بينيي، وهو المقال الوحيد الذي يتناول الشأن السويسري خلافاً لما قد يوحيه العنوان الكامل للكتاب)، فتاريخ “المدارس الموسيقية العسكرية في مصر في القرن التاسع عشر” لـ رمضان الخولي، ومن “آلة السمسمية والتراث الشفاهي الموسيقي” لـ نهلة مطر، إلى مشاكل التأليف في “نحو فهم مختلف الكتابة الموسيقية المصرية” لـ نهلة مطر أيضاً، فإلى “إحياء الموسيقى القبطية في العصر الحديث” لـ ماجد عزت، ومن “السلام الوطني المصري بين الوعي الموسيقي والوعي التاريخي” لـ عماد حسين، إلى “أحمد عدوية والمتعة خارج نسقية النخبوي والشعبوي” لـ سيد محمود، فإلى ” البنية الموسيقية وعلاقتها بالنص الشعري في الأشكال الغنائية المصرية إبان القرن التاسع عشر” لـ ياسمين فراج، ويلوح أن مداره الأساسي هو اللقاء وسؤال حدوثه واكتماله، أعني لقاء الشرق والغرب، فنقرأ مثلاً عن “الموسيقى: الشرق والغرب في مصر الحديثة، لقاء أم صدام؟” (محمد عفيفي) ونبحث عن “آثار لقاء الثقافات على المسرح الغنائي المصري في مطلع القرن العشرين” (رشا طموم) وعن “الشرق والغرب في موسيقى سيد درويش: لقاء لم يكتمل” (مروة تميم)، فهو المحور الذي يخترق معظم مقالات الكتاب، أياً كان كاتبها، إذ أن تاريخ فرقة حسب الله والمدارس الموسيقية العسكرية لا ينفصل عن لقاء جيش محمد علي بالتقنيات الأوروبية، كما أن موضوعات التراث الشفاهي والتأليف الموسيقي مرتبطة أساساً بمسألة التدوين المأخوذة عن أوروبا مثلها مثل فكرة السلام الوطني وأسئلة الجانب “التعبيري” للموسيقى عن النصوص المغناة، وتلوح وراء ذلك كله، بطبيعة الحال، مسألة الحداثة وصورها في مجتمعنا.
من خلال الصدمة مع الحداثة تتجلى إشكالية الهوية مجدداً، إما نفياً أو توكيداً. فعلى سبيل المثال، يتم التأكيد على أن الموسيقى المصرية لم تعرف “إيقاعات دخيلة” عليها صـ ١٢٢ بناء على تحليل نموذجين اثنين لا ثالث لهما! كما يتم الإصرار على دور عبده الحمولي في إضفاء طابع “مصري” على قالب الدور صـ ٩٩ أو الحديث عن الضروب (الإيقاعات) “النابعة من البيئة المصرية“ صـ ١٢١ دون أن يُطرح تساؤل ما هو “الطابع المصري” وكيف كان قبل الحامولي حتى أضفاه على الدور، أو أن يطرح تساؤل عن كيف “ينبع” إيقاع من بيئة معينة لا سيما وإن كان الإيقاع المقصود هنا، أي إيقاع السماعي، من أكثر الإيقاعات شيوعاً في الموسيقى التركية حتى كان أحد قوالبها الأساسية قالب السماعي! وفي مقابل هذا التوكيد على الهوية “المصرية” نعثر على تهوين كامل منها كأن يقول قائل إن مصر حتى حكم الخديوي اسماعيل (١٨٦٣) كانت موسيقاها “مزيجاً من موسيقى الفرس والأتراك واليونان“ صـ ٩٧ وأحياناً يحصر ذلك فقط بالموسيقى التركية “بحكم تبعية مصر للحكم العثماني“ صـ ٢٨ دون ان يتقصى مثل هذا القائل حقيقة التبعية ما قبل عصر محمد علي وسطحيتها واستمرار حكم المماليك أو أن يبرز دليلاً عملياً غير نظري على الأثرين الفارسي أو اليوناني المزعومين اللذين، مع التركي، يبتلعان كل الموسيقى في مصر دون ان يتركا منها بقيةً! رغم أن الشهادات المكتوبة تشير إلى الانفصال الواضح ما بين الموسيقات المختلفة حتى لو تعايشت على أرض مصر كتعايش الجاليات المقيمة فيها، وتشير إلى الهزال الكبير للفرق التي تعزف الموسيقى التركية صـ ١٣٢.
