.
يرتدي سعد اليابس عقالًا وشماغًا عربيًا، وإذا تتبعت حركته وهو يعزف تجد مزيجًا غريبًا من المشاعر التي تطفو على وجهه. يبدو في حالة انغماسٍ تام، وفي الوقت ذاته، اعتداد بالنفس وشعور بالتميز يحرص على أن يوصله للمشاهد والمستمع. تعلو وجهه ابتسامة متماسكة، نرجسية ربما. يرفع رأسه إلى الأعلى، يغمض عيناه أو يطلقهما في الفراغ أمامه، متجاهلًا المستمعين المأخوذين به. يلتفت أحيانًا ليطلق تعليماته للفرقة، وبالكاد تستطيع أن تلاحق حركة يديه: تتراقصان، تنقلان صورة النغم في دماغه عبر ذراعيه، وصولًا إلى أصابعه التي تلامس جلد الخشبة أو الكاسورة بتسارعٍ مهيبٍ أخاذ. يحرص العازفون معه على السكون عن العزف أحيانًا حين يتجلى اليابس في واحدة من حالاته، مطلقًا تسارعًا كثيفًا في الضرب على الخشبة بنشوة عجيبة.
يُرجع الكثيرون الخشابة إلى صناع المراكب البحرية الذين انتشروا في أبي الخصيب، وغيرها من مدن البصرة على الخليج. ابتكر هؤلاء آلة تشبه الدنبُك أو الطبلة، صُنع بدنها من الخشب بدل الفخّار، وتُسمّى الخشبة. لا تستند الخشبة على نوطة موسيقية معينة، بل تعتمد إيقاعًا متتابعًا موزونًا، يرافقها الصفق بالأكف والغناء بشكل جماعي، ويتخللها رقص الرجال على وقع الضربات المتلاحقة على الجلد المشدود على إحدى فوهتَيها.
يربط بعض الباحثين نشأة الخشبة أنثروبولوجيًا بموروث أفريقي، رافق السود منذ أيام استجلابهم كعبيد للعمل في حقول البصرة في العصر العباسي، حيث يمكن الربط بين جلسات عزف وغناء الخشبة بجلسات الضرب على الخشب في أفريقيا وطقوس القبائل الوثنية هناك. يقول سعد اليابس، أشهر خشّاب وكاسور، في سياق الحديث عما تؤديه فرقته من فنون، إنها تتضمن تقديم “الفلكلور البصري الخالص المرتبط إلى حدٍ بعيد بالرقصات الدينية القادمة من مجاهل إفريقيا، كالزيران والنوبان والهيوة والجكانكا، لأن غالبية الراقصين ينحدرون من أصول افريقية”، ويستمر موضحًا أن ما تقدمه فرقته “لوحات فلكلورية بعيدة كل البعد عن الرقص الحسي الفاحش، بل إن غالبية اللوحات امتداد لطقوس دينية أفريقية حافظ عليها أهلها منذ مئات السنين.” بينما يرى عدة باحثين أن هذا الفن “أصله بصري قديم، وليس كرقصات الهيوة والليوة التي جاءت مع الزنج، وأنه فن عفوي لا يعتمد التأليف ولا النوتة الموسيقية، وأضيفت له لمسات عبر الزمن وفق البيئة التي ينمو فيها.” مع الوقت، دخل عازفوا الخشبة والكاسورة إلى فرق العديد من الفنون الشعبية الأخرى، وصارت الخشبة ركنًا أساسيًا يصاحب الغناء الريفي عامةً.
