الخَصر المُغَنّي | الرقص الشرقي كترجمة للموسيقى

خلال عملي على فيلم وثائقي عن محمد عبد الوهاب، سألت أستاذاً جامعياً متخصصاً في الموسيقى عن مقطوعات عبد الوهاب التي وضعها خصيصًا للرقص الشرقي. تحرج الأكاديمي من الإجابة بدعوى إنه كلام مالوش لازمة“. في جلسة تصوير تالية سألت ضيفًا آخر فقال إن بعض تلك المقدمات الموسيقية تم أخذها للرقص عليها في المحال والصالات، ثم أوقف نفسه وطالب بحذف الإجابة.

استمر هذا التعتيم وبقي هذا التابوو مطبقاً حتى كتب إدوارد سعيد مقاله عن تحية كاريوكا الذي ضمنه كتابه عن المنفى، فارتفع الحرج عن بعض المثقفين وكتبوا عن الرقص الشرقي من باب الجنسانية والجسد والوطنية وما شابه، لكن بقيت النصوص قليلة ولم تحظ بمتابعة جادة. في نفس الوقت، استمرت الكتابة الصحفية المنتمية في أكثرها إلى التابلويد الفني القائم على الحواديت غير الموثقة. 

ظل تناول هذا الرقص بوصفه ترجمة لموسيقاه المصاحبة، سواء كانت عملًا آليًا أو غنائيًا، تناولًا هامشيًا، على الرغم من أن الرقص الشرقي المتقن والغناء الشرقي المتقن كانا فرسي رهان السينما الغنائية المصرية في عصرها الذهبي الممتد من أوائل أربعينات القرن العشرين حتى أوائل السبعينات. كانا جناحي طائر محلق يرتفعان معًا ويهبطان معًا، وفي كثير من الأحيان لم يقل خصر الراقصة أهمية عن حنجرة المطرب في نشر الموسيقى لجمهور واسع، وكان الوِسط وسيطًا موسيقيًا لا يقل أهمية عن الصوت.

قبل التسجيل

لم تخلُ الكتابات الاستشراقية في القرن التاسع عشر من وصفٍ واقعي نوعًا ما للغوازي عند إدوارد لين أو وصف آخر يشط في الخيال مثل رسائل فلوبير. وباستثناء رسوم بعض المستشرقين المتخيلة عن الراقصات في الشرق أو رسوم إدوارد لين لملابس الغوازي لا نعثر على أي سجل تفصيلي ودقيق لحركات هذا الرقص أو الغناء المصاحب له.

أول تسجيل مرئي لراقصة بطن قادمة من الشرق سجله إديسون عام ١٨٩٦ لراقصة سمت نفسها باسم مثير للخيال الغربي هو Little Egypt. بغض النظر عن جنسيتها الحقيقية، قدمت فاطمة جميل، حسب أشهر الروايات عنها، أول عروضها في معرض شيكاغو العالمي الذي كان وسيلة استشراقية ذائعة الصيت في القرن التاسع عشر لتقديم شرق مصطنع داخل أروقة ما، أو بتعبير تيموثي ميتشيل يشير المعرض العالمي هنا ليس إلى معرض للعالم بل إلى العالم نفسه وقد جرى تصوره كما لو كان معرضًا. تيموثي ميتشل، استعمار مصر، ترجمة: أحمد حسان وبشير السباعي، طبعة سينا للنشر (١٩٩٠)

في هذا الفيلم الصامت القصير تقوم الراقصة بعدة حركات سريعة لا نسمع الموسيقى المصاحبة لها، مرتدية زيًا شبيهًا لزي الغوازي في القرن التاسع عشر حسب رسم إدوارد لين. يشبه رقصها رقص الغوازي بشكل كبير أو رقصة البطن كما أدتها راقصات الموالد في الريف المصري.

في مقابل الفيلم الصامت الوحيد لأديسون حرصت شركات الأسطوانات العاملة في مصر في بدايات القرن العشرين وبخاصة شركة أوديون على تسجيل عدة أسطوانات لموسيقى رقص الراقصات الشهيرات آنذاك، وبمقارنة ما بين تسجيل مبكر حمل عنوان رقص شفيقة لعيشة ندا (أوائل القرن العشرين) وبين أسطوانة رقص بديعة (عشرينات القرن) بإمكاننا ملاحظة الفارق بين الموسيقى البدائية المصاحبة للرقص المبكر وبين الموسيقى المؤلفة خصيصًا لراقصة صالات.

