.
« Quelques réflexions sur la cantillation religieuse en Méditerranée », 2009, La pensée de midi / Actes Sud, Numéro 27, « Musique et poésie »
ويعاد نشرها في “معازف” بالإذن من المؤلّف
تأخذ القراءة الاحتفاليّة المنغّمة، أي “التلاوة المرنّمة” (cantillation)، للنصوص المقدّسة وللصلوات والأدعية، مكانًا محوريًّا في الأديان التوحيديّة الإبراهيميّة، إذ تتمركز في صلب العبادات اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة، بحيث يقوم بأدائها قرّاء مكرّسون. وتنتظم في مدارها العناصرُ الشعائريّة الأخرى ذات البعد النغميّ الأكثر ترجيحًا، والتي يؤدّيها منشدون ومرنّمون وأحيانًا الشعب المؤمن، في حين تقيم الأناشيد والأغاني، ذات الطابع التسبيحيّ والتهليليّ، وما يشبهها، في التخوم ما بين الدينيّ والدنيويّ. وفي ما يتخطّى الفوارق العقيديّة بين الأديان السماويّة المذكورة، كما الفوارق في الأساليب الموسيقيّة، تشكّل التلاوة المرنّمة لكلمة الله تقاطعًا أساسيًّا بين التقاليد الترنيميّة الدينيّة المتوسّطيّة المنضوية تحت لواء التعالي الإلهيّ والوحي النبويّ، أي التي تعتمد على القنوات التواصليّة التبليغيّة المتوجّهة من القطب الإلهيّ نحو القطب الإنسانيّ وجاعلةً النغم يرضخ للكلم. يطرح هذا النصّ مقاربة توليفيّة لهذه المواضيع، كما يتأمّل في آفاق التحفيز من زاوية موسيقيّة للتلاقي بين الأديان السماويّة.
أهمّيّة الدور الطقسيّ للموسيقى جعلت هذا الفنّ – كما العلاقة الجدليّة بين الكلم والنغم – يتأرجح على شفير التضادّ القائم، منذ العصر القديم، بين رؤيتين متناقضتين للكون.
تعتمد الرؤية الكونيّة الأولى على مبدأ الكمون (immanence) – أي وحدة الألوهة مع كون يفيض عن تلك الألوهة – وتعني الممارسات الدينيّة “الوثنيّة” والمعتقدات والفلسفات الوحدانيّة الوجوديّة السائدة في العالم القديم. وتعطي تلك الرؤية استقلالاً كيانيًّا للنغم، وترجيحًا على حساب الكلمة. وهو جوهر البيثاغوريّة التي تجعل من الموسيقى ومن نسب مسافاتها اللحنيّة النموذج القالبيّ للعدديّة الرمزيّة الإلهيّة (1). ولا شكّ أنّ هذا التركيز العقيديّ على القدرات الباطنيّة للموسيقى يدعم دورها في إثارة النشوة الطقسيّة الجنونيّة (transe).
أمّا الرؤية الكونيّة الخاصّة بالأديان الإبراهيميّة، فهي على نقيض ذلك: الله يخلق الكون من عدم من خلال كلمته (2) ويبقى متعاليًا، منزّهًا عن الإدراك الكونيّ العقلانيّ. وهو يتجلّى أيضًا من خلال كلمته (3) التي تظهر إلى الإنسانيّة مسار خلاصها. من هنا لا يمكن للنظرة الإبراهيميّة اعتبار أي شيء كونيّ إلهيًّا بحدّ ذاته، في حين يُطلَب من الوقائع بأسرها أن يقدّسها (يؤلّهها) الله. هكذا لا تضفي هذه الرؤية الكونيّة أيّ طابع إلهيّ على الموسيقى بحدّ ذاتها، ولا على النظام العقلانيّ أو على النظام العدديّ للكون. لتأدية المعنى، على الفعل الموسيقيّ أن يحمل الكلمة–اللوغُس الإلهيّ، أن يضحِيَ لوغوفوريًّا (logophore حامل الكلمة)، أي ثيوفوريًّا (théophore حامل اللاهوت)، وذلك من خلال دعم تلاوة النثر المقدّس بالاعتماد على أسلوب نغميّ منمّط، هو التلاوة المرنّمة، وهي القاعدة النسكيّة لأيّة موسيقى طقسيّة مولجة خدمة التبليغ والتعليم (4).
