.
على الرغم من التحولات الكبيرة التي تفصل بيننا الآن وبين لحظة التسعينيّات في سوريا، إلا أنني – كحال أبناء جيلي – أتذكر بوضوح المزاج الرمضاني لتلك السنوات التي تفصلنا عنها مسافة زمنيّة غيرت الواقع السوري إلى غير رجعة. من أيام رمضانات التسعينيّات تلك، أذكر بصورة خاصة صوت المنشد توفيق المنجد الذي وسم صوته ذاكرتي عن تلك الأيام الرمضانية، حيث شكلت أناشيده المزاج السمعي الذي يقفز إلى الذاكرة عند استعادة تلك الفترة التي طبعت فيها برامج القناة الأولى الرسميّة (الرمضانيّة منها وغير الرمضانيّة) ذاكرة جيل بأكمله.
كان توفيق المنجد (١٩٠٠-٢٠٠٠) ابن حيّ القيمرية الدمشقي أثيرًا عند الكثير من مستمعيه السوريين، وعند الإعلام الرسمي على حد السواء. وصل العجوز الدمشقي النحيل ذو الصوت المبحوح في آخر أيامه إلى حالة من التكريس صعّبت المهمة على خليفته في رابطة المنشدين حمزة شكّور صاحب الجسم الممتلئ والنظرة العابسة. فتلاشت مع مرور الوقت والظروف الموضوعيّة الأخرى هالة التكريس التي كان المنجّد قد اجترحها لرابطة المنشدين. كما فُتح الباب مع بداية القرن الجديد لتغيرات كمية ونوعية على مستوى المدائح النبوية وما يقع في حكمها من أناشيد إسلامية الطابع. كان باب التغيير هذا قد فٌتح بالتزامن مع تغير رأس السلطة السياسية في سوريا.
تغيرت وسائط التواصل الإعلامي في السنوات التالية بشكل جذري، لتحلّ عشرات المحطات الفضائيّة مكان المحطة الحكوميّة الواحدة، وتلاشت مع الوقت صورة توفيق المنجد المنشد العجوز المكرّس. من جملة المحطات الفضائية الجديدة ظهرت على وجه الخصوص القنوات العربية إسلامية التوجه مثل إقرأ ولاحقًا الرسالة وغيرها من عشرات الفضائيات، التي غمرت المشاهدين السوري والعربي بعشرات الفتاوى عن تحريم الموسيقى والأغاني، طارحة بدائل أخرى “غير محرمة” ما يسمى اصطلاحًا بالأناشيد الدينية، لتضم هذه التسمية مروحة من الأناشيد، تبدأ عند المدائح النبوية، وقد لا تنتهي عند الأناشيد الجهادية.
على أرض الواقع. وتحديدًا في مدينة دمشق وريفها، كانت فرق المدائح النبوية الشعبية تحقق انتشارًا أفقيًا، وتتكاثر كميًا مستفيدة بالدرجة الأولى من مزاج التحريم الذي عززته الفضائيات وعوامل أخرى كثيرة، منها ثورة التواصل الإعلاميّ التي تحدثنا عنها، فأصبحت حفلات هذه الفرق وأناشيدها سهلة التداول والنسخ، والتسويق، وبالتالي الانتشار الأفقي في أوساط الشرائح الإسلامية المتدينة، أو نصف المتدينة. هذا من ناحية الهوية الروحية العامة لهذه الشرائح، أما من الناحية الاقتصادية فيمكن القول إن انتشار ظاهرة الإنشاد الديني في السنوات الأخيرة كان قد شمل الأوساط الغنية والفقيرة على حد سواء، وذلك عائد أولًا لتواضع الأجور التي كانت هذه الفرق تقبضها (طبعًا بحسب الفرقة) لاعتماد هذه الفرق على تقديم كم كبير من الحفلات على مدار السنة، وثانيًا لتغاضي الحكومة عن هذه الظاهرة وطقوسها المدينية من تجمعات غير مرخصة وتكريس للثقافة الدينية وغيرها، ويأتي هذا الأمر ضمن سلسلة طويلة من المحاباة بين السلطة الأمنية والمجتمع الديني في مدينة دمشق.
هذا الانتشار حقق مع الوقت تكريسًا لأسماء بعض الفرق أصبحت تنافس في شهرتها أسماء مغني البوب التجاري العربي في مدينة كبيرة كدمشق. بل من الممكن القول أن هذه الفرق أنتجت علاقة جدليّة مع أغنية البوب العربيّة، من ناحيتي اللحن والفيديو الذي كان يمر أيضًا بفترة تحول جذريّة في تلك الفترة.
من أهم هذه الفرق في دمشق من الممكن ذكر فرقة أبو أيوب الأنصاري والمعروفة باسمها الشعبي الأخوة أبو شعرخبر من ٢٠١٠ عن الأخوة أبو شعر. وهي فرقة إنشاد قديمة من حي الميدان الدمشقي ينتمي أفرادها بنسبهم إلى آل البيت. وقد حققت هذه الفرقة الانتشار الأوسع مقارنة بالفرق الأخرى التي نذكر منها فرقة المنشد عبد القادر المرعشلي المشهورة في دمشق القديمة، وفرقة المنشد نور الدين خورشيد نجل الشيخ الشهير أبو النور خورشيد. ومن بين العشرات من هذه الفرق التي لا تختلف كثيرًا في نوعية الأناشيد التي تقدمها والجمهور الذي تستهدفه، فإن فرقة نور الهدى المشتهرة باسم منشدها الرئيسي فايز الحلو تشكل مادة غنية لدراسة هذه الظاهرة الموسيقية–المجتمعية.