عيشة ندا عالمة بلدية، غنت من المحصول الشعبي السائد، بمصاحبة آلية بسيطة من التخت. نسمع في التسجيل دولاب الرقص التقليدي المكرر في كل أسطوانات رقص شفيقة والغناء البلدي الذي تنهيه العالمة بترديد واصل واصل حبيبك يوم واصلمع التطييب للراقصة، التي لا نسمع صوتها لكن نسمع صوت صاجاتها، بجمل شعبية مثل نور عينيوعين أمك“.

في أسطوانة رقص بديعة نستمع إلى مقطوعة متقنة ومؤلفة لتخت، تبدأ بدولاب من مقام البياتي ثم تمضي بمزج ما بين التخت والصاجات مع تقاسيم منفردة من الكمان على إيقاع الصاجات. هذا الشكل أقرب ما يكون لشكل التحميلة التقليدي، بل حتى نستمع فيه إلى تلميح لموشح تراثي هو يا راعي الظبا.

المزج التعبيري

كانت صالة بديعة بوتقة انصهار عدة أساليب فنية وثقافات مختلفة. في حديثها مع ليلى رستم في برنامج نجوم على الأرض، تقدمها رستم بوصفها مربية الفنانين وأنهم “ويعتبروا كلهم أولادك“. تصر بديعة نفسها على أنها كانت تجيد كل أشكال الفنون من تمثيل وغناء واستعراض لا الرقص وحده، كما تعلن أنها مزجت الرقصات مع بعضها، زمان كان كله رقص بطن أنا نوعت الرقص ودخلت عليه الإسبانيولي والتركي والعجمي” “وأنا اللي دمجت المزيكا العربي مع الأفرنجي“. صالة بديعة مؤسسة عمل فيها عدد كبير من ملحنين الجيل التالي من المدرسة التعبيرية في الموسيقى المصرية، مدرسة القصبجي والسنباطي وعبد الوهاب، تلك المدرسة التي نشأت بعد وفاة سيد درويش كمزجٍ ما بين التراث القديم (المزيكا العربي) وبين الموسيقى الأوروبية الوافدة (الأفرنجي) عبر جسر المسرح الغنائي. “لم تكن بديعة مديرة مجرد فرقة فنية، كانت تدير معهدًا لتدريب الفنانين وصقلهم‏‏‏ محمد الحجيري، طرب الجسد تحية كاريوكا نموذجًا http://www.bidayatmag.com/node/340، ومثل سيد درويش الذي تم تكريسه كأبٍ لهذه المدرسة التعبيرية السائدة في الموسيقى المصرية مقابل المدرسة الطربية، تم تكريس بديعة مصابني كأم لهذه المدرسة التعبيرية الراقصة مقابل مدرسة الغوازي القديمة التي تم تنحيتها واختفاؤها فيما بعد. يكفي ذكر أسماء مثل محمود الشريف وفريد الأطرش وفريد غصن ومحمد فوزي وأحمد صبرة وعبد الغني السيد وعبد العزيز محمود وتحية كاريوكا وسامية جمال الذين مروا جميعهم بتجربة العمل في صالة بديعة ذات يومٍ، لندرك هيمنة مدرسة بديعة التعبيرية على الفيلم الغنائي في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين.

سجلت بديعة عددًا لا بأس به من الأسطوانات تنوعت ما بين الطقاطيق الخفيفة، والديالوجات الفكاهية مع زوجها الريحاني أو المونولوجست الفكاهي سيد سليمان، مرورًا بتقليد المطربات والمطربين، بل وحتى السخرية من رقصات وافدة لم تمزج بعد في الرقص المحلي. في أسطوانة الشارلستون تسخر بديعة من رقصة الشارلستون بقولها بالذمة رقصة شارلستون حاجة تجنن ما تعرف الرقاص مجنون ولا موَنوِن الموَنوِن في العامية القاهرية في ذلك الوقت هو المسطول أو متعاطي المخدرات.لتعلن بعد ذلك انحيازها للرقص على الواحدة يا عم سيبك بلا تانجو بلا فوكستروت صقف لي صقف ع الواحدة صقف وأنا أرد، وفي بدايات السينما الناطقة سجلت مصابني إعلانًا سينمائيًا عن كازينو بديعة.