لا يعني ذلك بطبيعة الحال أن الموسيقى المحلية لم تتأثر بموسيقات أخرى، سواء التركية أم غيرها بخاصة في مدن ساحلية كالاسكندرية حيث يشير البعض إلى أثر اليونان والطليان في أغانيهم وأوبريتاتهم على سيد درويش مثلاً صـ ٣٤ في حين يشير البعض الآخر دون دليل واضح إلى أن الشيخ سيد درس في مدرسة ايطالية وتأثير بأوبرات معينة صـ ١٩٢ ـ ١٩٥، وذاك مفهوم طبعاً باعتبار أثر الطابع المسرحي على موسيقى سيد درويش عندما كان “المسرح الغنائي لقاءً بين الشرق والغرب“. حتى أن رائد المسرح زكي طليمات في مذكراته “ذكريات ووجوه” يقول، بحسب ما ينقل الناقل في صـ ١٩٦، يورد عن الشيخ سيد أن “النغمات والجمل الموسيقية المقتبسة من الموسيقى الأوروبية وغيرها مما هو غير مصري كثيراً ما تتخلل تلاحينه، تدخل وتخرج ولكن من غير أن تجرح الأذن، أو توقظ الغرابة التي تقطع على المستمع استرساله في الإنصات وفي التأثر“. بل إن مفهوم “احترام الفن” وتقديم سيد درويش لنفسه على أنه “خادم الموسيقى” لا شك نابع من رؤية أوروبية حديثة تفصل الفن وتعليه عن الصنعة او الحرفة وتفترض له وجوداً من طبيعة مغايرة ومختلفة.
تستمر الإشكالية عينها، أي أثر الحداثة في فهمنا للموسيقى والغناء، في موضوع “التعبيرية” وحاجة الملحن إلى التعبير بالنغم عن الكلم، وهو ما ينسبه الكثيرون في معرض المدح إلى سيد درويش، لكن النماذج المطروحة على “تعبيريته” المفترضة لا تخرج عن حدود “عشان ما نعلا لازم نطاطي“! صـ ٣٧ في مقابل ذلك، يسعى البعض إلى تأصيل “التعبيرية” في غناء القرن التاسع عشر من خلال تحليل دورين فقط بأدوات تحليل ميكانيكية الطابع شديدة الفقر (الخط الموسيقي يصعد أو يهبط، النغمة ثابتة أو متارجحة، القفلة مستقرة أم لا، سرعة الإيقاع وتغيير المقامات) مما يؤدي إلى تأويل سقيم للكلام المغنى وفهم للموسيقى من خلاله بحيث يمكن لأي حركة أن يقال إنها تطابق الكلام (صـ ١٠٤ وما يليها) فتعبر “الأرجحة” عن الإكراه صـ ١١٣ ويعني التكرار التهكم والسخرية صـ ١١٤ ـ ١١٥ لكن السخرية نفسها تظهر “علاقة حيادية بين المسار اللحني ومضمون المقطع الشعري” (صـ ١١٥)! ولا يخفى ما في هذه التقول من تغول على التأويل واعتباطية مثلما لا يخفى تغول وسخف تأويل “سلامي عليك يا زمان الهنا والأمان” بالسخرية بدل فهم الحنين المتضمن فيه! والمشكلة الأساسية لمثل هذه الأبحاث هي في افتراض الموسيقى “تعبيراً” عن ذاتية ما بدل البحث في أنها فعل يخلق في المستمع التأثيرات المختلفة، عن عمد أو دونه، ويرتبط التعبير هذا في مثل هذه الحالة بأدوات ميكانيكية تشكل عدته وقواعده النحوية. غير أن فقر مثل هذه الأدوات لا يسمح ببناء ظواهر التعبيرية المنشودة إلا بتعسف بالغ أو بسذاجة أشد، ويغفل تماماً العلاقات التي تشكل ثراء تجربة الاستماع في ذاتها.
