.
“تنطق كل معرفة بلسانها في الموارد، وتنطق المعارف جمعاً بلسان واحد من المصادر” – النفري.
يبدو للوهلة الأولى طرح العلاقة بين النص القرآني وما يسمى بـالراب العربي سبباً للاستهجان في نظر الكثيرين، لانتماء الموضوعين إلى سياقين حضاريين وثقافيين متباعدين ظاهريّاً في الزمان والمكان. لكنّ المنحى الذي يتخذه الراب العربي لنفسه يجعل صفة “العربي” مقدّمة على صفة “الراب“، لا بأي تعريف شمولي مؤدلج لـ العروبة، بل بالإشارة إلى فرادة التقاء مظلة الراب بالمساحة العربيّة النطق والسماع.
انطلاقاً من هذه الولادة التي انعكست سريعاً على التفاعل العربي العام مع الراب، أصبحت ضرورة البحث في العلاقة بين النص المؤسس للخصوصيّة العربيّة اللغويّة والثقافيّة ونص الراب العربي بديهيةً، لما يتضمنه الأخير من انقلاب على السائد الأدبي والسلطوي.
يمكننا أن نبدأ تلمّس الخيوط الرابطة بين النص القرآني والنص في الراب العربي في إطار الموضوعات المتنوعة – مع ثقل أكبر لقضايا الشأن العام، أو الإيقاع وتنوعاته، والأنماط الإنشائية وتقلباتها، والنفس الوعظي والخطابي.
إلا أنّ نقطة الالتقاء الأهمّ تبدو في الموقع الذي يتخذه النصان من السائد الأدبيّ كلٌ في المحيط الذي نشأ داخله، حيث يشكلان ما أسميه انقلابية لغويةً، تحتفظ بهامش حرية واسع في استخدامها لأدوات أشكال أدبية أخرى وفي استجلابها موارد ثقافيّة ومعرفيّة من مصادر عديدة إلى سياق اللغة العربيّة، وبالتالي إلى السياق الثقافي للمساحة العربيّة.
لذلك، وقبل الدخول في حيثيات هذا التقاطع حول محور الانقلابية اللغويّة، حريّ بنا أن نحدّد الأرضية التي سنتعامل انطلاقاً منها مع النص القرآني من دون التعثّر في الازدواجيّة الشائعة بين التقديس والتدنيس، كي نتمكن من استنباط الخصائص النصيّة والتاريخية للقرآن من دون القفز فوق دلالاته الميتافيزيقية التي إن فقدنا التواصل معها جرّدنا لغة القرآن من خصوصيتها ومحرّكاتها شكلاً ومضموناً كما سنبيّن لاحقاً.
نطرح إذن السؤال التالي: هل يمكننا مقاربة النص القرآني كنتاج بشري دون الاصطدام بحائط القداسة والتنزيل؟ هل يمكننا تحليل النص وتفكيكه كما نفعل مع أي نصّ لا ينتمي إلى دائرة الديانة، دون أن نفقد بعداً أساسيّاً في قراءته؟
للإجابة علينا أن ننظر لفعل الإنتاج اللغوي بعيون الظروف الأصلية لولادة النص القرآني، فهل من المنطقي أن نقارب النص القرآني على أساس العلاقة الجمعيّة القائمة اليوم مع اللغة في عصر غوغل Google والتطبيقات والهواتف الذكية؟ أليست قداسة القرآن وخصوصية الوحي مرتبطةً ارتباطاً حثيثاً بندرة الفعل اللغوي في زمان ولادته؟
التسليم النهائي بأنّ محمداً بن عبد الله هو كاتب النص القرآني لا يتناقض البتّة مع معاني النبوة والتنزيل والوحي، بشرط الإقرار بامتياز الكتابة/ القراءة المحمديّة عن سائر الكتابات البشريّة الأخرى. تماماً كانعدام التناقض بين التسيير والتخيير، بين العقيدة الدينيّة بأنّ الموجودات بكليتها تجليات للإرادة الإلهية من جهة، والواقعية الدينية في أنّ الفعل البشري حرية المخلوق وقابلٌ للتقييم والحكم من جهة أخرى.