نلمح في هذا الفيلم القصير، عدة خصائص فنية لمدرسة بديعة، أولها امتزاج الغناء والرقص. فهي هنا أقرب للعالمة المغنية منها إلى الراقصة الفردية، العالمة التي تقود كل الفرقة المصاحبة بإيقاع الصاجات، كذلك نرى جوقة الراقصات وهن يقمن بدور المذهبجية كذلك في ترديد المذهب الغنائي بعدها، مستعيرة فكرة المطرب الفرد والمذهجبية من الغناء السائد في عصرها مازجة اياها في شكل راقص استعراضي.

على طريق صياغة الرقص الشرقي

صياغة صالة بديعة للرقص منحته صفة الشرقية، فالهوية الشرقية كما تمت صياغتها على يد مدرسة الموسيقى التعبيرية ما بعد سيد درويش هوية قائمة على المزج بين الروافد المختلفة، للخروج بشيء مختلف عن السابق العربي أو العثماني والإفرنجي كذلك. هذا الشيء ممكن تسميته بالشرقية، حسب الكلمة المستخدمة والمتداولة حتى وإن لم تكن صحيحة تمامًا، وحتى لو كانت تلك الشرقية في حقيقتها هوية مصنوعة. جملة بديعة في حديثها مع ليلى رستم أنا اللي دمجت المزيكا العربي مع الأفرنجي …. العربي لحاله ما كانش بيشبع الجمهور بقى مع بعضه حاجة عظيمة جدًاتلتقي مع جملة محمد عبد الوهاب محمد عبد الوهاب، رحلتي ... الأوراق الخاصة جدًا، إعداد وتقديم: فاروق جويدة، دار الشروق، ٢٠٠٥. “لو مزجنا بين ما في إحساس اللذة في موسيقانا الشرقية وبين علم وعقلانية ومنطق الغرب لحصلنا على موسيقى خرافية“.

غير أن تسمية الشرقي بهذا المعنى المزجي للتعبير عن هوية الرقص السائد هي تعبير عن اختلافه عن الأنماط السابقة عليه أيضًا، وهي تمييز له عن مدرسة رقص الغوازي المصاحبة للغناء البلدي الريفي عن الغناء البلدي والاختلاف بينه وبين الغناء الشعبي كلون تجاري، انظر أمل مصطفى إبراهيم، الغناء البلدي في مصر، سلسلة فنون بلدنا، ٢٠١٢.، التي تنحّت منذ أواخر الأربعينات عن الظهور في السينما المصرية، إلا في مشهد نادر هنا أو هناك، كمشهد ظهور غوازي بنات مازن في فيلم الزوجة الثانية (١٩٦٧)، وهو تنحٍ لم يكن ممكنًا إلا عبر سنوات من التجاور حتى تغلبت المدرسة التعبيرية ومفهومها عن الشرقي.

ففي العقد الأول من بدايات السينما الناطقة في مصر، من ١٩٣٢ حتى ١٩٤٢، نشاهد نمطًا ما من الرقص الشرقي غير المتقن، في مشاهد متناثرة في أفلام علي الكسار ونجيب الريحاني وغيرهما، من بينها مشهدين لتحية كاريوكا الصبية حينذاك في فيلمي خفير الدرك (١٩٣٥) والدكتور فرحات (١٩٣٥)، ومشهد الدكتور فرحات هو أول ظهور سينمائي لتحية كاريوكا، جابوني بعبليكما قالت لمنى جبر في حوار تلفزيوني. برنامج اتنين على الهوا، أجري اللقاء عام ١٩٧٥.

في أحد تلك المشاهد العابرة في فيلم سي عمر (١٩٤١)، تظهر إجلال زكي وهي تغني بمصاحبة تخت تقليدي لحنًا تعبيريًا من ألحان إبراهيم حسين وكلمات بديع خيري، بينما ترقص أمامها راقصتان مجهولتان بأسلوب بدائي مرتديتان بدلتي رقص لا جلبابي غوازي، ودون أن تتخلصا من عادات الرقص البلدي مثل طرقعة السبابتين وانفصال الحركات الراقصة تمامًا عن اللحن.

استمر هذا التجاور بين المدرسة التعبيرية ومدرسة الغوازي حتى بعد ذلك، وإن كان تجاورًا هامشيًا تسيطر عليه المدرسة التعبيرية بقيادة خريجات وخريجي مدرسة بديعة، خاصة أن رقص الغوازي ظل مرتبطًا بلون الغناء البلدي الريفي أو البدوي.