يرافق مثل هذا التعسف في السقم الطلب إلى الموسيقى أن تكون مرآة للبيئة وتأريخاً للزمن صـ ١٢١ في عملية قصدية واعية تطلب إلى كل موسيقي ان يكون حامل راية الهوية والبيئة والتاريخ وأن يكون صاحب “الكشف عن وجه مصر الشعبي“ صـ ١٩٤. هذا على الرغم من أن الحقيقة تكمن أصلاً في الازدواجية، ازدواجية الشعب نفسه وازدواجية أنماط الغناء الشعبي ما بين الرسمي والمهمش صـ ٧٩ وبين طبقات الشعب المتعددة وأذواقها المتحاجزة، حتى ليلوح أن العزلة الطبقية قد تكون صارمة بقدر الاختلاف القومي أو يزيد في منع التلذذ بموسيقى معينة صـ ٦ أو ربما كان القول الأصح بمنع التلذذ بكلام أغانٍ معين لا أكثر وذلك لشدة ما أن النظر في الكلام هو البناء الأساسي لتقديم التحليل القيمي والطبقي للمغنى (كما في حالة عدوية صـ ٨٤ وما يليها) بدل الإنصات إلى الموسيقى نفسها وما تقدمه من خصائص ونقاط التقاء لتيارات مختلفة أو إلى حركة تداولها في المجتمع وشبكاتها.
رغم العيوب الكثيرة التي تشكل تياراً يغرف منه الجميع دون تأمل (ولهذا فضلت ألا أذكر أسماء الكتاب بالتفصيل عند الاعتراض على آرائهم)، لا يخلو الكتاب من فائدة في المعلومات وفي الاعتراض على تحليلها، كما في تقديمه ثنائية أجدها ممتعة وغنية وبعيدة عن تبسيط النظرة إلى الحداثة والظن بأنها ناجزة بل وأننا في ما بعدها صـ ٨٩ أو توهم القدرة على ردها أو الحسرة على ذلك، تلك هي ثنائية “الافرنجي/البلدي“ صـ ٩ وصـ ١٨٩ وما يليها غير أن “الافرنجي” هنا ليس “الغربي/المستعمر/الأوروبي.. الخ” بل هو المصري أو الشرقي نفسه وقد لبس لبوس أوروبي محتفظاً بطربوشه، أو هو الأفندي المولود من لقاء مصر بأوروبا ومن الأنظمة الحديثة التي أدخلت على القاهرة، وقد يكون الشخص الواحد نفسه، في نفسه وتفكيره وهندامه وموسيقاه، افرنجياً وبلدياً في آن مثل سيد درويش. مثل هذه الثنائية تشير إلى تعقيد مستويات الهوية وتفاعلها ولا تقيم تعارضاً وحواجز ما بين عناصرها ولا ما بين الحداثة والتراث، والشعبي والراقي، والمصري والأوروبي ومن المؤسف أن “أفهمتها” (تحويلها إلى مفهوم) ظلت قاصرة. إذ في ظل التفجع على “الحيرة“ ص. ٢٠٠ التي نجد أنفسنا فيها متنازعين ما بين تاريخ ماضٍ وهوية متجمدة وبين حاضرٍ سيال وتفاعلات لا تهدأ ولا تستقر على حال، قد يكون من المفيد أن نسأل نفسنا وما الضير في الحيرة والقلق وفي كوننا لسنا شرقيين ولا غربيين؟ أليس أن ذاك يجعل زيتنا يضيء دون مسٍ من نار؟
التاريخ والموسيقى: دراسات في تاريخ الموسيقى في مصر وسويسرا
تحرير د. محمد عفيفي و د. نهلة مطر
دار عين، القاهرة، ٢٠١٣