لا تناقض بين استحقاق محمد للنبوة واصطفائه من قبل الربّ، بل إن كون النص القرآني نفسه –وحتى تسميته – يصف فعل الوحي المحمدي بفعل “القراءة” يحيل مباشرةً إلى ما نسميه اليوم فعل “الكتابة“، بفارق البيئة العقائديّة الجمعيّة التي تعيد كلّ امتياز إلى اختيار القوى العليا. يبقى إذن أن نفهم عناصر هذا الامتياز، التي تشكل في هذه القراءة الحامل الأساسي للعامل الديني النبوي. هكذا يبدو لنا السؤال البحثي حول خصوصيّة النص القرآني متماهياً مع الشرط الديني بامتياز الكتابة/ القراءة المحمديّة.
لنفهم هذا الامتياز نبدأ من تعريف النص القرآني له، أفقيّاً بالنسبة إلى صنّاع اللغة الآخرين، أي الشعراء – بشكل شبه حصري حسب فهمنا المبدئي للآليّة الثقافيّة في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام. إذ يميّز النصّ القرآني نفسه عن نصوص الشعراء بطريقة محملة بالمعاني: “والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون“ الآيات ٢٢٤:٢٢٦ من سورة الشعراء. فهو يلوم الشعراء أشخاصهم على افتقادهم للثبات من جهة وللتناغم بين القول والفعل من جهة أخرى. فقيمتا التميّز اللتان تبرزان هنا هما إذن أخلاقيّات الشخص الكاتب/ القارئ في المجال العام، والتماسك الداخلي للطرح. وهاتان قيمتان تؤسسان لانتقال فعل الكتابة من الهاجس الفردي الفنّي أو المهني إلى هاجس التأثير الجماعي المزمن، أي إلى النبوة.
لكنّ امتياز النصّ القرآني أفقيّاً لا يكتمل إلّا إذا امتاز بشكله أيضاً. وهنا تتجلى لنا بديهيةً خصوصيّة النص القرآني من ناحية اختزاله لأشكال أدبيّة عديدة كالشعر والسجع، حريّته في استخدام القافية حيناً والاستغناء عنها حيناً آخر، حريّته في التنويع الايقاعي بين السور وداخل كلّ سورة، حريته في الانتقال من السرد القصصي إلى الوعظ إلى التعويذة.
أما تميّز النص القرآني في موضوعه فلا ينفصل عن المسألة الأشمل حول تميّزه في وحدته، أي في أنّه يشكّل كتلة نصيةً كتبها/ قرأها فردٌ أوحد وتكبر مثيلاتها حجماً على وحدتها، بعكس النص التوراتي مثلاً الذي كتبت أجزاؤه على مراحل تاريخيّة متباعدة زمنياً من أشخاص مختلفين من دون نيّة مسبقة في تشكيل وحدة نصيّة. ما أسميناه تميزاً للقرآن في وحدته يحيلنا طبيعيّاً إلى سعة مساحة المواضيع التي يغطيها والأنماط النصيّة التي يتنقل بينها باتصال، ويوجهنا أيضاً نحو امتيازه العمودي أي مقارنةً بالنصوص النبويّة الأخرى التي عرفها الإقليم.
هل نقول إذن أن امتياز النص القرآني مقرونٌ حصراً بامتياز كاتبه/ قارئه في شخصه وفي انتاجه النصيّ، أم أنّ اللغة ذاتها تتخذ صفةً الامتياز هذه، وبالتالي صفات القداسة والتنزيل؟
فرض هذا السؤال نفسه، لأننا إذا سلمنا بأنّ خصوصيّة النص القرآني محصورة بالخصوصيّة النبويّة المحمديّة، سنصطدم بهذا الحائط العقائدي الفردي، أي سينغلق النقاش حول الموقف من الشخصيّة النبويّة بذاتها وسيطبع ذلك قراءتنا النص. أمّا إذا استطعنا إظهار أنّ خصوصية النص القرآني تحيل مباشرةً إلى قدسيّة اللغة بذاتها ولذاتها، فسنتمكن عندها من إضافة أبعاد جديدة إلى قراءتنا، وسنتمكن من تصوّر أرضيّة قرآنيّة تخوّلنا الربط مع الأشكال المعاصرة للإنشاء اللغوي.