ربما كانت نبوية مصطفى هي آخر ممثلات رقص غوازي الريف في السينما المصرية، فسواء رقصت منفردة على غناء وألحان الكحلاوي أو بمصاحبة جوقة راقصات على غناء وألحان عبد العزيز محمود في يا نجف بنور، تقوم نبوية بنفس الحركات بقدميها وخصرها، وتكرر، بدون مبرر في بعض الأحيان، حركة تعويم الخصر التي اشتهرت بها، وبرغم جمال رقصها فهو يظل مكرر الحركات متوقعًا، منفصلًا عن ترجمة اللحن المصاحب، وربما لهذه الأسباب لم ينتشر ذلك الأداء في السينما المصرية واختفى باعتزال صاحبته.

الهارموني مقابل الإيقاع

مقابل راقصات أخريات من خريجات مدرسة بديعة اللاتي لمعن وخفتن سريعًا مثل ببا عز الدين وحورية محمد وحكمت فهمي، استمرت تحية كاريوكا وزميلتها سامية جمال بتقديم الرقص الشرقي طوال عقدين تاليين، على الرغم من الاختلاف بين أسلوبيهما. عملت تحية على إعادة الـهارمونيا الشّرْقيّة القديمة في الرقص، وهو الأسلوب الذي تأسست عليه مدرسة كاملة، في مقابل مدرسة سامية جمال الإيقاعية.” محمد الحجيري، طرب الجسد بينما كانت تحية كاريوكا أكثر راقصات مدرسة بديعة شرقية بحسب قول بديعة نفسها في حوارها مع ليلى رستم، وعبر مسيرة فنية امتدت أكثر من خمسة عقود، منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى تسعيناته، مارست تحية أشكالًا فنية عديدة ومزجت ما بين الغناء والرقص والتمثيل، وهي بذلك أقرب تلميذات بديعة إلى معلمتها في التعبير عن تقليد المزج بين الأشكال بينما تعتبر سامية أقرب تلميذات بديعة في التعبير عن تقليد المزج التجاوري بين الروافد.

في لعبة الست (١٩٤٦) ترقص تحية على موال من كلمات بديع خيري وألحان محمود الشريف وغناء عزيز عثمان، وتستخدم عثمان كمركز لدائرة حركتها أثناء غنائه للموال. تتجلى تعبيريتها في ترجمة تقسيمة الناي المُوّقَعَة حيث يلعب خصرها دور الإيقاع بالاهتزاز يمينًا ويسارًا، وهو دور مستمر طوال الرقصة ويبدو جليًا في القفلة السريعة للموال، وبرغم سرعة الإيقاع في القفلة لا تنجر تحية إلى ترجمته بحركة عصبية أو متشنجة من خصرها.

مقابل المزج التجاوري لروافد الرقص المختلفة، الإسبانيولي والتركي والعجمي والأفرنجي، الذي تمارسه سامية جمال في استعراضاتها مع فريد الأطرش، كاستعراض الشرق والغرب من فيلم أحبك إنت (١٩٤٩)، لا تمارس تحية هذا المزج عبر التجاور حتى لو رقصت في استعراض اعتمد نفس ثيمة البلدان. في استعراض السندباد الذي لحنه محمد فوزي في فيلم غرام راقصة (١٩٥٠)، تظل تحية الحبيبة التي يبحث عنها السندباد مختفية حتى اللوحة البلدية في ختام الاستعراض، لكن هذا لا يعني أن تحية كاريوكا لم تمارس مزجًا آخر، ففي بداية مسيرتها طلبت تحيّة من مصمّم الرقصات إيزاك‏ ديكسون‏‏ أن يصمم لها رقصة خاصّة تحقق لها الاستقلال والتميّز محمد الحجيري، مصدر سابق. فاستلهم ديكسون رقصة الكاريوكا من البرازيل وصمم لها رقصتها الجديدة التي أصبحت اسمها فيما بعد. فضلت تحية المزج القائم على استعارة الشكل بعد توطينه كبديلٍ للمزج التجاوري الغالب على استعراضات سامية جمال.

