حلم العودة | رحلة تأصيل الراب السوداني
بحث | نقد | رأي

حلم العودة | رحلة تأصيل الراب السوداني

آية سماني ۰٤/۰۱/۲۰۲٤

في مثل هذا الوقت من أعوام سابقة، اكتظ فندق قراند هوليداي فيلا، توافدت الجماهير من كل حدب وصوب إلى أرض المعارض ببري. أغرق الزخم أنحاء العاصمة الخرطوم، أمدرمان، بحري. حفلات غير معلنة وتجمهرات مفاجئة، وفعاليات مخططة مسبقًا حصلت على ترخيصها أخيرًا. الجميع في استعداد تام و نشوة عارمة، بينما تنتظر عربات مكافحة الشغب في الخارج، تحديدًا عند بوابات المباني التي تقام فيها الفعالية. يبدو مثل عيد رسمي، لكن ليس للجميع، للمستمعين المخلصين وفناني الهيب هوب والمدوّنين المتلهفين لكل ما هو جديد.

كانت البداية باتفاق ضمني على أن يكون الربع الأخير من كل عام هو بمثابة موسم للراب. في مقابلة معه يحدثني عزّو، المدوّن الفني ومؤسس مجلة الرصة: “منذ أعوام ينتظر الفنانون هذا الموسم لإصدارتهم الجديدة، وبشكل عام فإن هذه الفترة هي ذروة الهيب هوب في السنة.”

يضيف بأن فكرة تخصيص يوم للراب السوداني أتت بشكل تشاركي، لا يمكن الجزم بمن أصدرها وكيف بالضبط حدث ذلك، وإنها قد استلهمت من رمز السودان: ٢٤٩، الذي يتطابق مع تاريخ الرابع والعشرين من سبتمبر. لكن يعود عزو ليوضح مجددًا أن الفكرة ليست حديثة تمامًا، فمجتمع الهيب هوب العالمي لطالما استخدم رمز المقاطعة أو المنطقة للإشارة إليها، وأخذ هذا التاريخ حيزًا من خطط الفنانين وبين توقعات المعجبين.

في هذا العام تحديدًا يتلاشى كل هذا الترقب وتستبدله الحرب في نفوس الجميع بذكريات مؤسفة، وأمله أن تعود الحياة للراب الذي لم يلبث أن ينعم بهامش الحرية الحديث. حتى هذه اللحظة لم يُعلن عن أي فعالية، حيث أن المدينة التي مثلت أساسًا لانطلاق الهيب هوب في السودان والتي لطالما احتفت بهذا اليوم أصبحت اليوم خاوية تمامًا، إلا من فارغ الرصاص وساحات القتال.

ماذا قبل ذلك؟

“ذات الكلام يتكرر، قلة أدب، صعلكة ومثل هذه الأوصاف” يقول المدون الفني ومؤسس مجموعة الراكوبة محمد المصطفى (SB)، الذي تمكن من توثيق عقد ونصف من الراب في السودان منذ عام ٢٠٠٨ حتى الآن. بحسب المصطفى انقسم الراب في بداية هذه الفترة لقسمين، الأول راب المنتديات الذي كان يشابه في طابعه الراب الخليجي كثيرًا ويصدر فيه الفنانون تراكاتهم بشكل فردي، والثاني الذي كان في شكل مجموعات خطت خطوات جادة في إقامة الحفلات وبناء قاعدة جماهيرية على أرض الواقع، من بينها نوسلانق، ذا سيركل، وأكثرها شهرة ناس جوطة.

واجه الراب عزلة طويلة، كان قوامه خلالها مجموعات رابرز أندرجراوند انحصرت أعمالهم و فعالياتهم في دوائر ضيقة لم تحظ بقبول كافي. تختلف أسباب هذه العزلة، كان أولها ظهوره في مطلع الألفينات بتأثر واضح بالراب الأفرو-أمريكي أو ثقافة الراب الخليجي، إذ كان أغلب فنانوه في ذلك الوقت إما سودانيون نشأوا في دول الخليج، أو ممن تعرفوا بطبيعة الحال على الراب في صورته الأفرو-أمريكية، لذلك لم يكن مستساغًا ليجتذب جمهورًا جديدًا ومتنوعًا. أما العامل الثاني فهو الرفض القاطع لهذا النوع من الفنون، مع الاتهامات التي لطالما لاحقت موسيقاه وكلماته، رفضٌ كان أشد بأسًا وأصعب من رحلة تأصيل الراب وتحولاته ليصبح فنًا يحمل السودان بداخله.

