.
تنحو السياقات التأريخيّة المعاصرة لفنّ التلاوة القرآنيّة منحىً إشكاليًا. بدرجةٍ أولى، يتمحور الإشكال في كون هذا الفن، لو جاز تسميتُه فنًا، يتصّل بنصّ “مقدّس” دونه محاذير جمّة، إذ إنّه نصّ يُتعبد به ولا ينبغي في نظر مريديه أن تشوبه، حين التعرّض له، شائبة. والتلاوةُ، في حدّ ذاتها، هي تعرّضٌ للنص من جهة هذا المقرِئ المرِيد. على أنّ هذا الشغل الإيقاعيّ بالنصّ ظلّ، منذ المطلع، تعرّضَا هادفَا وغائيَّا إذ يُتوسّل بجماليّة المتن، ترتيلاَ، لغاية جذب المريد المتلقّي نحو كلام الله القديم، وتاليَا نحو مفاهيمّ دينيّة يحتملها المتن. هنا، تغدو المحاذير أجلى لناحية السعي الحثيث التقليديّ لتحصين هذا النصّ من الوقوع في “شرك” كونه فنَّا (غناءً) يحيّده عن ذلك المغزى، ومن شرك أن يحاكي غنائيات الشعر العربيّ التي تراد لذاتها في سبيل “الهوى“. “وما ينطق عن الهوى” سورة النجم. على أن فتنة النصّ القرآنيّ المرتّل، لا بل الواجب الترتيلِ، بسند المتن نفسه “ورتلناه ترتيلا“، يجد بالضرورة، سبيله إلى أهواء السُمّاع. باعتبار التلاوة، في الأصل، إيقاعًا يتفاوت بين مقام وآخر. والتلاوة إذ صارت مقعّدة وتحيل إلى مقامات عربيّة غنائية منذ مطلع الثالث الهجريّ، فإنّها بتوسّل تلك المقامات قد أنزلت في الأفئدة منازل المتعة والنشوة لذاتها وبمعزل عن غائية جمال المتن ومغزى توصيله سماعًا.
لا نقع، غالبًا، في العصر الحديث على كتابات تشرّح فنّ التلاوة القرآنية إذ إن النصّ القرآنيّ محظّرٌ تعريضه على آلات الغناء لدواع تنزيهية ما تزال تثير قدرًا بالغًا من الجدل. والكتابة في هذا الفن تجدُ في الغالب طريقها إلى نبذات عن المقرئين. وهي نبذاتٌ تكون مختصَرة وتتعرّض غالبًا لإجادة مقرئ مخصوص لمقام من المقامات الموسيقيّة التقليدية. بهذا، يكون الخوض، كتابةً، في هذا الفن أقرب إلى الإغفال بتواطؤ ضمنيّ متعدّد المراتب والجهات. كأن السماع والإنصات والغرق في نشوة المقرئ المجيد تكفي أو تفيض عن أيّ كتابة تحاول الخوض في الظاهرة. ونقول الظاهرة إذ إن التلاوة لم تعد، وتحديدًا في العقود الأخيرة، فعلاً تعبّديًا فرديًا. إنها دخلت في دورة إنتاج المزاج الفني التلاواتي/الدينيّ العام في غير بقعة من العالم الإسلاميّ مع بروز وسائل الانتشار السماعيّ الحديث على نطاق أوسع وأكثر فاعلية منذ تلاوات الإذاعة المصرية مرورًا بالكاسيت مطلع السبعينات وصولاً إلى تراكات الانترنت الراهنة.
من نافل القول، إن للظاهرة مقرئين أعلامًا قد كرسوا أنماطًا معروفة طبعت مزاج التلاوة منذ أواسط القرن الماضي وصولاً إلى الراهن. وإلى ذلك فإن لهؤلاء الأعلام مقلّدين يتّبعون الأنماط نفسها في مقاربة الترتيل، إنْ لناحية الإجادة في مقام على حساب آخر أو لناحية التطريب أو لناحية بناء التفاوتات الإيقاعيّة الفريدة التي تصبح دالًا على أسلوب المقرئ أو لناحية كيفية تخريج أواخر الكلم والآي جمع آية على ذات النحو. بعضهم يجيد ويبدع وأكثرهم لا يأتون على أيّ جديد.