كذلك كانت تحية كاريوكا راقصة المتر الواحد سامية جمال في حوارها مع طارق حبيب في برنامج اتنين على الهوا، ومحمد الحجيري، ومحمد عبد الوهاب في كتاب رحلتي وآخرون. إمكانية الرقص في متر واحد تعيد إلى الذهن تلك الهارمونيا الشرقية التي تعتمد على التطور الرأسي للحن عبر التفريدات والهنك، لا التطوير الأفقي عبر امتداد الجملة وتفكيكها وإعادة تركيبها مثل الموسيقا الكلاسيكية الأوروبية. فمقابل تفاريد صوت المطرب وتكراره لنفس الجملة المغناة عبر التلوين المقامي تؤدي تحية بجسدها في مساحة ضيقة لتكتشف جمال الجملة الموسيقية عبر تفاريد الخصر، مما يجعلها هادئة دون تشنج الغوازي أو الهواة.

في فيلم شباب امرأة (١٩٥٦)، ترقص تحية على غناء محمد رشدي وكلمات مصطفى الطائر ولحن رشيق لنجيب السلحدار، وهو لحن ذو لون شعبي تعبيري مبتكر ومختلف عن اللون البلدي السائد سابقًا، فاللون الشعبي مثله مثل الرقص الشرقي، قامت بابتكاره المدرسة التعبيرية عبر مزج أشكال مختلفة لتقديم غناء متصالح مع التعبيرية السائدة وفي نفس الوقت موجهًا لجماهير الطبقات الشعبية في المدن. لا تكتفي تحية بالرقص هنا بل تعلق كذلك على نمط رقص الموالد، ودا بتسميه رقص دي عندها مغص، ففي مقابل العصبية في الأداء المرتبطة بالبدائية والنمط البلدي، تمارس تحية في المشهد رقصًا هادئًا يمتص اللحن ويترجمه بهدوء دون تشنج، هذا الهدوء هو الفارق بين الأداء المتقن وبين المقلدات البائسات اللاتي يذكرهن إدوارد سعيد في مقاله.

كبديل لترجمة اللحن عبر الرقص في مساحات ضيقة تمارس سامية جمال تعبيرية مختلفة عبر ترجمة اللحن لحركات منغّمة. تبرع تحية في استغلال المساحات الضيقة بالتركيز على حركة الخصر الدائرية كما تبرع سامية في استغلال مساحة المسرح كلها عبر خطوات القدمين وحركة الذراعين. تترجم تحية بخصرها أغلب الوقت بينما تترجم سامية بجسدها كله.

يبدو ذلك واضحًا في رقصة كهرمانة من فيلم عفريتة هانم (١٩٤٩)، فسامية هنا تعبر عن تطور اللحن بخطواتها كلها، بانطلاق اللحن من جملة والعودة لها تنطلق هي من نقطة لتعود لها، فلا تكتفي بالدوران حول مركز واحد رغم أنها ترجمة محتملة لنفس اللحن عند تحية، الخطوات المنغمة هي ما تجعلها أصلح راقصة للرقص على السلالم، كما فعلت في أغنية سافر مع السلامة من فيلم ما تقولش لحد (١٩٥٢)، حين نزلت درجًا كاملًا بخطوة منغمة منظمة، وفي ترجمتها للموال اكتفت بحركة هادئة بهز الكتفين والتمايل دون الدوران حول المطرب. يظهر اتقانها وتعبيرها الهادئ بوضوح مقابل خطوات جوقة الراقصات المرتبكة.

اكتمال التعبيرية والمزج

كانت نعيمة عاكف آخر القادمات إلى ساحة الرقص الشرقي التعبيري. هذا التأخر جعلها تكمل المدرسة عبر المزج والتعبير بدون تعثر. جاءت نعيمة من خلفية أكروباتية من سيرك عاكف الجوّال لتصبح ممثلة كوميدية واستعراضية وراقصة شرقية، تمارس الغناء بنفس مهارتها في الاستعراض، وتمارس المزج التجاوري ببراعة كوسيط تفاوضي بين كل السابقين عليها، فهي تمتلك قدرة تحية كاريوكا على الرقص في المساحات الضيقة وتمتلك قدرة سامية جمال على تنغيم رقص الخطوات، لكن ما برعت فيه نعيمة وعبرت عنه صراحة هو الترجمة.

