.
في الأسابيع الأخيرة لعبت أغنية الراب دوراً محورياً في حركات الاحتجاج التي تشهدها بيروت. فخرج الراب من الدور السفلية لمسارح بيروت إلى ساحة رياض الصلح، أي على بعد بضعة أمتار من السراي الحكومي. ولكنّ الراب، واذ يفرض نفسه في ساحات الإحتجاج، فهو ليس بعيداً عن تراث شعري متجذر. فكما أشار فادي العبد الله، للراب ارتباط وثيق بتراث الزجل الشعبي مما يحدّ من حجة التشكيك به كنوع موسيقي متمثل بالغرب وطارئ على الثقافة العربية. ولكن العبدالله يرى أيضاً أنّ أغنية الراب في لبنان — كي لا نقول “اللبنانية” وننكر أثر الرابرز السوريين والفلسطينيين فيها– تعجز عن “بناء ذوق فني جديد، بل تنغمس إلى أقصى حد في مهمة “الفضح” وتوكيد الوجود القادمة من الأطراف (…) وتستنفد نفسها في هذا الانغماس، فلا يبقى منها الكثير.” فهل فعلاً يمكننا الجزم بأن أغنية الراب لا تشكّل ذائقة موسيقية مغايرة؟ وهل صحيح أنّ الإنغماس بالفضح يحدّها ولا يبقي منها الاّ القليل؟
من تابع موسيقى الراب في لبنان وخصوصاً في السنوات الخمس الماضية، يلاحظ أنّها لا تنشقّ عن الأغنية السياسية السائدة فحسب، بل تقوم بخلق جماليات سياسية جديدة عن طريق التناصّ، أو اقامة علاقة ظاهرة أو ضامرة مع نص اخر إن كان في البنية أو الأسلوب أو اللغة. فمن خلال تفاعل النص الأصلي مع النص الجديد يخرج نص ثالث بقولٍ سياسي جديد من جهة وذائقةٍ موسيقية جديدة من جهة أخرى. تحلل هذه المقالة آلية التناص في الراب وثنائية القول والفعل التي تنمّ عنه.
من البديهي أنّ في أغنية نحنا والزبل جيران (ناصر الدين الطفار والراس) ايماءً مباشراً لـ نحنا والقمر جيران للأخوين رحباني والتي أعاد زياد الرحباني توزيعها في ما بعد. لكنّ هذه ليست المرة الأولى التي يعود فيها الراس وناصر الدين الطفار إلى تراث الرحابنة أو إلى أعمال زياد تحديداً بقراءة نقدية مشهرين فيها تخطيهم لتراث زياد ووالديه معاً. فواكبت هذه الأغنية الجديدة حركات الاحتجاج على الأوضاع المعيشية التي شهدها لبنان في شهرَي آب وأيلول والتي قارع بها الراس وناصر الدين سياسة الاستتباع والفساد التي ينتهجها النظام اللبناني. فعوضاً عن قمر الرحابنة المثير لفانتازيا غريبة عن المعاش، يبرز الزبل، أي براز الحيوانات، في العنوان كرديف للطبقة السياسية الحاكمة. يستهلّ الراس الأغنية بالعودة إلى قول السلطة في “عروف مع مين تحكي” وهي عبارة شهيرة لوزير الداخلية نهاد المشنوق ردّ بها على مواطن تجرّأ على مواجهته في الشارع. فمن خلال استملاكه لعبارة الوزير إنّما يستولي الراس أيضاً على مكمن السلطة وتحديداً على قدرتها على ممارسة عنفها في القول والترهيب والأبوية. وعليه، يخرّب الراس تراتبية السلطة ليس لاستبدال المواقع والحؤول مكانها بل لتفكيك السلطة وإعادة توزيعها. فتجاه ذات الوزير المتضخمة تبرز ذات المجموعة أي الـ “نحن” التي أعطيت صوتاً تحديداً من خلال الاستيلاء على قول السلطة. ولكن الراس ما يلبث أن يقارع كل ركائز هذه السلطة حتى يسهل عليه نسفها في ما بعد. فالسيجار الملازم للمشنوق، وإذ يدل على سلطة جائرة وذكورة مفرطة ومال فائض، يتحول عرضة للسطو أيضاً. ففي لحظة تحدٍ برزت خصوصاً عندما نظر الراس إلى الكاميرا قائلاً “سيجارك بدنا ندخّنه” ظهرت سطوته الشعرية على فيض السلطة والذكورية التي استملكها ليعيد توزيعها. فالتناص هنا مقارعة واستيلاء وإعادة توزيع.