وفي هذه الحال، تستمدّ الموسيقى بعدها الروحيّ من انخراطها في الشعائر الدينيّة ومن انصياعها التامّ للأحكام التقليديّة الخاصّة بالتبليغ لدى الأديان السماويّة، بيد أنّ حيّزًا لا بأس به من التشريع الإسلاميّ لا يقرّ بحضور النغم في قراءة الآيات القرآنيّة الكريمة، بل يجعل ممارسة الموسيقى فعلاً تارةً مكروهًا وطورًا منكرًا، إذ يرى فيها سببًا لابتعاد المؤمن عن فرائضه العباديّة، بل مصدرًا لإثارة الغرائز، وصولاً إلى نشوة تذكّر بطقوس الجنون لدى “الوثنيّة“. لهذا السبب تخضع عمليّة تكريس الموسيقى العباديّة لدى اليهوديّة والمسيحيّة التقليديّة ولدى الإسلام الروحانيّ (الصوفيّ السُّنِّيّ والعرفانيّ الشيعيّ) (5) لشروط قاسية.
وبالفعل فإنّ الهدف الأوّل من التلاوة المرنّمة هو الإسهام في تأصيل الصلاة والتعليم في الرسالة الإلهيّة الموحى بها. وإذ ينأى القارئ المعلِّم بنفسه عن الطابع الدنيويّ الخاصّ بأساليب الخطابة، يسعى لتنغيم قراءته بحيث يحمي تلاوة الكلام الإلهيّ من اختلاج المشاعر، وذلك من خلال أسلبة تقليديّة لمسافات الصوت، ما يؤمّن خضوع التلاوة المرنّمة للكلمة الإلهيّة.
تعرّف سولانج قربان (Solange Corbin) بالتلاوة المرنّمة أنّها “أسلوب ترجَح فيه كفّة الكلام على حساب الموسيقى، علمًا بأنّ الموسيقى تقوم هنا بلعب دورَين واضحين هما ضبط القراءة وإلباسها ثوبها الاحتفاليّ“ (6). وهو ما يستدعي (في ما يخصّ التلاوة المرنّمة النثريّة الدينيّة في إطار الأديان السماويّة) نبذَ الطرائق الموسيقيّة الأربعة التالي ذكرها (تختصّ الأولى والثانية بالنسيج الصوتيّ والثالثة والرابعة بالنظام الموسيقيّ):
المساوقة غائبة،
المرافقة العزفيّة محرّمة،
الإيقاع الدوريّ منبوذ أمام الوزن الكلاميّ المعتمَد حصريًّا في ضبط الإيقاع،
تثبيت النصّ الموسيقيّ – من خلال التلحين والتدوين الموسيقيّ (7) – محظور، نظرًا إلى الأرجحيّة المطلقة للنصّ المقدّس حيال نصّ موسيقيّ يقدّر له أن يبقى وقتيًّا، متغيّرًا، إذًا مرتجلاً.
بكلام آخر ومن المنظور السلبيّ، تصدر القراءة الاحتفاليّة عن صوت القارئ المتوحّد، بمنأى عن أيّة مصاحبة عزفيّة، ومن ضمن سعيٍ حثيث إلى شيءٍ من النُّسك الموسيقيّ، بعيدًا عن الشهوانيّة والاستعراضيّة الأنائيّة الصوتيّة. بل إنّ الجمود والوحدة والصمت، تلك الصفات الخاصّة بنشوة الوجد الصوفيّ، تنسحب على حيّز التلاوة المرنّمة وسماعها الذي يمكنه إنتاج أحوال من الانخطاف الروحيّ، الهادئة والداخليّة.