قد يكون من الملفت أن يحمل النص القرآني في سورة الشعراء نفسها، وقبل آيات قليلة من الآيات التي ذكرناها مسبقاً حول الشعراء، إشارات واضحة إلى امتزاج الحقيقة التي يعبّر عنها محمد بخصوصيات اللسان العربي القرآني “لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ“ الآيتان ١٩٨ و١٩٩ من سورة الشعراء. وفيما تقدّم الدعوة المحمديّة نفسها عالميةً موجهةً لسائر البشر، إلا أنّ صلاتها، أي شعيرة الصلة الأكثر حميميّة وتجرّداً بين الفرد وهذه الحقيقة بصيغتها المحمديّة، لا تكون إلا باللسان العربي القرآني.
لكن الإشارة الأوضح إلى قدسيّة اللغة بذاتها ولذاتها تكمن في الأحرف المقتطعة التي تبدأ بها بعض السور القرآنية (آلم، حم، كهيعص، ق، وغيرها). فحتى من دون أن نخوض في تأويلات هذه الأحرف، وهو مضمار أرعب المفسرين تاريخيّاً إلا بعض أهل التصوّف، يمكننا أن نستخلص منطقياً من مجرد وجودها أنها تمتلك قيمة بذاتها دون انتمائها إلى الكلمة. أي أن المكونات الجزئيّة للغة تمتلك قيمةً سابقةً لقيمة السياق الكلمي أو الجملي أو النصي، ما يرادف تماماً ما أردنا إظهاره من أن خصوصية النص القرآني تحيل إلى قدسيّة سابقة تمتلكها اللغة العربيّة.
انطلاقاً من الأعمال المطروحة، يمكننا أن نعرّف الراب العربي بأنه الإنتاج الفنّي الذي يتكوّن من عنصر موسيقي ذو إيقاعيّة متكرّرة، وعنصر نصّي باللغة العربية (فصحى أو محكيّةً) يغنّى إيقاعيّاً من دون تلحين نغميّ، بشكل متناسق في الوزن مع العنصر الموسيقي.
أولاً، تعمّدت ألا أحدّد في تعريفي طبيعةً معيّنة للعنصر الموسيقي غير الإيقاع المتكرر، فالأعمال المتوافرة للاستماع اليوم تتراوح بين أشكال وأنماط متعدّدة ومتباعدة: الفرعي (فلسطين– الأردن) وقيثارته المتمازجة بتنويعات نغميّة تحيل إلى ألحان البادية وألوان البلوز، أرمادا بيزرتا (تونس) وتأليفاتهم على النمط الأفرو–أميركي إيقاعيّاً وباستخدام الـsampling استخراج جمل موسيقيّة من تسجيلات أرشيفيّة، أسلوب (فلسطين– لبنان) الذي يمزج بين العزف الحيّ والايقاع الأفرو–أميركي والاستخراج من التسجيلات الشرقيّة، أبيوسف (مصر) وما ينتجه على نمط التراب والـ تك بوب techpop، وغيرهم كثر لا تقلّ تأليفاتهم الموسيقية خصوصيةً وتميّزاً.
ثانياً، وفي إطار العنصر النصّي، فقد استثنيت من تعريفي ما هو في لغة غير العربيّة، رغم وجود عددٍ من المؤدين العرب (في الداخل أو في أوروبا وأميركا) بلغات أخرى كالإنجليزيّة أو الفرنسيّة. خيار الاستثناء هذا نابعٌ من أنّنا نعرّف الراب العربي على أساسٍ فنّي لنتمكن لاحقاً من قراءته بعينٍ ثقافيّة وفكريّةٍ أو حتى سياسيّة، وبذلك نحدّد الراب العربي على أساس أدواته وعناصره، لا على أساس أشخاص مؤديه أو موضوعات محتواه.
في السياق النصّي أيضاً، أفترض في تعريفي غناءً إيقاعيّاً متّسقاً مع العنصر الموسيقي، وذلك لأميّز بين استخدام هذا العنصر كمجرد خلفيّة لإلقاء مسجّل، وبين ما نحن بصدد دراسته. خاصةً، أن تجارب كثيرة بدأت تنشأ في مجال استخدام الموسيقى كخلفيّة وتتقارب مع ما يسمى بالـ spoken word أو الـ slam، مثل علي طالباب (مصر) في بعض أعماله، ومشاركات أخيرة للمؤلف الموسيقي اللبناني مونما مع مؤدين تونسيين للشعر العامّي.
