الدفء لا يصيب أحداً

دعاء علي ۱۳/۰۸/۲۰۱۲

لو سمحْت. لو سمحْتي. لو سمحِتْ. عن واحد. تنتهي المعاملات ويعود الجميع للاستقرار في مقاعدهم. لا بأس الآن.

في أذني اليمنى صوت مؤذن سعودي على إذاعة فلسطينية، وفي اليسرى موسيقى بلون الخزامى يفترض أن تكون أنيقة كأوزة، لكنها تجرّعني نهراً من الرماد. إلى عينيّ يتسلل صمت الركاب، لكنني لا ألبث أقشّره إلى وشوشات حول ذلك الكم الهائل من الفلّين الذي يلف الحياة. تدور السيارة العمومية حول منعطف، فتميل عليّ صديقتي التي تشاركني سماعات الأذن، وأحس أنها تشاركني التحديق في الحائط الإسمنتي المعلّق في السماء، أيضاً. الشيخ السعودي يدعو بصوت متهدّج. صوته يبعد أكثر فأكثر، إلى أن يتفتت كمقاطع تنفجر من فقاعات خرجت من فم غريق. يخرج محمد عبده لينتشل الركاب من إحراج مللهم من الفقرة الدينية، فتعود الوشوشات إلى إيقاعها البطيء، وينحسر التوتر.

(الشَفِل) لا يكسر قلبي ولا يحوجني إلى يقظة لئيمة. من الخزامى إلى الكحليّ، وأشعر براحة فقيرة. أنا لا أظلم أحداً هنا. “لماذا تضعين السماعات كلما ركبت سيارة؟ الناس مهمون، دعاء. لا تستهيني بأشياء الناس“. أجل، الناس. الناس وقصصهم. أنا ودفتري. أنت ونصائحك التي تحفر ثقوباً في رأسي. لم آخذ بأي منها على كل حال، أنا وسماعاتي وأعطابي بنصطفل.

السائق يتوقف عند محطة محروقات ليسلّم أمانةإلى رجل يعمل هناك. هذا يعني التوقف لقرابة سبع ثوان في نقطة مرتفعة على الطريق من رام الله إلى بيرزيت. “سوبر ماركت حيفا، أقرأ، وفي الأفق أرى البحر الذي لن تغريه شوكولاتة الكون كله بالمجيء إلينا. وأشعر أن شيئاً ما في صوت عبده يشبه امتزاج الضوء المشمشي القادم من وجه البحر بالأضواء الحمراء والخضراء التي ترسم حيفا على لوحة بيضاء، ليجعل اللحظة مكتملة على نحو غريب.

ثم يفزّ رامي خليفة ليفسد كل شيء، وأوبّخ نفسي على حمل مجموعة أصوات كالتي يصنعها على ذاكرة هاتفي المحمول. لا مفر من التدخلّ اليدوي الآن. لن أعثر على ما أريد، أعرف ذلك. ما أريد، في تلك اللحظة بالذات، لم يعد موجوداً. ويمضي وقت كثير وأنا أنتظر شفقة الأرواح التي تسكن مشغّل الموسيقى لترمي لي عظمة غنائية توقف نزيف أعصابي. لكنها تفعل في النهاية.

أنا أسكن قريباً، أقرب من اللازم. وقريباً سوف أضطر للتحرك، وسأترك صديقتي لرحمة الإذاعات، بلا سماعة في أذنها اليمنى. لو أن الناي يأتي قبل أن أنزل، فتسمعه وتنبهر، وتستفسر مني عن اسم الفرقة، فأتلذذ، كما أفعل دائماً، بتقديم مصدر موسيقي جديد. هل لا زلت حقاً؟ أفرد الموسيقى الجيدةأمام الآخرين كما كانت زميلاتي في الصف الثالث يفعلن بملصقات باربي؟ أتلذذ.. ربما كانت كلمة كبيرة. أنا لا أجيد استخدام الكلمات الكبيرة.

الناس ينزلون من السيارات ويصعدون إليها، وسروات بيرزيت الكثيرة تراقبهم من علٍ، سروات شارع الخربة التي تتكسرليلاً وتفتح في السماء شقوقاً يقطر منها الحزن. لا أحد يفهم شيئاً يا عزيزي. الحلوات يحدّقن في النار أيضاً، والدفء لا يصيب أحداً.

وأنا يصيبني الوصول، فألتفت شمالاً لأشير إليها بأن تنزع السماعة، لكنها كانت قد نزعتها من قبل. سماعة واحدة تتدلى إلى جانبي، وناي لا يسمعه سواي، وسيارة تكمل الطريق كأن لم ينقصها أحد.

المزيـــد علــى معـــازف