على مدار أعوام، كابد رابرز السودان لتقديم فن مستحدث، يصدر من قلب الطبقات المدينية واضعًا في الاعتبار المسافات بينها. عندما حظيت الرابر الراحلة رنا بدر الدين بفرصة أن تُستضاف ضمن برنامج تلفزيوني في قناة محلية، قدمت تراكًا تعبر فيه عن غنائها من أجل الحرية مستعرضة آراء الجميع السلبية حول الراب و نظرة المجتمع إليه. كان الراب يوحي بشفافية مبالغ فيها بالنسبة للجماعات المتحفظة، الأمر الذي دفع بها إلى محاولة توجيه الذوق العام والتضييق على مجتمع الراب استهجانًا ورفضًا قاطعًا. مثلت تهمة الاستلاب الثقافي والتهم المتسترة خلف “هذا ليس من ثوب السودان” أساسًا لذلك الرفض.

“يمكن القول إن تاريخ الشعوب التي لا تمتلك تاريخًا هو تاريخ الصراع ضد الدولة.” ~ بيار كلاستر في كتابه المجتمع ضد الدولة. 

لا يمكن الجزم بأي سنة دخل فن الهيب هوب السودان لاقتصار التسجيل على المؤسستين الحكوميتين، الإذاعة والتلفزيون السوداني، الذَين ادخرا من الجهد ما يكفي لضياع عدد من التسجيلات الفنية النادرة والتي لم تجر رقمنتها حتى الآن.

ما نعرفه أنه في مطلع التسعينات عمل المطرب السوداني يوسف الموصلي على إحدى أولى محاولات الراب في السودان، اغنية حبايبنا، وأصدرها عام ١٩٩٤؛ ثم تشكلت أول فرقة راب سودانية بورن ان بلاك في عام ١٩٩٦ وأصدرت ألبومها الأول هيستوري في ٢٠٠٤. في أواخر التسعينات راجت فرقة الهيلاهوب التي قدمت مختلف أنواع الفنون ولاقت اهتمامًا استثنائيًا لفترة طويلة، وطرقت باب الراب في أغنيتهم المصورة قروشي (١٩٩٩).

أما في مطلع الألفينات أخذ الراب طابعًا جديًا وأصدر نايل عام ٢٠٠٣ ما دايمة ليك. لم تلبث مجموعة ناس جوطة أن تصدرت المشهد بسبب قربها للمجتمع السوداني، ووضوح القضايا والرسائل المضمنة في تراكاتها، حتى أصدرت عام ٢٠٠٧ ناس حلتنا. يمكن القول بأنها حظيت بشعبية واسعة لإسهامها في تأصيل الراب وترجمة النزعة السودانية على التمرد وإحباطاتها في ظل الفقر والاستبداد. بالتزامن مع ناس جوطة انتشرت مجموعات غنائية اخرى، تمكنت من إقامة فعاليات في الجامعات والمساحات العامة، من بينها مجموعة بي فور كيه في الخرطوم، وراج لها في ٢٠١٣ تراك الركشة.

الراب والحراك الاجتماعي

في سياق اتصاله مع كل ما يدور من حوله، كانت الحراكات الشعبية والثورات جزء أساسي من عقد الراب الأخير، وأصبحت الأغاني تتصدر المواكب الشعبية وتشير لقضايا السودانيين الاجتماعية والسياسية وجعلت من المساحات العامة والجامعات منصة للراب الثوري، من بينها مجموعة ريزلوشن المتفرعة من مجموعة نوسلانج. مع الحراك الشعبي وانتفاضة ٢٠١٣ ضد النظام أصدرت ناس جوطة تراك لا للدكتاتورية. لاحقًا اندلعت ثورة ديسمبر ٢٠١٨ التي مثلت قفزة ملحوظة للراب. منذ ذلك الوقت بدأت التراكات الثورية القديمة في العودة إلى الساحة، وأصدر الرابرز تراكات جديدة تتماشى مع قضايا الثورة. على مدار الأعوام التي شهدتها الثورة من انتصارات و أحداث مأساوية، كان الراب حاضرًا ليصف تلك الأحداث و يصورها بين المعتقلات والمواكب الشعبية والبطش العسكري.