ولد فايز الحلو في حي الميدان الدمشقي، وتلقى في بدايته بعض التعليم الموسيقي عند عازف العود عدنان إيلوش. من خلال صوته القريب من صوت المغني العراقي كاظم الساهر بدأ الحلو الغناء في الحفلات من خلال بعض أغاني الساهر، وغيرها من الأغاني الدارجة دون موافقة عائلته، قبل أن يتفرغ لإنشاد المدائح النبوية، ويشكل فرقة نور الهدى لذلك سماه بعض المعجبين بـ المنشد التائب.
على اليوتيوب نجد مقطعًا من أحد حفلات فرقة فايز الحلو في منطقة كفربطنا في غوطة دمشق الشرقية. المقطع القصير من الحفلة المرفوع على الشبكة يقدم لنا في مستواه الأول مادة معرفيّة عن الموسيقى المقدمة في حفلات الإنشاد تلك.
ففي المقطع المجتزأ من الحفل والذي مدته ١٥ دقيقة فقط يبدأ الحلو الدقائق الأولى بموال بلهجة عراقية مخففة عن ابن يناجي والده ويرثيه “آخ من خوفي عليك ياما اتذكر عنادك، اترك التدخين بابا والله دمرني سعالك” المعاني البسيطة التي يوردها الحلو في مواله عن مناجاة الابن لوالده، والتي يستقيها من معين المواويل الشعبية العراقية لا تضم أي معنًى مرتبطًا من قريب أو بعيد بمديح شخصية الرسول محمد، أو أصحابه أو مدينته، ولكنها في الوقت ذاته لا تضم معان “مكروهة” عن الغزل أو الحب الدنيوي. فلذلك نجد هذا الموال يمر بسلاسة في متن الحفل كجزء أصيل منه. المهم في الموال أنه لا يقترب من مساحة المحظورات في معانيه، ولو كان يستقي شكلها الفني (الموال العراقي) الذي يجعله الحلو مدخلًا لأغنية على العقيقة اجتمعنا المأخوذة من تراث القدود الحلبية مع تحويرات بسيطة على بعض كلماتها، حيث يبتدئ الأغنية بمدخلها الأساسي نفسه “على العقيقة اجتمعنا نحنا وسود العيون، ما ظن مجنون ليلى قد جن بعض الجنون” ليغيّره في المقطع الثاني مع تحوير بعض الكلمات لتصب معانيها في إطار المديح النبوي “جاورنا طه الهادي يا نعم الجار، أروينا القلب الصادي بعد انتظار.“
لكن الأغنية، على الرغم التحوير في بعض كلماتها، لا يصيبها تحوير على مستوى الوظيفة الطربية. فالحشد في الحفل يترنم ويطرب للأغنية وكأنها بكلماتها الأصلية، بل إن الشباب الموجود (كل الموجودين ذكور) ينهض بعضه ليرقص رقصًا “دنيويًا” من الرقص السوري الشعبي البسيط على ألحان الأغنية، وذلك بتشجيع من المطرب–المنشد الذي يدعوهم إلى ساحة الرقص. طبعًا من يعرف هذه البيئة لا يستبعد أن يكون بعض الشباب الحاضر يكون قد شرب كميات من الكحول قبل الحفلة، حيث أن شرب المشروبات الكحولية من المحظورات في هذا الطقس البديل عن العرس السوري الريفي التقليدي الأكثر دنيوية من الظاهرة التي نلمسها هنا.
بعد القدود الحلبية، يقدم الحلو على ذات الطريقة أغنية “يا طيرة طيري يا حمامة، وانزلي بدمر والهامة” من التراث الدمشقي وألحان المسرحي والموسيقي أبو الخليل القباني حيث تتحول كلمات الأغنية إلى “يا طيرة طيري يا حمامة، هاتيلي من طيبة سلاما” وقس على ذلك من تحوير للكلمات دون المساس بالوزن والمقام الموسيقيين.
عقب كل ذلك تأتي الفرقة بأنشودة “يا مولاي صلي دائم التجلي، أبدًا سرمدًا على النبي العربي الطاهر النسب“، وهي أنشودة مديح نبوي أصيلة (غير محورة عن أغنية دارجة) وهي هنا تشكل جزءًا من البرنامج الذي تقدمه فرقة الحلو في حفل الزفاف كبديل موسيقي ديني مقبول من السلطة الاجتماعية–الدينية عن الأصل الدنيوي الذي لا يصعب علينا تخيل صورته إذا ما عزلنا المكياج الديني الذي تضعه الفرقة والحضور على حد سواء.
في مستواه الثاني، وإذا ما أبعدنا فضولنا المعرفي ودافعنا للتقييم وإطلاق الأحكام، فإن فيديو كفربطنا وغيره من مئات الفيديوهات على الشبكة، يقدم لنا وثيقة عفوية عن بيئات واسعة من المجتمع السوري في الأرياف المهمشة ثقافيًا لعاصمته حيث انطلقت الانتفاضات الشعبية، ووصلنا اليوم إلى مرحلة تدمير هذه البيئات عمرانيًا واجتماعيًا بصورة يومية. الفيديوهات أو الحفلات المسجلة التي نملكها بين أيدينا هي الآن وثائق لطقوس جزء من المجتمعات السورية الهامشية خلال أعوام العقد الماضي من التاريخ السوري، والتي ما زلنا حتى هذا اليوم لا نملك تغطية نقدية كافية لطقوسها الاجتماعية وفنونها الأصيلة أو “البديلة“.