.
تعرّفت على مدحت صالح متأخرة. في الحقيقة متأخّرة جدًّا. في عام ٢٠١٥ تحديدًا. اقترح يوتيوب عليّ أغنية السهرة تحلى. بدأت الأغنية، ومع جملة “أرواحنا صافية بالحب صافية وقلوبنا دافية” كانت الخلاصة واضحة في رأسي: صوت مدحت صالح أجمل صوت في العالم العربي. أذكر جيدًا أنني قضيت ذلك اليوم أبحث عن أغانيه. في الأيام التالية، حفظت الأغاني، الحفلات التي أحياها، والنكت التي يلقيها على الجمهور في حفلاته، ثمّ تفاصيل أخرى عن حياته في مقابلات تلفزيونية، تبيّن أنه ضيف دائم عليها. رأيته أيضًا في إعلان رمضاني مع أنوشكا وزاب ثروت وكايروكي. خلال عامين كانت خياراتي الغنائية تتبدّل. صعد مدحت صالح بشكل سريع إلى مرتبة فناني المفضل جنبًا إلى جنب مع جورج وسوف، وأرّخ لبداية مرحلة جديدة في حياتي، فرافقني.
مع دخولي عامي الثلاثين. اكتشفته في تلك الفترة التي كنت أبحث فيها عن تغيير في ذائقتي الموسيقية. خفَتَ وهج الربيع العربي، والثورات، وخفتَ معه انبهاري بالساحة الموسيقية البديلة، خصوصًا في مصر. جاء مدحت صالح ليخبرني أن انجرافي لأربع سنوات خلف جيل النجوم الجدد الذين يملؤون مواقع التواصل وإعلانات شركات الاتصال، ويحتكرون تقريبًا حفلات ساقية الصاوي، قد انتهى. هو السنّ، أو الشعور بالهزيمة السياسية، أو ربما فقط صوت مدحت صالح.
لم يكن لنا في بيتنا منذ طفولتي أي اهتمام محدّد بالموسيقى. أمي تشغّل الراديو طول اليوم فنستمع بشكل ضبابيّ إلى كل شيء: من فيروز لوائل كفوري لنشرات الأخبار وإعلانات حلاوة القناطر. جعلني ذلك أكبر بذوق موسيقي مضطرب، فلا ذكريات موسيقية خاصة بحياتي، لا طفولتي طبعت بفنان معيّن، ولا رحلات المدرسة أو المخيمات الصيفية كانت بطابع موسيقي، باستثناء التراتيل الكنسية، وأغنية تترجى فيّا لإيهاب توفيق.
اكتشفت الموسيقى ونشوتها متأخرة أصلًا، واكتشفتها من الباب الخطأ، باب السياسة. بين زياد الرحباني وخالد الهبر وسامي حواط وفلسطين، وأشياء أخرى. ثمّ كبرت واكتشفت أن الحياة في مكان آخر تمامًا.
لا أذكر بوضوح النقطة المفصلية التي تلت المراهقة وموسيقاها السياسية (الأرجح أنها فقرة الفيديو كليبات قبل نشرة الأخبار المسائية). لكن أذكر جيدًا أنني لم أعد أشبع: جورج وسوف، نور مهنا، راغب علامة، أحمد دوغان، نوال الزغبي، جورج وسوف (مرة أخرى وأبدية). سحرني عالم الموسيقى التجارية، بكل تفاصيله: اللحن، التوزيع، الإيقاع، الكلام الأداء الفساتين وتسريحات الشعر والألوان.
ثمّ جاء العام ٢٠١١. سُحلت مرة أخرى مع موسيقى أخرى، الساحة المستقلة أو ما يسمى بالأندرجراوند. سرقتني القاهرة، وبدأت أسافر إليها من بيروت بأفكار نمطية كثيرة عن الثورة، والحرية وكرامة الشعوب. واكتشفت هناك مسار إجباري وكايروكي ووسط البلد ويسرا الهواري ولايك جيلي. أغنية أخرى، وموسيقى أخرى وجمهور آخر بأحلام كثيرة. ٤ سنوات كاملة وأنا أستمع إلى كل ما يتيحه لي يوتيوب وساوند كلاود. عشرات الفنانين والفرق، ومئات الأغاني.
