.
للزجل السياسي الشامي تاريخ طويل، منذ جبرائيل بن القلاعي مواليد لحفد ١٤٤٧ - ١٥١٦، الذي ساجل زجليّاً في تاريخ الموارنة، مروراً برندحة الشوام: ديغول خبر دولتك، باريس مربط خيلنا، دون أن ننسى: يا فلان لا تهتم، عندك زلم بتشرب دم.
وإذ اتابع مجريات التحركات اللبنانيّة الأخيرة، مستمعاً إلى ناصر الدين الطفار البعبلكي ومازن السيد – الراس – الطرابلسي، يلفتني التقارب ما بين ذلك الشعار الأخير وبين: بعلبك الشهامة والزلم، عم بتغطي بشادور المجاعة والظلم، أو: صيدا إم وأب التحرير، شوهّتها لحية الأسير، في أغنية بيروت خيبتنا من إنتاج وتر، والتي قام ناصر الدين والراس بتأديتها في ساحة الشهداء في بيروت أثناء هذه التحركات. إذ لا يكفي تغطية الكلام بموسيقى صينية على آلة البيبا (رقصة شعب اليي، من تأليف وانغ هوريان في ١٩٦٠) لإبعادنا صوب مناخات بعيدة وجديدة. ولا يستثنى من هذا الشعور بالنفس الزجلي امتداد الأغنية صوب: فكرك فقر الشيعي بيجي غير فقر السني؟ المعدة الفاضية ما بتسأل عن الطائفة قبل ما تغني، أو: تاريخنا مزوّر بإنصاف رجال الدين مسوّر.
تبدو الأغنية إذاً مصمّمة كشعارات للرفع أثناء المظاهرات، مثلما كانت المظاهرات في الستينيّات والسبعينيّات تتطلّب شعارات زجليّة موزونة مقفاة، يروي أحمد بيضون كتابته عدداً منها، تكون أساساً للتجمع وشارة تمايز له في آن، وكأنه كان من الممكن سرقة المظاهرات بالشعارات الأكثر جاذبية.
رغم ذلك، ورغم محبة الطليعة الشبابية لناصر الدين وللراس، ورغم كراهيتها لأسباب كثيرة للغناء الوطني على نمط ماجدة الرومي وجوليا بطرس، واليساري على طريقة مارسيل خليفة، وللغناء المناسباتي التجاري على نمط عاصي الحلاني ومعين شريف ومؤخراً علاء زلزلي، إلا ان هذه الطليعة لم تستطع فرض ذوقها الطليعي هذا على تحركات الناس، التي رددت أغنيات من الذاكرة ومن بدايات ما بعد الحرب. ليست الأغنيات التي ترددت في الساحة ملائمة للمطلب المرفوع (إزالة الزبالة) لكنها كانت تخاطب في الناس الذاكرة والحس الإيقاعي التقليدي، إذ يمكن بسهولة تذكر وين الملايين أو يا ست الدنيا يا بيروت وحتى الدبك عليها اذا لزم الأمر لارتباط إيقاعها بالذاكرة وسهولته، فضلاً عن إتاحة النَفَس لقول الكلمات ولحفظها. حتى على الصعيد العددي، فإن “بيروت خيبتنا“، وبغض النظر عن إشاراتها المثقفة (ناجي العلي وخالد الهبر) وموقفها السياسي، تتركب من أضعاف عدد الكلمات في يا ست الدنيا، فلا يسهل حفظها ولا ترديدها. قد لا يكون هدف الطفار والراس أصلاً أن يردّدها الناس في التحركات، لكن في هذه الحالة، ما الهدف من مطالبة الطليعة الشبابيّة للمنظمين بمنح المنصة للطفار والراس؟ إلا إن يكن الصواب السياسي المفترض هو الدافع.
الأغنية نفسها تبدو حائرة بين عالمين: الزجل الشعاراتي من حيث تركيبها ومناخها، والحداثة الإيقاعيّة واللفظيّة من حيث انتمائها إلى الراب والموسيقى البديلة (أيّاً يكن تعريفنا لها). لكن الفارق العميق بينها (وبين مجمل شغل الطفار وناصر) وبين الغناء الوطني واليساري والمناسباتي، أنّها لا تفترض يوتوبيا، لا سابقة ولا لاحقة، فهي تقيم في الحاضر، في حين يقيم الغناء الوطني واليساري في يوتوبيا صورة الوطن (سواءً السابقة، أو المفترضة قادمة لا محالة). أما شغل الطفار والراس فهو ينطلق من طموح إبراز وفضح كل العيوب الحاضرة في صورة الوطن، وفي المجتمع، وفي التركيبة السياسية والدينية المهيمنة عليه، من دون أن يستند إلى وعد بالحتمية التاريخيّة ولا بالانتصار الإلهي. في هذه الشجاعة تحديداً، يمكن للزجل أن يتخلى عن كونه “تهمةً” أو تشنيعاً (كما حين يقال عن مخاطبات السياسيين اللبنانيين بأنها حفلة زجل) ليصبح مهمّة منفصلة، لا تزعم تجديد الشعر العامي اللبناني، ولا فتوحاً موسيقية أو صوتية، ولا بناء ذوق فني جديد، بل تنغمس إلى أقصى حد في مهمة “الفضح” وتوكيد الوجود القادمة من الأطراف (بعلبك وطرابلس اللتان لا يخجل المؤديان من إبراز لهجتيهما المميزتين) وتستنفد نفسها في هذا الانغماس، فلا يبقى منها الكثير.
في المقابل، تستند فرقة الراحل الكبير إلى تراث مختلف كلياً، لا إلى مزيج الزجل بإيقاعات الراب، بل إلى تراث الغناء المشرقي الساخر (سيد درويش، الشيخ إمام، زكريا احمد، فيلمون وهبه، زياد الرحباني وسامي حواط) في أغنية كلن يعني كلن.
ذلك يتجلّى سواءً في اختيار الآلات (العود والبزق والرق) أو في نمط الغناء والضغط على الحنك ومط الكلام على مقامات شرقية (على طريقة سامي حواط تحديداً). ولئن شكلت الأغنية تعبيراً مباشراً عن شعار أساسي في التحرّك، فإن مناخها أيضاً يمنعها من أن تكون مرفوعة في التظاهرات السيارة، ويكتفي بجعلها مثاراً للضحك أمام شاشة الكمبيوتر أو في سهرات خاصة.
لذا، وحين كان للناس أن تهتف، دون أن تستمع إلى صوت جوليا بطرس (زوجة الوزير المطرود من الساحة) أو ماجدة الرومي، وحين أرادت أن يكون لها شعار مباشر ومرتبط بمطلبها المباشر وبآليات ضغطه، ليس فيه تمجيد لبلد مزرٍ ولا وعد صادق، لم تجد سوى اللجوء إلى لحن القاشوش مردّدة: يلا انزل عالشارع: أي اختيار الكلام المباشر والوزن المألوف (غير المختلف كثيراً عن يا مبارك يا جبان يا عميل الأمريكان) والإيقاع الأسهل المرتبط بذاكرة الهتافات في العالم العربي، مؤكدّة ارتباط لبنان وسوريا ومصر بذاكرة إيقاعيّة ونغميّة جماعيّة ومشتركة، وفي ذلك، أي في ثراء المشترك في الذاكرة، أيضاً ما يقد يمنحنا مجالاً للخروج من عوالم الغناء الوطني واليساري في بحث الجيل عن صوته وكلامه.