في المقابل ومن المنظور الإيجابيّ، تتقولَب صياغة النصّ الموسيقيّ على الحيّز الصوتيّ من النصّ الذي تتمّ تلاوته وبخاصّة على نُتوئه الإيقاعيّ واللحنيّ:
يتمّ رسم المُدَد الزمنيّة للنغمات على أساس ثقل مقاطع (quantité syllabique) الكلام في النصّ وبحسب نسب المدّ فيها (أحكام المدود في التجويد)،
تتبع متغيّرات الارتفاع اللحنيّ – المتمحور حول وتر التلاوة (corde de récitation) – الخطّ البيانيّ الخاصّ بالنبرات وأحرف العلّة (tonalité vocalique).
بشكل أدقّ، لا يمكن لصِيَغ الحشو اللحنيّ (formules neumatiques et mélismatiques) في الترنّم أن تأخذ مكانها إلاّ في مقاطع المدّ، وذلك على أساس منطق الفصل والوصل والقفل في النصّ، وبخاصّة في إطار التقاليد المشرقيّة، من منظور إبراز معنى الكلام.
وفي المحصّلة، تشكّل التلاوة المرنّمة عنصرًا رمزيًّا وعمليًّا يتمّ توظيفه في تمايز الممارسات الترنيميّة الشعائريّة الإبراهيميّة، المبنيّة على اللوغُس، والموجَّهة من القطب الإلهيّ إلى نظيره الإنسانيّ، عن نظيراتها الطقسيّة الكمونيّة، المرتكزة على النغم، والموجَّهة من القطب الإنسانيّ إلى نظيره الإلهيّ. تشمل الممارسات “الطقسيّة الكمونيّة“: التطهّر (الموسيقى كأداة تطهير)، التسبيح، التهليل (الموسيقى كذبيحة) (8)، النشوة في صِيَغِها المتعدّدة (9). ونجدها في الطقوس “الوثنيّة“، وفي عدد من الممارسات الموسيقيّة الدنيويّة (التقليديّة الشعبيّة والحديثة) القريبة من الوثنيّة، وحتّى في ممارسات طقوسيّة منضويّة تحت لواء الأديان الإبراهيميّة: النشوة الجماعيّة على أساس إثارة موسيقيّة (transe communielle à induction musicale) كما تظهر في إطار بعض الجماعات البروتستانتيّة الأميركيّة السوداء، وفي الحركات الكاريزميّة، وفي بعض الطقوس الصوفيّة الإسلاميّة.
صحيح أنّ العديد من الأديان في العالم تقترن بممارسات من نوع التلاوة المرنّمة وأنّ بعض التقاليد الموسيقيّة الدنيويّة تستخدم طرائق مماثلة في القراءة (10)، لكن وحدها الأديان الإبراهيميّة تجعل التلاوة المرنّمة في قلب شعائرها، ما تجعلها النموذج الأساس لممارساتها الموسيقيّة العباديّة، بما أنّها، وبحسب نيكولا لوسكي (11)، “تُسمِع رمزيًّا صوتَ الله“.
يعود هذا النموذج الأصليّ إلى تقليد ترنيم المجمع العبريّ في القرن الأوّل، إذ تتمحور هذه الشعيرة حول التلاوة الاحتفاليّة للكتاب المقدّس (12). ترتكز تلاوة النثر المرنّمة العبريّة (واسمها “نعيمه“) على تحميل قراءة الآيات بعضًا من الصياغة النغميّة ذات الطابع المقاميّ التي تنصاع في إيقاعها كلّيًّا إلى وزن الكلام النثريّ. ينطلق التنغيم من صيغة بدء، ثمّ يتمركز حول وتر التلاوة (النغمة المهيمنة في السياق المقاميّ – الغمّاز)، وذلك بالتواتر مع بعض صيغ القطع والوصل والقفل (13). أمّا المزامير فيجري ترنيمها في المجمع في شكل قريب من التلاوة المرنّمة النثريّة، خاليةً من أيّة مصاحبة عزفيّة، وذلك إمّا على الطريقة الأنطيفونيّة (antiphonée)، أي في تناوب بين جوقتَين، وإمّا على طريقة التجاوب (responsorial)، أي في تناوب بين مرنّم واحد مع ردود الشعب أو الجوقة، مثل “آمين” و“هلّيلويا” (14).