وفي تناصّ الراب أيضاً محاكاة لمخزون الشعر السياسي والأغنية الملتزمة معاً. العودة إلى البداية: فعقب الاجتياح الاسرائيلي لبيروت وتشتت المقاومة الفلسطينية جاءت قصيدتا محمود درويش مديح الظلّ العالي (١٩٨٣) وبيروت (١٩٨٤) كنصين تتصارع فيهما وعليهما كل التباسات المرحلة. فتجلّت بيروت في القصيدتين مسرحاً لبطولات الفدائيين تارةً وموتاً وعنفاً وهزيمةً تارةً أخرى ولكنها ظلت سقفاً آمناً حمى الفلسطينيين من بطش الأعداء والأصدقاء معاً. فكانت بيروت درويش “شكلُ الروح في المرآة” و”شكل الظلِّ” وكانت “السورة” و”الصورة”. وتتشارك القصيدتان في إعادة المذهب الذي لا يفارق الذاكرة: “بيروتُ خيمتُنا…بيروتُ نَجْمتُنا”. بعد ثلاثين عاماً على هاتين القصيدتين وعلى عقب كل الحروب التي شهدتها المدينة، تعود بيروت في أغنية بيروت خنقتنا (وتر وناصر الدين الطفار). تبدو بيروت اليوم ليس كحيز يتزاوج فيه الحب والعنف، بل كمدينة انتصر عليها الظلم واستفرد بأهلها. فالرابر السوري وتر يرسم صورة مغايرة تماماً لبيروت التي احبها درويش. فالمدينة التي يعرفها وتر ما عادت موئلاً للشعراء المتشردين وخصوصاً إن كانوا سوريين، بل هي سجن صغير ومنصة للعنصريين وزاوية للموت البطيء تتمنّع عن الذين يعيشون فيها ويحبونها. يقول وتر وناصرالدين:
قد ما تحبّها لبيروت
بعدها بتكرهك
قد ما تركض ببيروت
بعدك مطرحك
لبيروت محمود درويش حصة أخرى في بيروت خيبتنا (الراس وناصر الدين الطفار) تظهر في إيماء آخر إلى محمود درويش. فإلى بيروت يذهب الهامش ليندثر، أي في بيروت تطوف مدينتا العنف والنسيان طرابلس وبعلبك حتى المحو، واذا بلهجة الراس الطرابلسية وناصرالدين البعلبكية تبرز الاطراف مقارعةً لهجة المتن والمركز. فبيروت إذاً هي المدينة التي ترحّل الأحلام والبطولات عبر سياسات الإفقار ولكنها تستعيد حياتها فقط من خلال عودة الهامش إليها:
من العين اللي ببعلبك
للقلب اللي بطرابلس
جينا بوج كل زعيم
كل نصاب لصّ
“بيروت خيمتنا”
قالوا الموهومين
“بيروت خيبتنا”
الراس وناصر الدين
بيروت وتر وناصر الدين والراس ليست إذاً بيروت محمود درويش، فلماذا الإشارة إليه؟ الانغماس في إبراز الهامش هنا لا ينهي القول بل يطوره ويسيّسه عبر التطرق إلى تركة الشعر السياسي والأغنية الملتزمة. واستعادة محمود درويش هنا قد لا تأتي في سياق رفض تركته السياسية والشعرية ومحوها بل للإشارة إلى تحول قد طرأ على مدلولات قصيدته حيث تحولت بيروت”الخيمة” إلى بيروت “الخيبة”. فعبر الإشارة إلى تغيّر المدلولات يعيد الرابرز قراءة تركة درويش “الموهوم” وتصويبها نحو الداخل، أي إلى ماهية المدينة التي تلفظ ولا تحب وتهمل ولا توئل. فلا خيمةٌ هي ولا نجمة. لكنّ الإيماء لا يطال الشاعر فحسب بل كل من غنى له. فالمستوى الثاني للنقد يطال “موهومين” آخرين تغنّوا ببيروت وغنوا قصائد درويش كسميح شقير ومارسيل خليفة في أغنية بيروت وخالد الهبر في أغنية مديح الظل العالي. وهنا يبرز مستوى ثالث للنقد الذي يصل إلى مخزون الأغنية الملتزمة السائدة التي اوهِمت بحب بيروت وخذلت من سكن في هامشها مطروداً مطموراً. وفيما تنقد أغنية الراب مفهوم الالتزام السائد فإنّها لا تتخلى عن مفهوم الإلتزام بل تحدده بما يليق بواقعها السياسي. فتوجه أنظارها مرة أخرى إلى الشارع وتحديداً إلى الثورة السورية معيدة الصوت لمن كان قد فقده. فأغنية جنة (الراس والفرعي) تحيي جمالية الهتاف، تحديداً عبر صوت عبد الباسط الساروت وهو يهتف “جنة جنة جنة…تسلم يا وطننا”. فمن خلال استعادة الساروت تعيد الأغنية الاعتبار إلى الهتافات السورية الاولى متمسكة بلحظة الاحتجاج الأولى. أغنية الراب، واذ تراجع تراث الأغنية السياسية وتعيد الاعتبار للسياسة في هتافات الثورة السورية، فانها تحدد ذائقة موسيقية جديدة لا تخاف من مقارعة الماضي أو تخشى سماع الشارع أو ترتقي عن الحق وإن لم يكن ثمة إجماع حوله.