بطبيعة الحال، يحتاج الخوض في ظاهرة التلاوة بطريقة مغايرة إلى دراسة مجمل السياقات التاريخيّة/الفنيّة وتقاطعاتها التلحينية مع غناء العمالقة من ملحنين كبار، والتي أنتجت، بحدود، مقرئين كبارًا. على أن ما يشغلنا في هذه المادة ليس إعادة دراسة ذلك القدر الوفير من التلاوات بتقاطعاتها، بل محاولة فهم الظاهرة أو شطر من مآلاتها بالنظر إلى مقرئين جدد صاروا معروفين، فضلاً عن محاولة تقديم فهم جديد للتلاوة كصياغة نصّية إيقاعية تساهم في شبك المتلقّي عبر المقام المؤدّى والمكان/ البيئة/ الحدث المخصوص، بنبرٍ، هو، في العمق، الترجيعُ الفنيّ بالترتيل إلى حدَثَ الخلق منطوقاً وإلى متعة استذكاره. إنه الترجيع الذي يتّصل بالذات المفردة من ضمن جماعة من السميعة المتحلّقين في ناد المقرئ. والترجيع، كل مرة، لا يُدرج بطبيعة الحال، شأنَ القراءة العادية في أفق التكرار المدرسيّ، لكنّه فعلٌ، إذ يصل حدّ الإنتشاء بعذوبة صوتية مفترضة فإنه يُحيل إلى عذوبة الأصل والفطرة. نتحدث، لو جاز لنا التعبير، عن تذكير ربانيّ ممتع للفرد إلى أبعد حدّ، وهو، في آن، تذكير يعيد تفتيح وتأطير شعور الجماعة، جماعيا، تجاه النص المرتّل من خلال الحال أو ردّة الفعل أو الحضور المزاجي/النفسي ّ العام في التفاعل مع المقرئ.
المصريّ ابن قرية كفر الوزير، مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، محمود الشحات أنور وابن أمير النغم محمد أنور الشحات ١٩٥٠-٢٠٠٨ من أشهر المقرئين المحدَثين. لا نتحدث هنا عن طبقة صوتية أو خامة لا تجارى، بل يفترق الشحّات ربّما عن سابقيه بابتداعٍ يتصل بالقدرة على خلق تفاوتات إيقاعيةّ مفاجئة بالآية الواحدة أو بالوحدة الصوتية الواحدة أو حتى باللفظ الواحد ومن ثمّ مواءمة هذا التفاوت على إيقاع تفاعل السمّيعة والمريدين. إنّه الحالة النادرة التي يتحكّم فيها المقرئ بالحاضرين أو بأحوال الحاضرين. يقودهم عبر المعرفة الاختبارية الدقيقة بمساحات القول القرآنيّ لناحية إقامتها أو تقسيمها أو التلاعب بها وقفًا أو تسهيلاً أو إشباعًا بطريقة تتيح للمقرئ تثبيت ابتداعه بين أقرانه. هنا، يعيد المقرئ تزخيم وتفتيح المقام (نهاوند هنا) على ما لا حصر له من الطبقات الصوتية.
ربطًا بما تقدّم أعلاه، لا يكون هذا التفاوت الإيقاعي منفصلاً عن السياقات المعنوية للآية المتلوّة وما تحيل إليه. فليست كل وحدة من الوحدات القرائية المتلوّة قابلة بالضرورة لهذا الخلق الإيقاعيّ. هنا، تكون خبرة ومعرفة المقرئ العلمية بخصوصيات الآيات المختارة شرطا لتلاوة ناجزة أو لتلاوة تقبل الانسياق في لعبة الإيقاع.
في هذا الحيّز، يختبر الشحّات فعل التكرار وتأثيره في المتلقيّ لناحية الكيفيّة الأسلوبية والمزاجية التي يُتَجاوَز بها (التجاوز) صوب الآية التي تليها أو لناحية الإعادة مرارًا وتكرارًا بتحفيز من المتلقيّ ومن إمتاع المقام المبلوغ. فالتكرار، والنمل مثالاً عند الشحّات، ليس فعلاً تعاد من خلاله حال سابقة في التلقي بل هو في العمق دفع الحضرة حلقة الذكر الصوفية نحو مستوى أعمقَ من مستويات التلاوة. كأن الآية المكرورة تفرِج عن مسالك معنويّة في كلّ مرة أو كأن التكرار هو جدّة المرة الأولى. في هذا الحيز، لا يقارب الشحات في نهاونده أيَّا من أنماط تطريبات مصطفى اسماعيل المعروفة، مثالاً لا حصرًا، وإن كان يبدي قدرة على إقامتها، بل هو يأخذ من التطريبات طرائقها الإيقاعيّة في تطويل النغم ومن ثمّ يقوم بصبّها في نبرة تحزينية خالصة.
