.
اقترن مسار تطور الموسيقى العربية المعاصرة بثنائية التمسك بالأصالة والرغبة بالتجديد، ما يجعل من حضور بيتات التراب في أغاني نجوم البوب العربي اليوم أمرًا طبيعيًا، بحكم أن التراب أصبحت أحد أكثر الأنماط رواجًا في العالم. تسجل بيتات التراب حضورًا ثابتًا في أغنية البوب الأمريكية منذ عام ٢٠١٣، وبالتحديد منذ أن أصدرت ليدي جاجا أغنية جولز آند درجز بمشاركة تي إي وتو شورت وتويستا في ألبوم آرت-بوب، والتي شرّعت الباب أمام تجارب أخرى نجحت في استثمار تأثيرات موسيقى التراب في أغنية البوب، أبرزها أغنية دارك هورس لكاتي بيري، والتي احتلت المركز الأول على قائمة البيلبورد وَن هندرد بداية عام ٢٠١٤.
أدى هذا النجاح إلى استحداث أنماط موسيقية جديدة تستفيد بشكل رئيسي من تأثيرات موسيقى التراب، أبرزها التراب اللاتيني الذي حقق انتشارًا كبيرًا بفضل بريانت مايرز وميكي وودز وباد باني. لا يمكن أن نغفل أيضًا الدور الذي لعبته أريانا جراندي بمد تأثيرات التراب إلى موسيقى الآر آند بي، من خلال تجربة موسيقية فريدة بدأتها في ألبوم سويتنر عام ٢٠١٨، وأثمرت عن العديد من الأغاني الهامة، أبرزها ٧ رينجز من ذات الألبوم.
في هذا السياق يمكن أن نقرأ التجارب الجديدة في أغنية البوب العربي التي بدأت تستخدم بشكل متزايد بيتات التراب، والتي تبدو بدورها تجربة لها خصائص مختلفة تميزها عن كل تجارب البوب العالمية التي استفادت من التراب أيضًا. قد تكون أولى الخصائص التي ينبغي الإشارة إليها أنها تجربة متأخرة نسبيًا عما يناظرها عالميًا، إذ يمكن أن نحدد ميلادها بسنة ٢٠٢٠. تبدو هذه الخطوة سريعة إذا ما قسناها بالزمن الذي يستغرقه البوب العربي عادةً لهضم التأثيرات الجديدة التي تحتضنها أغاني البوب العالمية، وإذا ما قسناها بشكل خاص على مسألة تأخر تشرّب أغنية البوب العربية لثقافة الهيب هوب بشكل خاص؛ حيث أن أول أغنية بوب عربية ظهرت فيها ملامح الهيب هوب كانت ولا على باله لعمرو دياب عام ٢٠٠١.
إن الإضاءة على أغنية ولا على باله، التي أصدر عمرو دياب نسختين منها في ألبوم أكتر واحد بيحبك (نسخة شرقية ونسخة غربية)، تبين لنا الميزة الثانية للموجة الجديدة في البوب العربي التي تعتمد على بيتات التراب. في أغنيته تعاطى عمرو دياب مع الهيب هوب كثقافة دخيلة على الأغنية العربية، استحضرها دون أن يكسر الحواجز بينه وبينها تمامًا، فأدى مقاطعه بعرب شرقية كليًا، دون أن يُحدث أي اختلاف على مستوى الأداء ما بين النسختين الشرقية والغربية، وليترك بذلك المهمة لمقطع الراب بالإنجليزية.
في المقابل، نجد أن بعض نجوم البوب العربي الذين استخدموا بيتات التراب في أغانيهم مؤخرًا قد حاولوا بشكل أو بأخر إيجاد أسلوب أداء جديد يتوافق مع الموسيقى المستخدمة. لعل هذه المحاولات تقترن بالتغيرات التي طرأت على الأغنية العربية في العشرين عامًا الأخيرة. لا نقصد هنا أغاني البوب والمينستريم فقط، بل الأغاني البديلة أيضًا، التي نجحت في تطويع معظم العناصر التي تنطوي عليها ثقافة الهيب هوب لتخلق مسارات جديدة في الأغنية العربية، حتى بات الراب العربي يتمتع بمكانة هامة لدى الجمهور العربي من جيل الشباب. انبثق من هذه المسارات العديد من التجارب الهامة القائمة كليًا على موسيقى التراب، كتجربة الرابر التونسي علاء الذي أصدر عام ٢٠١٩ ألبوم تراب لايف، وتجربة كوكب زحل اللبنانية التي دخلت إلى عالم التراب من خلال تقديم كفر لأغنية أريانا جراندي ٧ رينجز. ناهيك عن أن بلاد المغرب العربي شهدت حضورًا متزايدًا لبيتات التراب في أغانيها، فبعد أن بات التراي هو الأكثر رواجًا في المنطقة، والذي يقوم على اعتماد عينات وأساليب راي في أغاني التراب، كالتي شهدناها مع عصام والجراندي طوطو ومايسترو وسولكينج، بدأ بعض مغني الراي باعتماد شكل معاكس للمزج، من خلال استقدام بيتات تراب في أعمالهم، والنموذج الأبرز في هذا السياق هو مغني الراي هشام السماتي.