لو دققت النظر في من يرقصون في جلسات الخشابة، ستلاحظ رقصًا قريبًا بالفعل إلى الرقص الطقوسي الأفريقي، ما يمنحه حالة خاصة ربما كانت السبب في عدم استهجان وجود راقصين رجال في فرق الخشابة. لعل ما يربط الخشابة بالموسيقى الطقوسية، كون عازفيها قديمًا لم يتقاضوا أجورًا عن الحفلات التي يحيونها. لو وفرت لهم وسيلة نقل، سيحيون ليلة فرحك طلبًا للفرح الذاتي والأنس الشخصي. على أية حال، تبقى نسبة أصل الخشابة غير ثابتة، كما أنها لن تغير كثيرًا في ما رافق الخشابة من تأصيل ارتبط بالعراقيين في البصرة. يذكر الملحن البصري طارق الشبلي أن هذا الفن يعود “بالأساس إلى مدينة الزبير، وقد اشتهرت فيها طريقة أداء خاصة باسمها، ثم أخذتها وبإيقاع خاص بها مدينة أبو الخصيب. يمكن أن نضيف إلى هذين الإيقاعين إيقاعًا ثالثًا اختصت به مناطق شمال البصرة، تميّزه مصاحبة الأرجل وأصابع اليدين لإيقاع الخشبة.”
في بدايته، قام غناء الخشابة على عزف الخشبة وحدها، ما جعل قدرته على التعايش والتطوّر محدودة، لكن عندما دخلت الكاسورة – الطبلة الأساس التي تقود الطبول الأخرى وتنفرد في العزف أحيانًا – على الخشابة، أصبحت تقود الإيقاع الرسمي وتتولى الزخارف الإيقاعية، كما يذكر الملحن وأستاذ الموسيقى في جامعة البصرة ناصر هاشم.
تتكون فرقة الخشابة، بالاضافة إلى المطرب الأساس، من كورَس من عدة منشدين، قد يتجاوزون الثلاثين إلى أربعين منشدًا، ويسمَّون بكاملهم شَدَّة. مر وقت في البصرة كانت تصول فيها أكثر من ٥٠ فرقة للخشابة، بل كادت كل محلة أن تمتلك فرقة خاصة بها. لم تقتصر هذه الفرق على الرجال، وكانت أبرز الفرق النسائية فرقة أم علي للفنون الشعبية، التي أحيت الحفلات الخاصة لنخبة البيوت البصرية، فضلًا عن إحياء حفلات عامة وسهرات تلفزيونية.
يروي الملحن العراقي سرور ماجد أن “هذه الفرق قدمت إضافاتٍ مهمة للمقام العراقي، فضلًا عن الإيقاعات المحببة، حيث تعدّدت الاختصاصات في شَدَّة الخشابة. منهم من يقرأ المقام ومنهم من يختص بما يعرف بـ البستة الأغنية التي تتبع قراءة المقام ويفترض بها أن تكون فسحة للمغني.، وهناك الكاسور، سيد الإيقاع في هذا الفن البصري الخالص، فضلًا عن العازفين على البستوگة.”
أغنية عليمن يا ﮔلب تعتب عليمن، فرقة أم علي للفنون الشعبية تلفزيون البصرة ١٩٨٤.
تجسّد حالة سعد اليابس أبرز مثال على مكانة وتأثير فن الخشابة في مؤديه قبل حاضريه. يجلس اليابس في مقدمة الفرقة، بوصفه العازف الأهم، والذي يفوق المغني أهمية لأنه العنصر الثابت في هذه الفرقة، وممثل لسلسلة طويلة من الذين تعاقبوا على تطوير هذا الفن. في أحيان كثيرة يتراجع المغني إلى الخلف، ليتصدر اليابس الفرقة، مؤديًا وظيفة الكاسور رئيس فرقة الخشابة، ويتولى توزيع الآلات على باقي الأعضاء، ويقود فصل جلسة عزف الخشابة، فهو العارف بما ينبغي تقديمه من مقاطع غنائية.
في جلسة خاصة لفرقة اليابس، تقاربَ خمس رجال حتى بدا أنهم متحاضنين في حلقة مغلقة على نفسها، أدار كل واحد منهم وجهه لناحية فلا تلتقي نظراتهم إلا لمامًا، خصوصًا سعد اليابس، لكنهم متصلين تمامًا يوحدهم النغم الذي بدا أن ارواحهم تحلق خارج أبدانهم لتقبض عليه. يستمعون لما تقوله الخشبة كما كان الأفارقة يتفاهمون عبر القرى بالضرب على الطبول: تعني كل ضربة كلمة، وتقول كل نغمة جملة، متراقصة عبر الأثير.