صدرت تراكات لامست وجدان الشعب السوداني في ذلك الوقت مثل سودان بدون كيزان، وعودة ناس جوطة بتراك تسقط بس، الذي كان شعار المرحلة، كما صوّر فليبتر قصة الفض الدموي لاعتصام القيادة العامة في ٣ يونيو ٢٠١٩ في أغنيته بلو.

في سياقه الثقافي والاجتماعي، استعرض الراب الثقافة السودانية، كما أبرزت اختلافات فناني الراب الإثنية والاجتماعية الخلفيات المتعددة للسودانيين. اضفى ذلك على الراب السوداني لمحة مميزة ضمن رحلة تأصيله التي امتدت لأعوام، تمظهر ذلك في تعاون مو رزيقي وريكسوس في أغنية أم قرون وأغنية علي نصر الدين وعصام ساتي، أبوي الشيخ

في سياق اليوم يقول عزو مؤسس مجلة الرصة إن الأزمة الحالية التي تلقي بظلالها على السودان، بما فيه القطاع الفني والراب السوداني، لن تمثل عائقًا كبيرًا أمام الرابرز. يضيف أنه بالتأكيد للحرب تداعياتها وتأثيرها على سير العمل، وقد تؤخرهم قليلًا، لكنهم في نهاية المطاف سيعودون بتراكات جديدة، وتتوجه في الأغلب لتروي المآسي التي يقاسيها السودان منذ اندلاع الحرب.

ذكر عزو التراكات الجديدة لسولجا، مثل أيام في يوليو السابق، بالإضافة إلى تراك الطيارة لـ دافن شي. كما يتوقع صدور أعمال جديدة مع دخول الربع الأخير من السنة.

من ولاية سنار، يثبت الرابر والمنتج صلاح الأمين (الموني) نظرية عزو. بعد أيام من محاولة الوصول إليه لأجري معه مقابلة، تفصلنا آلاف الكيلومترات وشبكة اتصال رديئة، تمكن موني من إرسال تسجيلات صوتية يخبرني فيها أنه أخيرًا تحصّل على اتصال جيد، ليعود بالذاكرة إلى ما قبل أبريل. وصف الموني تطور الراب السوداني وأخبرني أن الراب أصبح أكثر اتصالًا بواقع السودان، مختزنًا ثقافته وخلفياته المتعددة، وكان لجميع ما سبق أن يدفعه لتطوير عمله، متوجهًا الى الكتابة باللغة العربية بعد أن كان يكتب أغانيه بالإنجليزية لأعوام. ثم عاد ليتذكر في حديثه المشاريع التي اعتزم تنفيذها مطلع هذا العام، وترقبه لهذا التاريخ المميز على أن يصدر فيه عملًا مميزًا.

قبل أن يفعل، استيقظ الموني يومًا ما ليجد أن جميع الخطط أصبحت غير صالحة، واضطر لترك الخرطوم حيث ينتظر في مدينة سنار انجلاء الأزمة والعودة إلى الخرطوم واصفًا حلمه بالعودة بأنه مجرد حالة من النكران، وهذا ما ألهمه ليقف على قدميه و يبدأ العمل على مشروع جديد تمامًا.

يصف الموني في ألبومه الجديد دينايَل الحياة اليومية، والخيالات التي تراود سكان الخرطوم الذين اضطروا للرحيل، انطلاقًا من ساعة الصفر وحتى اللحظة التي يتمنى فيها الجميع – في حالة من النكران – حلم العودة مجددًا الى اللحظة التي سبقت كل هذا.

المزيـــد علــى معـــازف