أمّا التقاليد الترنيميّة الليتورجيّة المسيحيّة، فترتبط مباشرةً في أصلها بالتقليد المجمعيّ العبريّ، وقد حافظت على الكثير من عناصر هذا الأخير، بعد اقتباسها وتطويعها لتناسب الإيمان الجديد (15). ومن تلك العناصر المقتبسة: التلاوة المرنّمة للكتاب المقدّس، ترنيم الزامير، طقس الفصخ اليهوديّ الذي أخذت رتبة الإقخاريستيّة المسيحيّة عنه بعض مكوّناتها. أمّا العناصر المستحدثة في الشعائر المسيحيّة، فهي الإعلانات والصلوات والأدعية والابتهالات التي يتلوها الكاهن على شكل تلاوة مرنّمة، والطلبات التجاوبيّة (litanies en responsorial)، وإنشاد الأناشيد الموجودة في العهد الجديد.
ومن منظور جدليّة الوزن الكلاميّ في مقابل الإيقاع الدوريّ الحركيّ (16)، تندرج التلاوة المرنّمة للنثر في سياق الوزن الكلاميّ، وذلك في تضادّ مع شكل الردّة واللازمة التكراريّ، المعتمد على الإيقاع الدوريّ، في حين يحقّق إنشاد الشعر توازنًا بين وزن الكلام والإيقاع الدوريّ. أمّا إنشاد شكل “الهيمن” (hymne)، وهو ستروفي (strophique) – أي تكرار اللحن على مدار الأبيات أو مجموعات الأبيات – فيرجح كفّة الإيقاع الدوريّ، وهو شكل شعريّ موسيقيّ من أصل “وثنيّ” وهرطقيّ غنوصيّ (gnostique)، دخل إلى الحيّز التعليميّ المسيحيّ المستقيم في القرن الرابع عن يد مار أفرام السريانيّ، ثمّ عن يد القدّيس أمبروزيوس الميلانيّ، بغية مقاومة أناشيد الهراطقة بالسلاح عينه (17). وبالتالي، فترتكز رتبة القدّاس الأوّليّة، كما الشعائر المجمعيّة اليهوديّة، على ثلاثة نماذج أوّليّة، تتمحور حول قالب التلاوة المرنّمة المرجعيّ، وذلك على أساس جدليّة مثلثّة من منظور إيقاعيّ، تُسقِط عليه اعتبارات جماليّة مصدرها شعائريّ ولاهوتيّ (18):
نموذج التلاوة المرنّمة الأوّليّ، أساس الموسيقى الليتورجيّة في فحواها التبليغيّ،
نموذج المزمور والإنشاد الأوّليّ، التكراريّ في لحنه والموقّع دوريًّا، المنوط به التسبيح والتهليل، وهي وظيفة ثانويّة من منظور الأديان السماويّة،
النموذج التجاوبيّ، وهو محصّلة النموذجين السابقين، إذ يمكّن التناوب بين صوت القارئ – الرامز إلى القطب الإلهيّ الله – وبين صوت الشعب – الرامز إلى القطب الإنسانيّ – من دمج سَعْيِ الجماعة المؤمنة إلى التعبير عن فرحها في تدبير شعائريّ مُحْكَم.