ونقول “غناءً إيقاعيّاً من دون تلحين نغمي“، في إشارة إلى خاصيّة احتلال الراب العربي لمساحة بين الكلام العادي والغناء، فهو لا يؤدّى بجمل نغميّة مغنّاة بل بإيقاعيّة تسمّى الـ flow (التدفق)، تتزاوج مع الوزن الأساسي للعنصر الموسيقي كما تلتقي آلتان إيقاعيّتان في التطابق والتنويع والتكامل.
الآن وقد بينّا موارد الخصوصيّة في النص القرآني، أصبح باستطاعتنا أن نرى شبكة العلاقة الممكنة بين هذا النص ومثيله في الراب العربي على ثلاثة مستويات: الشخص، استخدامه للسياق اللغوي ومن ثمّ اللغة القائمة الخصوصيّة بنفسها.
أولاً، يحتوي فعل الراب نفسه على مكوّنات أساسيّة من فعل “النبوة“. فيقدم مؤدّي الراب بديهيّاً على امتشاق الميكروفون أمام جمع من البشر ليقول ما يشاء، مدّعياً أحقية استغلاله للمجال الصوتي العام، مفترضاً أن الكلمات التي يتلفظ بها على طريقته ستحدث مفعولاً. طبعاً، ليس مؤدي الراب وحده في هذه الصفة، لكنه يتميّز عن الشاعر أو المطرب مثلاً بارتباط نصه بموسيقى إيقاعيّة ذات صفات غالباً ما تحيل إلى الضغط المديني، وبطريقة الأداء الخطابيّة المنحى، إضافةً إلى تجاهل الحياء الأدبي التقليدي إزاء الـ أنا.
ففي نموذج عن هذا المكوّن، يقول الفرعي في أغنية شو بدك؟ التي تشكّل نوعاً من لائحة الوجهات التي يدعو إليها المؤدي الكاتب: “نفسي أزيد البلاغة والتشبيهات بشعري والأغاني، بس اللي عم يصير بزماني ما بيشبه أي إشي تاني. نفسي ترقصكم المشاعر السلبية اللي في هذا الراب، وتفهموا إنه اللي بيغني عن الحياة الكريمة كذّاب“.
في المقابل، لا يحمل مؤدّي الراب وزر النبوة الأخلاقي، فهو لا يدّعي النموذج والقيادة، لكنه لن يستطيع، إنسانيّاً، الفرار من الاتهام الذي يطلقه النص القرآني حول القول المتناقض مع الفعل وانعدام التماسك الداخلي، منذ اللحظة التي يعي فيها وصول بيانه إلى المجال العام. هنا، تتنوّع المخارج الممكنة بين قطبين: جعل النص ملازماً لبحث داخلي صادق خاضع للاختبار والتصحيح ومرتبط بالفعل، أو إبعاده قدر الإمكان في الموضوع عن كلّ ما يرتبط بالفعل وبشكل خاص الأفعال التي تتخذ المجال العام مساحةً لها.
هذان القطبان ينعكسان على باقي مستويات العلاقة بين النص في الراب العربي والنص القرآني. فمن حيث استخدامات اللغة شكلاً وموضوعاً، نرى في الحالة الأولى تقاطعات كثيرة مع النص القرآني نذكر أبرزها:
• التنقّل بين الوعظ والسرد والتشبيه والجمل المكثّفة ذات الطابع الشعاري.
• التنويع في المواضيع من دون خسارة وحدة النص.
• التركيز على البعد المعرفي.
• الأسلوب النقدي.
أما في الحالة الثانية فنجد أنماطاً نسميها لا– قرآنيّة:
• الاستهزاء.
• التقليل من أهمية الموضوع في النص، وعدم الاكتراث لوحدته.
• التركيز على التشبيهات بأنواعها.
• تقدّم المنحى التنافسي.
• التركيز على التقنية الإيقاعيّة كأولويّة.