يمكن رصد التحولات التي طرأت على أسلوب الأداء مع استقدام بيتات التراب بشكل واضح لدى مغنية البوب التونسية منال عمارة، التي كانت تبدو متأثرةً بسميرة سعيد في بداية مسيرتها. في أغنية بابلو إسكوبار التي تعتمد فيها على بيتات تراب، تغني بأسلوب مختلف كليًا، فتتخلى فيها عن الطبقات الرقيقة والحادة التي تستخدمها والنعومة التي تفتعلها في أغانيها السابقة، مثل الليلة عرسي وشكلي شكلا، لتعتمد على طبقات صوتية أكثر قوة وعنفًا، وتلجأ إلى استخدام تقنيات كانت غائبة في أغانيها القديمة كالأوتوتيون. ربما كان شكل الأداء الذي تعتمده يبدو مألوفًا في الأغنية العربية البديلة ونجد له أصداءً في العديد من التجارب كتجربة رجاء مزيان، إلا أنه يبدو جديدًا نسبيًا على البوب العربي.
أما روبي التي عادت إلى الغناء بعد قطيعة طويلة ورحلة فنية مختلفة في عالم الدراما، والتي تلجأ إلى استخدام بيتات التراب أيضًا في بعض مقاطع أغنيتَي قلب بلاستك وحتة تانية، فإنها تحاول أن تخلق طبقة صوتية جديدة تتناغم مع الموسيقى الجديدة في هذه المقاطع، لكنها تحافظ في ذات الوقت على أسلوبها القديم الذي يضبطه إيقاع الدربكّة الشرقي. هكذا تدور كل أغنية بين صوتين: صوت عذب رقيق يحمل ملامح الماضي الذي يحن إليه جمهور روبي وترافقه الإيقاعات الشرقية، وصوت مختلف كليًا يبدو أكثر صلابة ومتانة، تستخدمه روبي في مقاطع تؤديها بأسلوب غريب لا يمكن وصفه بأنه أداء غنائي تمامًا ولا هو راب، متناسب مع شخصية روبي الأخرى، الممثلة التي تتمتع بخفة الظل والروح المرحة. لكن يجدر بنا الإشارة إلى أن هذا الصوت يشبه إلى حد ما الصوت الذي استخدمته روبي في افتتاح أغنية كل امّا اقولّه آه قبل سبعة عشر سنة.
في المقابل نجد أن بعض نجوم البوب العربي لم يتكلفوا عناء البحث ولم يتمكنوا من إيجاد الصوت المناسب للبيتات التي يستخدمونها، ما نلمسه بشكل واضح مع ميريام فارس وسيرين ميلاد.
من النقاط التي ينبغي ذكرها عند الحديث عن أغاني البوب العربية التي تستخدم بيتات التراب، أن العديد من هذه الأغاني تقتبس ألحانها من أغانٍ عالمية، وفي الغالب لم تكن النسخ الأصلية تحتوي على بيتات تراب. مثال على ذلك أغنية مطاريد لسيرين ميلاد، التي تعتمد بشكل كبير على لحن أغنية البوب اللاتينية لِتس جِت لاود لجينيفر لوبيز، لتكون النتيجة شبيهة بألحان أغاني التراب اللاتيني، مع مراعاة الفوارق الكبيرة في أسلوب الأداء والمواضيع السائدة في الجنرا. ينطبق ذلك أيضًا على أغنية لو كنت لهيفاء وهبي وأكرم حسني، التي يقتبسان فيها لحن أغنية سترسد آوت لفرقة توِنتي تو بايلوتس، الأمر الذي يترك أثرًا واضحًا على أسلوب الأداء أيضًا.
تبقى السمة الأبرز في أغاني البوب العربي التي تستخدم بيتات التراب هي أنها تتعامل مع هذه الموسيقى بشكل سطحي، فتنقلها صوريًا دون استيعاب الثقافة الكامنة وراءها. كانت تشير موسيقى التراب – التي جاءت تسميتها من كلمة Trap الإنجليزية (الفخ) – في البداية إلى أماكن تهريب المخدرات، وباتت تشير بعد تبلور الجنرا إلى أغانٍ تستخدم بيتات تعتمد بشكل رئيسي على الأصوات الإلكترونية المونوتونية كالدراجون، وتتطرق إلى مواضيع واضحة ومحددة عن الحياة في الجيتوهات (الأحياء الفقيرة الموجودة في نطاق المدن الحديثة)، وعن تهريب المخدرات وعن النضال المستمر من أجل النجاح؛ وهي مواضيع تغيب كليًا عن أغاني البوب العربية التي تستخدم بيتات التراب بشكل متزايد، باستثناء أغنية بابلو إسكوبار لمنال عمارة، التي يمكن اعتبارها النموذج الأنضج حتى هذه اللحظة.