يُضاف إلى هذا الإسقاط الطقسيّ على الحيّز النظاميّ الإيقاعيّ بعدٌ ثقافيّ نغميّ أصليّ. إنّه أثر سمات المشرق النغميّة على الأنظمة المقاميّة العبريّة ثمّ الكنسيّة القديمة والوسيطة، ثمّ الإسلاميّة العربيّة الوسيطة. تتمثّل السمة النغميّة الأساسيّة في الهيكليّة الزلزليّة أي في بناء السلالم اللحنيّة على أساس نوعين من المسافات الثانية: الثانية المتوسّطة (ما يوازي مقدار ثلاثة أرباع الطنين) والثانية الكبيرة (ما يوازي مقدار الطنين). (19)
يشهد الثلث الأخير من الألفيّة الأولى إنضاجًا للتقاليد الترنيميّة الكنسيّة في الشرق كما في الغرب. وهي أيضًا حقبة ولادة الموسيقى الفنّيّة العربيّة في بوتقة الخلافة الأمويّة (المدينة المنوّرة ودمشق) ثمّ العبّاسيّة (بغداد). تولّد هذا التقليد عن التراث الشعبيّ القديم الخاصّ بمكّة المكّرمة وبالمدينة المنوّرة، نتيجةً لاحتكاكه بالتقاليد الموسيقيّة الفنّيّة الخاصّة بالشعوب الموجودة في البلاد التي خضعت للفتح الإسلاميّ، بخاصّة الثقافات السريانيّة، الروميّة (“البيزنطيّة“)، المصريّة القبطيّة، الفارسيّة. ويبدو أنّ التقليد الترنيميّ الكنسيّ السوريّ قد طبع بشكل خاصّ موسيقى البلاط الأمويّ الوليدة (كما وريثتها العبّاسيّة)، سيّما في بعدها المقاميّ (20).
ثمّة أواصر قربى شديدة (بل ثمّة تماهٍ) على صعيد النظام النغميّ بين التقاليد الترنيميّة الإسلاميّة ونظيراتها الدنيويّة (ونظيراتها الكنسيّة في المشرق) في المواقع الجغرافيّة الثقافيّة الواحدة، مع اختلاف من الزوايا الإيقاعيّة والقالبيّة الشكليّة والأسلوبيّة، وذلك بالعلاقة مع الوظائف الشعائريّة. وبصورة خاصّة يعتبر فريدريك لاغرانج (21) التلاوة المرنّمة للقرآن الكريم، في أسلوبها الفنيّ الترنّميّ، المسمى تجويدًا (من الناحية الموسيقيّة) منذ القرن الثامن عشر م، أنّها شكل مطوّر ممّا سُمِّيَ “قراءة بالإلحان” في العصر الوسيط. تعتمد هذه التلاوة أوّلاً على أحكام التجويد (اللغويّة والشرعيّة) في القراءة، الخاصّة بسلامة النطق وتبيان مقاطع الكلام وقواعد المدود التي تتجلّى في تفاوت بَيِّن بين المدد الزمنيّة المنوطة بمقاطع الكلام، الظاهر في الإيقاع الوزنيّ الكلاميّ المهيمن على التلاوة المرنّمة القرآنيّة، الذي يميّزها بشكل واضح عن أساليب الغناء الدنيويّ الموقّع دوريًّا. أمّا البعد اللحنيّ للتجويد القرآنيّ، فهو يعتمد على السلالم المقاميّة عينها الموجودة في الحيّز التقليديّ الدنيويّ العربيّ، مع شيء من الخصوصيّة في تركيب نماذج الصِّيَغ اللحنيّة.
تتشارك تقاليد التلاوة المرنّمة الدينيّة المتوسّطيّة في الألفيّة الأولى باحترامها الأصول التالي ذكرها:
نسيج صوتيّ أحاديّ من غير عزف،
نمذجة لحنيّة على أساس مقاميّ يتّسم
بهيمنة الهيكليّة الزلزليّة على تكوين السلالم المقاميّة (بما في ذلك سلالم الترنيم اللاتينيّ الغربيّ حتّى انشقاق عام 1054 م)،
بمقاميّة قطبيّة وصيغيّة تعتمد على أوتار التلاوة،
بترجيح كفّة الوزن الكلاميّ المُرسَل (من غير قيد دوريّ) في حيّز الإيقاع،
بالطابع التأويليّ التجدّديّ للأداء، المحفِّز للارتجال في حدود أصول التقليد، بعيدًا عن أيّ تثبيت من خلال التلحين والتدوين.
بالإضافة إلى ما يترتّب عن اختلاف لغات القراءة، تختلف تقاليد التلاوة المرنّمة فيما بينها على أساس أساليب حشو المقاطع الثقيلة وانتظام الصيغ اللحنيّة حيال المراكز النغميّة، وذلك حتّى في إطار تقليديّ دينيّ واحد.