يكون التحزين، غالبا، اختبارا للنصّ أو على نحو أدق اختبارا لتردّدات النص وحيويته مع الوقت. إنّه، أيضا، اختبارٌ لمجالات النصّ النفسيّة وتأثيراتها في روع المتلقّي. بهذا المعنى، نرى إلى التحزين كسلطةٍ يختزنها الحضور النصيّ الداهمُ تلاوةً. حضورٌ لا يقتصر فقط على المادة اللغوية التركيبية بل يتعدّاه إلى ما يشبه فعل مضارعة سقوف الآيات العالية بالتلاوة، وكأنها آيات معدّة على نحو فائقٍ مسبق في العلم اللدنيّ كي تجذبَ الأحداث (القراءات/المحاولات) التلاواتية المفرّقة. هنا، يندرج تحزينُ المقرِئ في كونه من تلك المحاولات الشاقّة لتخريج ذلك السحر المخزون عبر اختبار التفاوتات الإيقاعية في الآية الواحدة مرارا وتكرارا. إنه، أيضا، حدث يشبه “تأويلَ” الآية (أو النص) تلاواتيا أو تفتيحها بالنبرة التحزينية على أحاسيس ومشاعر بالغة الفرادة في سبيل الإفصاح. ويمكن القول إن “التأويل” في هذا الحيّز قرينٌ جوهريّ وخصوصيّ لأنماط مدرسيّة أخرى في الرؤية إلى النصّ مفسَّرا.
قد يمكن القولُ إنّ التحزين كأسلوب لا يضارَع أيضا من حيث كونه سلطة. نتحدّث عن سلطة وطغيان مضمَر يكتسبها المقرئ إذ يبرع، تلاواتيا، في بثّ هذه الروح الأصيلة. إنّه الأداة الحيّة والمحايثة والملموسة أمام عيون المريدين في تثبيت ذلك الكلام القديم المقدّس. هنا، ليس المقرِئ النافذُ شخصا بالضرورة بل هو الرمز أو الصّلة المقّدرة التي تضمن جدّة الفعل والحدث والقصة كلّها. إنه، أيضا، المقام الصوتيّ ذاته في مرتبة أو في مستوى من مستويات التجلي النصيّ الكثيرة. بهذا يخضع المريد المتحزّن طائعا لتموجات الصوت على نحو يغيّب في نفسه حضور المقرئ كشخص عادي لصالح انوجادٍ أطغى لفعل المقرئ وتلذذاته وإمتاعاته في التحزين. وهو انوجادٌ يساهم إلى حدّ بعيد في تحويل النشوة إلى هوامش كلاميّة عشواء تتطاير من أفواه المريدين عند كل انقطاعة نفَسيّة (راجع تلاوات الشحات، الأب والابن، على سواء). كأنها هوامش تسعى حثيثا من جانب كلّ سمّيع إلى مضارعة الحال وإلى الاشتباك في التلاوة عبر سدّ الاستراحة النفَسيّة التي يتحضر فيها المقرئ كل لحظة لأوراد “الحضرة” من باقي السوَر والآيات.
عموما، ليس التحزين الناشئ من موسيقى تلاوة القرآن صفة نفسيّة ذاتيّة عارضة وحسب. يقول أحد التابعين في شأن الترتيل وقراءة القرآن: “القرآن نزل بالحزنِ. فاقرأوه بالحزن“. التحزين هنا حزن إيقاعيّ مؤسِّس للذوق. بمعنى آخر، التحزين هو المغزى الأعمق الذي تتكّى عليه معظم المقامات بطيئها وسريعها في توصيل العذوبة الصوتية. والتوصيل فعل متعاكس أيضا إذ لا يُنشئ المقرئ في تماسه مع السّميعة تحزينا حيَاديا في المقام المختار بل هو ينشئ فعلا متعاكسا بين تلاوته من جهة وبين السمّيعة من جهة أخرى. إنه فعلٌ لا يكتمل إلا بأن يختبر المقرئ في المقام أو المقام في المقرئ قدرته على تحفيز تلك الذكرى السماعية/الخَلقيّة الأولى التي وقعت في روع محمد بن آمنة بفجائيتها ونقائها وقدرتها على إفراغ الوعاء القلبي من شقاء الحضور المادي، بالمقام، وملئه بغياب نَشَواتيّ دوّارٍ في الحضرة.