وعبر التناص يعود بنا الراب إلى عوالم أخرى، لها أن تكون على تضادّ ولكنها لا تلبث أن تلتقي. فتبدأ أغنية ث (الراس) بحديث منسوب إلى الحلاج يعرب فيه عن يقينه ولكن أيضاً عن خيبته من تسرعه بالفرح “أتحفت بالكشف اليقين … غير أني تعجلت الفرح”. وتمثل العودة للحلاج بحثاً عن عمقٍ صوفيّ متمرد حذر يواجهه الراس بالقفز بنا إلى المستقبل وتحديداً إلى جذور شعرية تستمدّ طاقتها وتمردها من الغرب. ولكن عن أي غرب نتكلم هنا؟ تسترجع الأغنية المخزون الموسيقي والسياسي الذي شكل محوراً أساسياً في مقارعة سياسة التمييز والقمع التي لا يزال يتعرض لها السود في أميركا. فإذ يستهل الراس الأغنية بصوت رجل أمريكي يتلو قول اليقين الذي شغل هامليت: “أما أن نكون أو لا نكون هذا هو السؤال”، سرعان ما نعرف انّ صوت الخطيب هذا ليس إلا مالكوم إكس وهو يخطب في مناظرة في جامعة اوكسفورد عام ١٩٦٤ عن أهمية العنف في مقاومة منظومة القمع. ففيما كان مالكوم إكس يتكلم كانت حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينج تطمح لإلغاء نظام الفصل العنصري وإيصال السود إلى صناديق الاقتراع بطريقة سلمية. إلا انّ مالكوم أكس وغيره (المغنية نينا سيمون مثالاً) اعتبروا أن حق الاقتراع جدارٌ يضاف إلى جدران الاحتواء الأميركي الذي، وإن أزاح عار الفصل العرقي، فهو لن يحمي السود من عنف السلطة المتمثل بسياسة الإفقار والقمع الأمني أو”إخصاء الرجل الأسود” بحسب تعبير مالكوم أكس. فتجاه سياسة الاحتواء والتدجين هذه، يدعو مالكوم أكس في أغنية الراس السود والبيض والسمر وكل أعراق الأرض أن يجابهوا العنف بـ”تطرّف ذكي الأهداف” Intelligently directed extremism وهو الحق في الدفاع عن النفس ومواجهة عنف السلطة بعنف مقابل. يغازل مالكوم اكس انجليز جامعة اوكسفرد عبر الرجوع إلى مسرحية هامليت لشيكسبير التي لطالما اعتبرت خارج السياسة، لكنه يرجع اليها للاشتباك معها. ويخرج صوت مالكوم أكس في الأغنية قائلاً:
“Whether it was nobler in the mind of man to suffer the slings and arrows of outrageous fortune”—moderation—or “to take up arms against a sea of troubles and by opposing end them.” And I go for that. If you take up arms, you’ll end it, but if you sit around and wait for the one who’s in power to make up his mind that he should end it, you’ll be waiting a long time.
فالتناص هنا متجذر في ملتقى تراثين ثوريين أو أكثر. إذ ينجح الراس بلقاء الحلاج بمالكوم أكس في تحقيق انتصارات عدة. فهو يعود إلى الماضي، إلى التمرد الصوفي من جهة وإلى مقاومة الفصل العنصري الأمريكي من جهة أخرى معيداً بذلك الصوت إلى مالكوم أكس وراديكاليته التي ُطمرت على حساب خطاب يسوده التسوية والاحتواء. في استرجاع مالكوم أكس لهامليت في جامعة اوكسفرد تسييس جليّ لتراث شايكسبير والإشارة إلى التواطؤ الاوروبي في قضايا حركات التحرر العالمية حرب استقلال الجزائر وحركة التحرر الفلسطينية مثلاً. فالتناص المتشعّب الذي تتضمنه الأغنية يطوي رواية هامليت في رواية السود في الستينيات ليتصل أخيراً بواقع عربي في أمسّ الحاجة إلى إعادة تعريف مفهومي المقاومة والعنف. فإذا كان مالكوم اكس يسيّس شيكسبير فإن الراس يعرّب مالكوم إكس أو يجعل مقاومته ودعوته للعنف الثوري شأناً عربياً أي صورةً حيةً لنضالٍ حقّ لا يتباهى بالسلمية بل يلفظها في معركة الحفاظ على نفسه.
تبرز جماليات الراب في التناص الشعري والإيماء السياسي تحديداً، متجاوزة فعل الفضح لتشكل قولاً وفعلاً. في دخول مالكوم إكس إلى أغنية الراب تنظُم أغنية الراب جمالية الانشقاق عن التراث الشعري السياسي السائد وتجابه السلطة في مكامن قوتها. ومن خلال الرجوع إلى حركات ثورية عربية وعرقية تخرج الأغنية السياسية من الخصوصية العربية أي تجعلها على ارتباط خطابي وفعلي بخطابات ثورية موازية لا تقل تسييساً عما سبقها بل تخرجه من سباته. هكذا يشكل الراب في لبنان خطاباً موسيقياً جديداً يقارع فيه الماضي ويستدعي إلى حاضره عوالم سياسية مغيبة خالقا ذائقة موسيقية جديدة سوف تعيد تحديد معنى الإلتزام السياسي والموسيقي معاً.