ثمّة ثلاثة أصناف من أساليب الحشو المقطعيّ:
الأسلوب المقطعيّ (syllabique): يُحشا المقطع الواحد بنغمة واحدة.
الأسلوب الصيغيّ (neumatique) أو المزيّن: قد يُحشا مقطع ثقيل بِـ“نوما” (neume) أي صيغة لحنيّة قصيرة مكوّنة من نغمتين أو ثلاث.
الأسلوب الترنّميّ (mélismatique): تُحشا بعض المقاطع الثقيلة بسلسة من النغمات المسماة بالترنّم أو الحشو.
يرتبط استخدام الأسلوب المقطعيّ بالأسباب التالي ذكرها:
الحاجة إلى قراءة سريعة، بخاصّة في الصلوات اليوميّة الرهبانيّة،
تلقين القرآن الكريم الذي يتمّ على أساس أسلوب “الترتيل” المقطعيّ،
حاجة وسائل الإعلام والإنتاج الإسلاميّة إلى إرضاء النزعات المتزمّتة المعاصرة من خلال اعتماد أسلوب “الترتيل” المقطعيّ في ترتيل القرآن الكريم، الذي لا يعطي للموسيقى مجالاً للتنامي.
أمّا على صعيد انتظام الصيغ اللحنيّة حيال المراكز النغميّة، أي الأقطاب أو أوتار التلاوة، فيمكن التمييز بين التلاوات الأحاديّة القطبيّة، حيث يتمّ القفل على وتر التلاوة، والتلاوات المتعدّدة الأقطاب أو أوتار التلاوة، بحسب تصنيف الأب جان كلير (22). في حين تتميّز تقاليد التلاوة المرنّمة عند اليهود واللاتين بالأحاديّة القطبيّة، تأخذ التلاوة المرنّمة في الكنائس الشرقيّة (قراءة الأناجيل والرسائل في الأطر البيزنطيّة والقبطيّة، وصلاة الحسويو أو الحسّاية في القدّاس المارونيّ) أشكالاً متعدّدة بحسب الحاجة، إذ تكون أحاديّة قطبيّة وصيغيّة عند الحاجة إلى الاقتضاب، ومتعدّدة الأقطاب وترنّميّة لدى القرّاء المتفنّنين. وقد يُدخل البعض تغييرًا عرضيًّا في مسافات السلّم المقاميّ الواحد، من باب التلوين، أضف إلى ذلك في بعض الأحيان، ولأسباب طقسيّة، أسلوب ما تسميه سولانج قربان “تصعيد وتر التلاوة“ (23).
أمّا تجويد القرآن الكريم، بخاصّة في تقليده الأزهريّ، فيعتمد على أسلوب ترنّميّ من الحشو ومتعدّد الأقطاب. وهو يشكّل أعلى شكل من التفنّن الموسيقيّ في التلاوة المرنّمة بين سائر التقاليد الدينيّة السماويّة. إنّه فنّ دينيّ تامّ بحيث ينمو الإبداع الموسيقيّ في سعيٍ نغميّ غير متناهٍ، إنّما راضخ بشكل تامّ للكلمة الإلهيّة. من هنا تبدو الشروط النُّسكيّة السلبيّة الموسيقيّة (لا مساوقة، لا عزف، لا تدوين، لا تلحين) وكأنّها، بدلاً من أن تنشّف الإبداع لدى القارئ، تحفّزه على تجاوز نفسه باستمرار، على أساس نموذجَين هما التقطيع الوزنيّ الكلاميّ والمقامات اللحنيّة المشرقيّة، بحيث تمتلئ المقاطع الثقيلة بسلسلة النغمات الترنّميّة المتعاظمة.
ويطبع هذا الأسلوب جانبًا مهمًّا من التقليد الموسيقيّ العربيّ الفنّيّ، الذي يتّبع النموذجين عينهما، لكن بتصرّف:
ترنيم القصيدة على لحن مرسل وعلى ضرب الوحدة،
فنّ التقسيم العزفيّ الذي يمثّل مرادفًا لتلاوة مرنّمة لنصّ ضمنيّ.