الترجمة خاصية جمالية مميزة للموسيقى المقامية في كل مدارسها، التطريبية والتعبيرية. الترجمة في المدرسة التطريبية تعني أن تقول الآلات بالنغم ما يقوله المطرب أو المنشد بالصوت، وفي المدرسة التعبيرية يجب أن يترجم اللحن معنى الكلمات وينطبق عليها. في الرقص تعني الترجمة كلا المعنيين حسب مقدرة ورؤية الراقصة. يغلب على تحية ترجمة التقسيمة الموقعة أما سامية فيغلب عليها ترجمة الجملة الملحنة. نعيمة تقوم بكلا الترجمتين دون غلبة لأحدهما على الأخرى.

فعل الترجمة في الرقص الشرقي يتشابه في حالة الموسيقى الآلية مع قالب التحميلة، وهو رأي شخصي ربما يختلف معه البعض. في التحميلة تقوم كل آلة بالتحاور مع التخت عبر القيام بتقسيم متفق مع الإطار العام، أي أن كل آلة تترجِم حسب قدرتها، وفي الرقص تترجم كل راقصة حسب مقدرتها، مرة الإيقاع ومرة اللحن.

في أغنية اعمل معروف من فيلم النمر (١٩٥٢) التي كتبها وليم باسيلي ولحنها محمد عبد الوهاب، تعبر نعيمة عن رغبتها في ترجمة ليالي المطرب عبد المطلب بالرقص الذي يتعجب بدوره من رغبتها بالرقص هتترجمي دي حتى تقليعة، لكنها وبالفعل ترجمت الليالي ببراعة الأكورديون نفسه وبخصرها وحده، دون أن تبرح مكانها مثلما تفعل تحية. ترجمت الجملة الملحنة حبك على فينبخطواتها بطول المسرح مثلما تفعل سامية، لكنها في الترجمتين تمتزج بخصرها مع اللحن امتزاج الكلمات والغناء معه. هذه الترجمة البارعة هي ما جعلت عبد الوهاب يخصها بمقطوعة راقصة، عزيزة (١٩٥٤)، في الفيلم الذي حمل نفس الاسم. تكفي ملاحظة ترجمة خصر نعيمة لإيقاع البمب السابق على جملة الناي أو لجملة يا ولا يا ولالمشاهدة التعبيرية في أفضل صورها. هذه الترجمة الناضجة تطورت سريعًا مع نعيمة فتخلصت من التكرار غير المبرر للّفة الشبيهة براقص التنورة في رقصة يا مزوق يا ورد، ألحان عبد العزيز محمود من فيلم ست البيت (١٩٤٩)، لتعيد توظيف نفس اللفة، كترجمة لإيقاع الصاجات الشبيه بإيقاع الذكر في الموالد. في تمر حنة (١٩٥٧)، ألحان محمد فوزي في الفيلم الذي حمل نفس الاسم.

لُصت في الترجمة

يستخدم المصريون كلمة لُصت كتعبير شعبي عن الحيرة والتوهان. لُصت في الشيء هو تعبير أكبر قليلًا من تهت وأقل قليلًا من ضعت. ككل ترجمة، يحدث أحيانًا أن تلوص الراقصة فلا تستطيع أن تعبر بأي صورة عن اللحن وتضيع الكثير في الترجمة Lost in translation. ما يفرّق بين راقصة بارعة وأخرى هو القدرة على الترجمة بشكل كامل دون فقد أي جملة في الوسط، وهو ما يجعل بعض الراقصات يتنحين سريعًا بعد انتهاء معجمهم الحركي وعجزه عن ترجمة الموسيقى، أو يجعلهن يرقصن على نفس الموسيقى بنفس الحركات مرارًا مما يؤدي للنسيان السريع كذلك.

تمثل كيتي حالة من فقدان الترجمة، فعمر كيتي الفني القصير يقارب عمر نعيمة عاكف الفني القصير، ومزجها يتماشى مع تقاليد مدرسة بديعة كما مثلتها سامية، وهي ممثلة كوميدية خفيفة الدم وصاحبة صوتٍ لطيف حين تغني، لكن ترجمتها الناقصة للألحان هو سر عدم تفردها في جيلها. يمكن مقارنة رقصتها في فيلم إسماعيل يس في مستشفى المجانين (١٩٥٨) على مقطوعة ليالي لبنان من ألحان محمد عبد الوهاب، مع رقصة سامية على نفس المقطوعة لملاحظة الفارق. كيتي تترجم نفس الجملة مرة بكتفيها ومرة بخطواتها، بينما تعتمد سامية على ترجمة واحدة للجملة حتى لو تمت إعادتها، وتستخدم هنا خصرها أكثر من خطواتها، الأمر الذي يعبر عن فهمها للفرق بين أسلوب عبد الوهاب وأسلوب فريد الأطرش.