وبوسعنا أن نفهم التمييز بين القطبين في العلاقة مع النص القرآني بشكل أكبر إذا أوضحنا المعادلة التالية: كاتب النص الفنّي العربي الذي يعتبر كتابته مجالاً لإحداث التأثير الاجتماعي أبعد من السياق الفنّي، يضع نفسه مباشرةً في نقطة البداية نفسها التي يتخذها الكاتب/ القارئ المحمدي لنفسه. ليس من جهة المنتج اللغوي فحسب، بل من جهة “الوحي” العفوي أيضاً.
لأن اندراج هذا الكاتب لـ الراب العربي ضمن السياق الفني، يعني أن انبثاق نصّه يتبع آليّة التجلي الفنيّة، لا آليّة المقال المبني بشكل عقلاني. ومن هذا التوتر بين التجلي الفنّي وإرادة الارتباط بالمجال العام خارج السياق الفني البحت، ينبثق النص في الراب العربي بمكوناته المتعايشة ضمن وحدة النمط، فيجد نفسه أمام حتمية اختراق السياقين الأدبي والفكري القائمين قبله، ليتجاوز في نفسه التوتر السابق الذكر بين عفويته وليدة واقعه المباشر وعقلانيته وليدة موروثاته الفكريّة.
أما في الحالة الثانية التي أسميناها لا– قرآنيّة، أي مثلاً في الراب العربي المشحون بالسخرية والأقرب إلى كونه راب كوميدي بالمعنى الفني، فيقوم التوتر الخلّاق بين العفوية الفردية البحتة، وضوابط الإبداع في التقنية الفنيّة. مما يقرّب مؤدي هذا النوع اللا– قرآني من الشعراء بالمعنى المتعارف عليه.
لكن من المثير للاهتمام أن هذه المعادلة الإبداعيّة تصبّ أيضاً في سياق ما أسميناه الاختراق، لأنها لتمسكها العميق هذا بفرديتها – بل ربما بأنانيتها، كما لاستجلابها ضوابط تقنية من خارج السياق الثقافي المحلي المألوف، تخترق ركود السائد لتضطرّ شخص المؤلف نفسه إلى إعادة النظر في علاقة الفرد بالجماعة وعلاقة حاضره بموروثاته. فيقول أبيوسف في سلبي التي حققت له انتشاراً واسعاً بين المستمعين: “بايع القضية ماضي العقد باسم تاني“، ويضيف “الواقع لمبة بحرقها وبقعد في ظلمة الوهم“.
ونصل بذلك طبيعياً إلى المستوى الثالث في قراءة العلاقة بين النصين، وهو مستوى اللغة بذاتها الخصوصيّة. أي أنّ هذا الاختراق الحتمي الذي يسعى النص في الراب العربي إلى تحقيقه، يعني إعادة استملاك الغة، وإعادة تعريف سياقاتها وأدواتها. لكن الاهم أنه يعني استرداد السلطة اللغويّة، هذه السلطة نفسها التي يتخذها النص القرآني لنفسه بتقديمه اللسان القرآني موضوعاً مستقلاً للقداسة أي للمرجعيّة، في مواجهة السلطات الخارجيّة المتمددة والسلطات الداخلية المجتمعيّة السائدة.
هي نفسها السلطة اللغويّة التي تسعى المنظومة الحاكمة إلى احتكارها، لارتباطها المباشر بشكل الوعي الجماعي. أي اختراق لهذا الاحتكار هو تهديد لشبكة المفاهيم التي تستند عليها هذه المنظومة لضبط الوعي الجماعي وتأطيره. من هنا تأتي الثورية اللغوية للنص القرآني، ومعها ثورية النص في الراب العربي. من هنا أيضاً، تأتي رغبة لدى الراب العربي في إعادة تملّك كامل الموروث النصي الإسلامي الذي تحول بذاته، على أساس التأويل السلطوي الفوقي، إلى احتكار بيد المنظومة الحاكمة.
في أغنية قبل وبعل من اسطوانته الأخيرة بعنوان حيوان ناطق، يقول مقاطعة في إشارة واضحة إلى النزعة الانقلابيّة على المعادلة اللغويّة القائمة في أحد أبعادها: “مجتمعات بليدة. ما فهموا علينا فكتبناها بشكل قصيدة. نمو بدون تنمية غريبة. بدك تحرر الأرض ومش عارف تحرر جريدة“.