ويُشبِه السعيُ إلى ملء المقاطع الثقيلة من نطق الكلام بسلسلة فائضة من النغمات مفهومًا لاهوتيًّا لدى آباء الكنيسة الشرقيّة، هو الإببيكتاسيس (l’épectase) (24)، أي “التمدّد“، أي الانشداد الوجوديّ للإنسان نحو الله (رؤية الله من الخلف لدى القدّيس غريغوريوس النيصصيّ في تأويله الصوفيّ للموقف الموسويّ). وكأنّما الترنّمات الحاملات الكلمة الإلهيّة، حينما ترمي بنفسها في هاوية أحرف العلّة الملهبة، تصعد سلّم النغمات نحو اللا نهاية من غير وصول، وكأنّها تدمج بعضًا من اللا نهاية في ذاتها، كشهادة على الحضور الإلهيّ في الإنسان.
في إطار السعي الحاضر إلى اللقاء بين الأديان السماويّة، تبدو التلاوة المرنّمة كحيّز مشترك بين شعائر تلك الأديان وتثبيتًا مشتركًا لدعوتها الإنسان عبر إسماعه الكلمة الإلهيّة إلى الترقّي إلى كرامة أعلى من واقعه، وذلك عبر اتّحاده بالكلمة. من هنا الدعوة إلى تأصيل المراس التقليديّ الشعائريّ الدينيّ، بخاصّة في بعده الترنيميّ وفي فحواه الروحيّة، كمدخل إلى لقاء حبّ إلهيّ بين عاشقي الله يسلكون مسالك متعدّدة إنّما معبّرة.
المراجع
(1) تعتمد الرؤية البيثاغوريّة في تكوين الكون على التأمّل في آلة القانون الأحديّة الوتر (monocorde) وعلى قياس المسافات اللحنيّة على أساس النسب من نوع القائمة بين طول الوتر الخاص بالنغمات، وذلك لوصف عمليّة بناء نفس الكون الواردة في كتاب طيما (البيثاغوريّ) لأفلاطون.
(2) وهو قوله: “كُن“.
(3) في حين تتشارك الأديان السماويّة في مبدأ الوحي النبويّ، تتميّز المسيحيّة عن اليهوديّة والإسلام في اعتبار اللوغُس\الكلمة (مذكّرًأ) بمثابة الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، أي الابن المتجسّد والمتأنسن كي يتألّه الإنسان.
(4) راجع: Lossky, Nicolas, 2003, Essai sur une théologie de la musique liturgique. Perspective orthodoxe, Paris, Les Éditions du Cerf, ص. 32.
(5) راجع: Johannes Quasten, 1983, Music and Worship in Pagan and Christian Antiquity, Translated by Boniface Ramsey, O.P. National Association of Pastoral Musicians Washington, D.C., ص. 15-19.
(6) Solange Corbin, 1961, « La cantillation des rituels chrétiens »”, Revue de Musicologie, vol. 47, n° 123 (juillet 1961), ص. 3.
(7) اختارت بعض التقاليد الترنيميّة الكنسيّة (الناطقة باليونانيّة، بالسريانيّة، باللاتينيّة) واليهوديّة تدوين الصِّيَغَ اللحنيّة الخاصّة ببدء التلاوة ومفاصلها وقفلها، لكنّها لم تصل إلى تدوين فقرة من تلاوة مرنّمة برمّتها، وهو موضوع لا فائدة منه ولا معنى له.
(8) راجع: Johannes Quasten, 1983, Music and Worship in Pagan and Christian Antiquity, Translated by Boniface Ramsey, O.P. National Association of Pastoral Musicians Washington, D.C., ص. 15-19.
(9) راجع: Gilbert Rouget, 1989, La musique et la transe, esquisse d’une théorie générale des relations de la musique et de la possession, Gallimard, Paris.
