.
تبدأ أسطوانة “أسلوب” الجديدة (ف/صل) بتصريح جريء. بعد مجرد ثوان من بدايتها، نسمع صوت فتاة صغيرة تعلن إعجابها قائلة: ’يا له من أسلوب رائع!.’ هذا تصريح من العيار الثقيل يتعرض له المستمع قبل أن يتبين له خير الاسطوانة من شرّها. ولا بد أن بداية كهذه كفيلة بوضع الكثيرين في وضع دفاعي، سرعان ما ينقلب هجومياً. ولكن أسلوب يسقط هذا التصريح بثقة وخفة ظل كفيلة بأن تجعل أنكد المستمعين وأعتاهم من أصحاب المنافس المحمضة حملا وديعاً مسالماً، لا بل سيجد نفسه موافقاً على حكم الطفلة، ذلك أن رأسه يهتز مع الإيقاع قبل أن تسنح له الفرصة بتكوين رأي.
هذه الثقة يبررها “أسلوب” مرّات عدة خلال الأسطوانة. سواءً كان الموضوع من ناحية جودة الإيقاعات نفسها، أو الرؤية المتكاملة للأسطوانة. “أسلوب” ينجح باستيعاب كل المتعاونين معه ضمن إطار رؤيته للعمل، وإن كان يبدو أن الأولويّة في الأسطوانة هي للإيقاع. يذكّرنا أسلوب هنا بـ RZA المنتج والعقل المدبّر الذي يعود له الفضل في صعود فريق Wu Tang Clan. “رزا” تمكّن من جمع هذا الفريق ذو المواهب الفذة والشخصيات الصعبة (أمثال أول ديرتي باسترد وميثود مان) وإبقائهم على نسق واحد ورؤية واحدة لسنوات خمسة، غيّروا فيها مشهد الراب الأمريكي إلى الأبد. وكما هو RZA في فريق الووتانج، نجد أن أسلوب يبني بنجاح اسطوانة تنسجم فيها بسلاسة العديد من المواهب. موضوع الأسطوانة ظاهريّاً يبقى هو أسلوب أسلوب، مما يمكن الأسطوانة من حمل ثيمات أعمق من دون إجهاد ومن دون أن تحاضر على المستمع، كما نجد في الكثير من أسطوانات الراب الأخرى. في أحد “الفصول“، كما تسمّى أجزاء هذه الأسطوانة، نسمع التالي: “آسف، كنت فقط أنوي التعرف على أسلوبك“. يستخدم أسلوب هذه وغيرها من عيّنات ذات صلة بثيمة الأسطوانة تفاجئ المستمع وتضفي جانباً مرحاً على عمل يعالج مواضيع جادّة.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”633″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
في الفصل 11، نجد أسلوب ومقدسي يتلاعبان بالكلمة والإيقاع بحنكة. يبدأ الفصل بمقطع راب يبدو عشوائيّاً حتى يدخل إيقاع أسلوب، ونكتشف أن الجمل في الواقع منظومة وإيقاعها مضبوط. تبيّن هذه الأغنية ارتباط الراب وعلاقته بالإيقاع، على عكس الشّعر الذي يعتمد على إيقاعه الداخلي. في نهاية العمل يتعاون أسلوب مع عازفة الناي نيسم جلال ليخلقا فصلاً من أفضل ما هو على الأسطوانة. هو لحن يبدو مألوفاً، ولكن الثنائي يعالجه هنا ببراعة، خالقاً منه ما هو أصلي وجديد.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”634″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
أسلوب قبض على شيء ثمين: وهو توظيفه للمخزون الثقافي من أغانٍ شعبيّة وبرامج تلفزيون وقصائد – ولقد رأينا تطبيقات ناجحة سابقة على هذا – وإعادة معالجتها بحيث تصبح جديدة وأصلية. بنى أسلوب أسطوانة كاملة وموحّدة من هذا المخزون الثقافي الذي تغوص تراكماته عميقاً في نفس المستمع، تذكرنا بما كان دارجاً في الثمانينيّات وأوائل التسعينيّات من الخطاب السياسي في وسائل الإعلام ومناهج التدريس قبل أوسلو. في هذه العيّنات، يغطي أسلوب مساحات شاسعة، فهو ينتقل من أم كلثوم في البداية إلى فيلم المخدوعون ثم أليس كولترين ومنها إلى مسلسات كرتونيّة مثل ساسوكي وصقور الأرض والرحّالة الصغير، ثم يعود إلى الشّعر العربي المعاصر وجيل إيفانز.
الألحان في هذا العمل تشد المستمع وتعيده إلى الأسطوانة مرات عديدة، ولكن القليل من الكلمات تعلق بالذاكرة. هل هذا نتيجة معترك الشكل والمعنى في الراب (كما في أي فن آخر)؟ إذا اعتبرنا – بتبسيط – أن الشكل يكون في الإيقاع، والمعنى يقع في الكلمة، يمكن أن نقول هذا. ولكن الثنائيّة هنا أعقد. الشكل ليس محصوراً في الإيقاع، كما المعنى لا يكون محصوراً في الكلمة. الشكل والمعنى لا يفترقان ويقع أحدهما في الآخر. من الممكن أن قدرة أسلوب على تأليف هذه الأسطوانة المتناسقة، رغم هذا العدد الكبير من المتعاونين، كان على حساب السطر الشعري في ف/صل بما يحمله من شكل ومعنى، وصبّ في جودة الإيقاع شكلاً ومعنى.
التجديد الثقافي والتغيير لا يأتيان من الخارج، ولا يأتيان من نسخ أشكال غربيّة عالميّة. أسلوب ورفاقه في كتيبة 5 يفهمون هذا جيداً. التجديد يأتي من الغوص في تراكمات الثقافة نفسها والبناء عليها، وإن كان هذا تحت تأثير أعمال عالميّة، ولكنّه لا ينسلخ أبداً عن محيطه ولا يتمايز عنه. لا بل يحتضنه ويتعمّق به، وبالتالي يكون أصليّاً ونزيهاً. في ف/صل، ينجح أسلوب بأن يمنحنا 23 دقيقة متواصلة من ألحان بنيت من الثقافة العالميّة وأشلاء ذاكرتنا الجماعيّة.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”635″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]