على طريق الغروب

كان عقد ستينات القرن العشرين بداية تراجع السينما الغنائية المصرية، وبرغم ظهور جيل آخر من ملحنين المدرسة التعبيرية، على رأسهم الموجي والطويل وبليغ، كانت الإذاعة هي الوسيط الأكثر انتشارًا وبخاصة بعد تأميم السينمات وشركات الإنتاج والتوزيع السينمائي وسيطرة المؤسسة العامة للسينما على شاشات العرض. ترتب على ذلك لجوء المطربين والملحنين للاعتماد على الإذاعة لا السينما للوصول بألحانهم إلى جمهور أوسع.

في ظل تراجع إنتاج الفيلم الغنائي ظهر الجيل التالي من الراقصات. كانت الراقصة رفيقة المغني في الأفلام الغنائية، فصارت مجرد إضافة أو فانتازيا حسب حوار في فيلم عيلة زيزي (١٩٦٣) تعليقًا على سؤال من سعاد حسني عن رقصة لسهير زكي في مشهد من فيلم يخرجه حبيبها في الفيلم.

اشتهرت سهير زكي في الستينات بوصفها أول من رقصت على أغاني أم كلثوم، رغم أن تحية كاريوكا سبقتها في ذلك محمد الحجيري، مصدر سابق.. سهير لم ترقص بالطبع أمام أم كلثوم واكتفت بإعادة توزيع مقدمات أغانيها التي لحنها عبد الوهاب لترقص عليها.

@egydance1 سهير زكي – انت عمري محمد عبدالوهاب #سهير_زكي #انت_عمري #محمد_عبدالوهاب #رقص_مصري #egyptiandance #suhirzaki #muhammedabdulwahab ♬ original sound – Egyptian Dance رقص مصري

في فيلم الشقيقان (١٩٦٥)، ترقص سهير زكي على تقسيمة من الأكورديون بصحبة الإيقاع يعقبها مقدمة إنت عمري، ويعلق الضيف أحمد ساخرًا “أرجوكم خليني انطرب“. ركزت سهير على حركة الذراعين والخصر والصدر في الترجمة، بمصاحبة هزة الرأس والشعر الطويل الذي تميزت به، والذي استخدمته قبلها هدى شمس الدين.

في نفس العقد، بدأت نجوى فؤاد مسيرتها الفنية. في حين رقصت سهير زكي غالباً على موسيقى بدون مصاحبة غنائية، ولم تشارك بالتمثيل إلا نادرًا، شاركت نجوى في التمثيل وفي الرقص بمصاحبة غنائية، ومزجت في رقصها بين الشعبي الستيناتي والشرقي.

في رقصتها المصاحبة لأغنية عـَ الرملة من فيلم شاطئ المرح (١٩٧٠) التي كتبها محمد حمزة ولحنها بليغ حمدي، تترجم نجوى صخب الإيقاع بحركات سريعة يمكن وصفها بالعنيفة، مقارنة بانسيابية وهدوء صوت محمد رشدي. سرعة وتتابع حركة الأقدام صفة مميزة لرقص نجوى، وهي صفة مناسبة لصخب الإيقاع الملازم في بعض الأحيان لألحان بليغ حمدي وغيره في تلك الفترة. الجدير بالذكر أن سامية جمال، في حوارها مع منى جبر، نصحت نجوى بإضفاء الطابع الشرقي على رقصها وسهير باختيار موسيقى جديدة.

الرقص الجماعي، الرقص الجامعي

دفاعًا عن رقص زوزو في فيلم خلي بالك من زوزو (١٩٧٢) يصرخ أحد زملائها في منتقديها قائلًا فريدة فهمي كانت جامعية وأبوها أستاذ جامعي“. يمكن اعتبار خلي بالك من زوزو راصدًا لبدايات خروج الرقص من صالات وسط البلد وعوالم شارع محمد علي إلى شارع الهرم، وترسخ النظرة الدونية للراقصات. “وبالرغم من تطويع بعض الحركات الشعبية للرقص المسرحي عند فرقة رضا فإن الرقصات المختارة تنزع للرقص الجماعي وولتر أرمبرست، الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر، ترجمة: محمد الشرقاوي، مكتبة الأسرة، ٢٠١٢.، وحتى في رقصات فريدة الفردية، مثل رقصتها بمصاحبة المترونوم في فيلم غرام في الكرنك (١٩٦٨)، يظل رقصها جامعيًا، رقص شفاف كالماء بلا لون مميز.