(10) راجع: François Picard, 2008, « Parole, déclamation, récitation, cantillation, psalmodie, chant », RTMMAM – Revue des traditions musicales des mondes arabe et méditerranéen, n° 2 « Musicologie des traditions religieuses », Baabda (Liban), Éditions de l’Université Antonine, ص. 9-24.
(11) راجع المرجع عينه: Nicolas Lossky, 2003.
(12) راجع: Hervé Roten, 1998, Musiques liturgiques juives : parcours et escales, Paris, Cité de la musique / Actes Sud, ص. 30.
(13) تسمى هذه الصِّيَغ النغميّة “تعمين“، وهي مدوّنة منذ أواسط الأفيّة الأولى على طريقة إكفونيتيكيّة (ekphonétique)، تبرز التحوّلات النغميّة ولا تبيّن الدرجات النغميّة.
(14) راجع: Israël Adler, 1968, « Histoire de la musique religieuse juive », in Encyclopédie des musiques sacrées, volume I, Paris, Éditions Labergerie, ص. 469-493، ص. 473، وHervé Roten, 1998, المرجع عينه، ص. 30.
(15) راجع:
Richard Hoppin, 1975, La musique au Moyen Âge, 2 volumes, trad. de l’anglais par Nicolas Meeùs, Liège, Mardaga, p. 45-46,
Solange Corbin, 1960-2000, l’Église à la conquête de sa musique, Paris, Gallimard, rééd. Kaslik, USEK, p. 63,
(16) راجع: Jacques Chailley, 1996, La musique et son langage, Paris, Éditions Aug. Zurfluh, 1996, ص. 17-18.
(17) راجع:
Solange Corbin, 1960-2000, op. cit.,
Louis Hage, 1999, Précis de chant maronite, Kaslik (Liban), Bibliothèque de l’Université Saint-Esprit de Kaslik, p. 65.
(18) راجع:
Nidaa Abou Mrad, 2007, « Compatibilité des systèmes et syncrétismes musicaux : une mise en perspective historique de la mondialisation musicale de la Méditerranée jusqu’en 1932 », in Filigrane, numéro 5 « Musique et globalisation », mars 2007, éditions Delatour France, p. 93-120, p. 97.
(19) راجع:
Abraham Idelsohn, 1929-1992, Jewish Music in Its Historical Development, New York, Dover Publications, Inc., ch. II,
Nidaa Abou Mrad, 2005, « Échelles mélodiques et identité culturelle en Orient arabe », Une encyclopédie pour le xxie siècle, dirigée par Jean-Jacques Nattiez, vol. III, « Musiques et cultures », Arles, Actes Sud, p. 756-795
(20) راجع: Nidaa Abou Mrad, 2008, « Prolégomènes à une approche vectorielle neumatique de la modalité », RTMMAM – Revue des traditions musicales des mondes arabe et méditerranéen, n° 2 « Musicologie des traditions religieuses », Baabda (Liban), Éditions de l’Université Antonine, p. 90-128, p. 92-93.
(21) Frédéric Lagrange, 2008, « Réflexions sur quelques enregistrements de cantillation coranique en Égypte (de l’ère du disque 78 tours à l’époque moderne) », RTMMAM – Revue des traditions musicales des mondes arabe et méditerranéen, n° 2 « Musicologie des traditions religieuses », Baabda (Liban), Éditions de l’Université Antonine, p. 25-56, p. 27-28.
(22) Jean Claire, 1962, « L´Évolution modale dans les répertoires liturgiques occidentaux », Revue grégorienne 40 (1962), p. 196-211, p. 229-245 et 1975, « Les Répertoires liturgiques latins avant l´octœchos. I. L´office férial romano-franc », Études grégoriennes 15 (1975), p. 5-192. L’extension de cette approche aux traditions méditerranéennes non latines est systématisée dans : Nidaa Abou Mrad, 2008, op. cit..
(23) Solange Corbin, 1961, op. cit., p. 29-30.
(24) « Le terme επεκτασις / epéktasis signifie en grec classique “extension, allongement”, en particulier en philologie : il désigne alors l’allongement d’une voyelle brève » (http://www.epectase.com/, consulté le 20 février 2009).