لكن عام ٢٠١٤ انتهى كل شيء. في رحلتي الأخيرة إلى القاهرة، وقبل عودتي إلى بيروت حملت معي كل الألبومات المتاحة لفرقي المفضلة. وضعتها في جارور المكتب، ولم أسمعها بعد ذلك أبدًا.
انتهت علاقتي بتلك المدينة وانتهت علاقتي بموسيقاها، أو هكذا ظننت. لكن تبيّن مجددًا أن الحياة في مكان آخر. علي الحجار وتترات المسلسلات، سيمون، وجيه عزيز، محمد منير، ثمّ مدحت صالح. للرجل سحر خاص. يشبه كل الفنانين الذي غنوا في نفس الحقبة، وفي الوقت عينه مختلف تمامًا. يغني أغانيه الخاصة، يردّد كلمات عظيمة وأخرى ساذجة. مجروح في الحب أو عاشق سعيد، يحب الحياة “زي ما هي” أو يتسلل اليأس إليه. يتقن كل ذلك بشكل مذهل. أعيد التسجيل الخاص بحفله في مهرجان الموسيقى العربية. أعيده أربع مرات، مرة تلو الأخرى. أشاهد الحفل كاملًا، وأحفظ حركاته وأداءه وتعليقاته.
https://www.youtube.com/watch?v=e4oNAX4L-44
في ٢٠١٧، وطيلة حملي بابنتي ناي، كنت أعيد أغاني مدحت صالح، وأغني معه. أبحث عن تأثير الموسيقى على الجنين. تبيّن أنه من المفيد تعريض الأجنّة للموسيقى الكلاسيكية. حسنًا مدحت صالح قد يكون موسيقى كلاسيكية. عادي. أعيد الأغاني في السيارة، في المكتب، قبل النوم. أغني لناي زي ما هي حبها، محبتك جنون وبحلم على قدي وكوكب تاني (وبينها على سبيل الغش أغنية المريلة الكحلي لمحمد منير)، وأكاد أجزم أنها كانت تستمتع بها. في الليلة التي ولدت فيها، في المستشفى، استمعنا أنا وهي إلى بحبك كل ما تطلع شمس. بدت الأغنية مناسبة لطفلة في ساعاتها الأولى.
لكن هل نكتفي بالأغاني فقط؟ حفظت مقابلاته كلها. تلك التي يطل فيها وحيدًا، أو التي يشاركه فيها علي الحجار أو شريف منير. يتحدّث بأريحية تامة. لا يحمل كلامه الكثير من الادعاء. يتكلّم عن زيجاته الكثيرة لأنه أحبّ كثيرًا، يتكلّم عن شبرا التي كبر فيها ودروس الدين، وعن فشله الأول، عن نجاحاته، عن خياراته الموسيقية. يستمع إلى علي الحجار وهو يوجه له إطراءً، فيخفض رأسه خجلًا.
أخذني مدحت صالح إلى هناك. إلى القاهرة التي لم أعرفها. قاهرة رمادية، كأبنيتها، وحياتها السياسية والفنية في حقبة محمد حسني مبارك، التي كانت فيها سنوات النجاح الكبير لصالح. لا هي قاهرة عبد الحليم حافظ، ولا قاهرة أمير عيد. قاهرة في الوسط، كان فيها مدحت صالح نفسه. فنان في الوسط، يربي عضلاته ويطيل شعره في محاولة لمجاراة الجيل، ثم يقصّ شعره مرة أخرى ويرتدي بدلة ويقف على مسرح الأوبرا ليستعيد تلات سلامات وحمال الأسية. تشبه تغيراته الاضطرابات النفسية التي تصيبنا في ثلاثينياتنا. لا نحن مراهقون، ولا نحن راشدون تمامًا. نتخبط بهدوء كمسيرة مدحت صالح. في سنّ يسمح لنا بالحبّ والمغامرة، ويفرض علينا خيارات أقل جنونًا.