نشأت فرقة رضا نفسها كمحاولة لدمج الشعبي داخل المؤسسي عبر تقديم فن شعبي ثم تحديثه برؤية منظار الستينات، وفي ظل هذا الدمج تم تطهير الرقص الشرقي من قفلاته الحارة ومن الغزل القائم بين جسد الراقصة والتخت أو صوت المطرب. حين ترقص فريدة أو غيرها من راقصات فرقة رضا، فإنهن يؤدين الرقصة حسب النوتة المُعدة سلفًا وهو ما يفرق هؤلاء عن المدرسة السابقة في الرقص. تحية وسامية ونعيمة ارتجلن دوماً وأثبتن حركاتهن الخاصة حتى لو كان هناك مصمم رقصات مثل إيزاك ديكسون أو غيره. تضفي كل راقصة منهن توابلها الخاصة على الرقصة بينما تلتزم راقصات فرقة رضا بالخطوات.

ما بعد الأصيل

ساهم الراديو في انحسار الفيلم الغنائي والاستعراضي، وأتى زمن الكاسيت والفيديو كاسيت وأفلام المقاولات وأفلام الواقعية أيضًا ليقضِ على ما تبقى منه، وهو قضاء مبرم لا فرار منه، فالأفلام الغنائية رغم جمال استعراضاتها، أفلام ساذجة القصة مُكررة الحبكة. تزامن ذلك مع انحسار المدرسة التعبيرية في الغناء المصري دون وريث غير المزج الذي صار على كل لون وشكل، فالرقص الشرقي التعبيري لم يقضِ عليه فقط زمن الانفتاح أو الغزو الخليجي مثلما يقرر أنصار النوستالجيا والحنين إلى الماضي، لكن قضى عليه كذلك وصول الشكل الفني إلى ذروة اكتماله قبل الوصول إلى عولمة الرقص الشرقي. محمد الحجيري، مجد الراقصات المسيء http://www.almodon.com/culture/2014/9/3/%D9%85%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D9%82%D8%B5%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%A1.

لكن ذلك لا يعني عدم استمرارية جماليته، فالتعبيرية صارت لازمة لفعل الرقص الشرقي، وجمالية يحكم من خلالها على اتقان الراقصة وجودة الرقصة من عدمها. بغض النظر عن الاعتراض على جنسية الراقصات الروسيات والأوكرانيات، وهو مبدأ يتناسى أن الرقص الشرقي أصلًا هوية مصنوعة قامت على المزج بين العربي والأفرنجي وكل ما كان متاحًا وقتها، فالمقارنة السريعة ما بين رقص مديحة كامل في فيلم بوابة إبليس، ورقص إلا كوشنير بمصاحبة أحمد شيبة، تظهر الفارق في الجماليات التي تجعل المشاهد الحالي يصف رقصة بالجميلة غير الموجهة للإثارة، ويصف الأخرى بالموجهة للإثارة. فمديحة تؤدي رقصًا تمثيليًا منسجمًا مع كلمات الأغنية الحزينة، وعلى الرغم من إن شيبة وريث هذا الحزن الشعبي عند حسن الأسمر، فلا تستطيع كوشنير ترجمة هذا الحزن. تكرر كوشنير لفة الخصر وتثبيته على المؤخرة، وهي حركة راقصة لم تتواجد لدى المدرسة التعبيرية طوال تاريخها وانتشرت مؤخرًا، مع هزات عنيفة للصدر دون أي ترجمة محتملة، ليندمج جمهور الصالة في النهاية في رقصة كباريهات مُكررة في كل الأفلام الحالية.

الغريب أن أغنية شيبة كانت الأكثر انتشارًا هذا العام في مصر، والأغرب هو أنك لو سألت المستمعين عن رقص إلا كوشنير ستحصل غالباً على إجابات متشابهة تدور حول ثيمة فين الرقص الشرقي الأصيل؟غير مدركين أن الأصيل يعني الأصل، ويعني كذلك الغروب.