ويتمرّد هاني السوّاح على السلطةَ اللغوية القائمة، في أغنية تداعي حر قائلاً: “مختلف معك عالفحوى فما رح ناقش بالتحريف، فيما يشتبك هيكل مباشرةً مع السياق المعاصر للنص القرآني مستنكراً في أغنية مقطع عناوين: “طلى الآية بالذهب ووشمها معنوياً“.
تمكنّا إذن بعد تعريف “الراب العربي” وتحديد خصوصيات النص القرآني، من التعرّف على التقاطعات القائمة بينهما على مستويات متعددة. ولكن هل بإمكاننا أن نبيّن رابطاً تسلسليّاً وراثيّاً مباشراً بينهما؟
شكّل النصّ القرآني قبل ١٤ قرناً عموداً فقريّاً لانقلاب شامل في خريطة السلطة الإقليميّة ومن ثم العالميّة، فتحوّل النص القرآني إلى دعامة أساسيّة لكل سلطة سائدة، بل إلى أنواع مختلفة من السلطات المستبدة الإقصائيّة التوسعيّة. تفتّت المشروع اللغوي الثوري الأول كلما تعولَم وتأدلج في خدمة الامبراطوريّة، ثم انحسرت قيمة النص القرآني بذاته إلى الخطابين التشريعي والشعائري، فاقداً عضويته وسياقه الانقلابي، ليتحوّل حالياً إلى ما هو أشبه بالـ طوطم Totem أو الصنميّة Fetch يمجدّه المؤمنون ويتجاهله الملحدون.
كما كان النص القرآني اختزالاً لشبكة واسعة من العناصر المتنوّعة لتحقيق انقلاب في السائد حين ولادته، يختزل النص في الراب العربي ما يتاح أمامه من موارد لغويّة وثقافيّة ومعرفيّة اليوم، من نفس الإقليم هذا الذي أنتج النص القرآني، فينشئ اختراقاً فريداً نحو استرداد الفرد في المجال العام لملكية اللغة واسترداد هذه الأخيرة لإنسانيتها وحراكها. لكن ومع سيادة التقديس الصنمي للنص القرآني، يبدو أن الاسترداد هذا يمرّ حتماّ بإعادة تملّك اللغة لا بصفتها العربيّة الحاليّة فحسب، بل أيضاً بصفتها القرآنيّة الأصليّة، حيث يبدو دور الراب العربي ممكناّ أيضاً.
ما نسميه جنوحاً إلى الفصحى، يبدو ظاهرةً ثابتة في الراب العربي حتى في نماذجه الأكثر لا– قرآنيّة والأكثر خصوصية من ناحية اللهجة المحكية، فإن لم يكن استخداماً يكون انتقاداً مبطناً، وإن لم يكن حافزه لغوياً يكون مسرحياً أدائيّاً أو حتى صوتيّاً. ليست الفصحى سوى اللسان القرآني وما بني عليه، وهذا الجنوح إنما هو يشكلّ في أحد أبعاده على الأقل اشتباكاً مع النص القرآني في صراع استرداد ملكيته.
لا نبالغ إذ نقول إذن، إن الخيط الرابط بين النص القرآني والنص في الراب العربي يشبه إلى حد كبير الخيط الرابط بين مفهوم النبوة في اللحظة القرآنية والإبداع الفنّي–الفكري في اللحظة الحالية. كما تراجعت الآيديولوجيا وانكسرت الحصريّة وتعمّم الامتياز بين النبوة والإبداع، كذلك يستبدل الراب العربي الأجوبة بالأسئلة.
يبشّر الراب العربي ومعه مسالك محليّة لغوية عديدة في الفنّ والفكر والثقافة، كما النص القرآني يوماً، بأن لغتنا حيّة في مساحتها وبأنه قد حقّ لها موقعٌ في المساحة الكبرى للنقاش الإنساني الدائم، علّنا لا نندثر رغم خراب البنيان وهلاك الجسد.
(أخذت صورة غلاف المقال من مدونة المصمم طارق الخاطر)