.
في أواسط القرن التاسع عشر، لم يكن من الممكن تصديق أننا نستطيع اقتناص اللحظة المُعاشة في وصلة طربية أو حتى بعض وصلة، هي اليوم، عزيزة، لا تقدر بثمن. جاءت تقنية التسجيل أو السحر الذي خشي المؤدّون أن يخطف أرواحهم، فترددوا بداية في تسجيل أصواتهم على اسطوانات، ثم تهافتوا على التسجيل. تقنية هبطت علينا مع نهايات القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، كانت وسيطاً هشاً يصعب التعامل معه والحفاظ عليه كلّما استخدمناه، قصر عمره، ورغم ذلك حفظت لنا هذه التسجيلات على علّاتها، ما لم يكن في مقدور أي وسيط آخر فعله؛ لا النوتة الموسيقية ولا الوصف المكتوب ولا الأحاديث الشفهية المغرقة في الغرائبية كانوا قادرين على ذلك، ففي الأسطوانة وحدها تستعاد تفاصيل روح ذلك العصر بين أيدينا بطعم الأصوات والتخوت واستهلال شركات الأسطوانات وانفعال المطيباتية.
جاءت التقنية بحسناتها وسيئاتها، ففضلاً عن كم المعلومات التي وثقتها لنا، في التسجيلات والكاتالوجات، غيرت من طريقة الإنتاج الموسيقي وشجعت على تقليل زمن الغناء نظرًا لمحدودية إمكانيات التسجيل والأداء ومقدار الطرب وعلوّ المزاج ومدى التفاعل وكم الاحتياطات، كما أن جو التسجيل داخل استديو مغلق مقارنة بأريحية الوصلة وطلاقتها والاستعادات والتفنن في التنويع والإبهار وتواصل القطع معاً والاستراحات إلخ، هكذا انتقل تأثير الأسطوانة إلى ما وراء حدود التسجيل ليحدث أثرًا في الواقع وفي الإنتاج الموسيقي Ali Jihad Racy, Record Industry and Egyptian Traditional Music: 1904-1932, Ethnomusicology, Vol. 20, No. 1. (Jan., 1976)..
عند الاستماع للاسطوانات ذات الـ ٧٨ لفة التي كانت تسع حدود الثلاث دقائق ونصف قبل أن تدخل تقنية أسطوانات LP ذات الـ ٣٣ لفة التي ظهرت لاحقًا، ثم نقلها إلى تسجيل رقمي معاصر يبرز موضوعان رئيسيان هما التردد (طبقة الرنين) والسرعة، هناك حقائق معرفتها مهمة بخصوص هذا الوسيط وكيفية التسجيل عليه ولماذا لا يسمح إلا بهذا الوقت القصير وكيف ظهر بعد ذلك التسجيل الطويل، وعلاقة كل ذلك بالسرعة والتردد.
في الفيديو نشاهد الفونوغراف أو الحاكي يشغل أسطوانة تقاسيم بستنكار جميل بك الطنبوري (المتوفى سنة ١٩١٦) على الكمنجة التركية المعروفة عربيًا بالأرنبة، سجلت على الأرجح في عام ١٩١٠ https://searchworks.stanford.edu/view/5990461 . نلاحظ حركة إبرة الفونوغراف تتحرك من خارج الأسطوانة القرص إلى وسطها، تنتقل الإبرة ما بين أول المقطوعة وآخرها فتبدأ من خارج الأسطوانة إلى وسطها وصولًا لما قبل الملصق عند المساحة الضئيلة المعروفة بالشمع الميت وعندها تنتهي القطعة المسجلة.
تتحكم في تلك التسجيلات القديمة عوامل عديدة هي قطر الاسطوانة وسرعة الدوران وعدد المسارات grooves المطبوعة على الأسطوانة من خارجها إلى داخلها، تحدد تلك العوامل سرعة التشغيل فنفرق ما بين أسطوانة سرعة ٣٣ وثلث لفة في الدقيقة وثانية سرعتها 45 لفة و أخرى ذات ٧٨ لفة. في حدود عام ١٨٩٠، كان قطر الأسطوانة ٥ بوصات ثم ازداد ليصبح ٧ بوصات ثم ١٠ بوصات وصولًا لقطر ١٢ بوصة، يتحكم قطر الاسطوانة في سعة زمن التسجيل على الوجه الواحد ويحدده. في البدء كان وجه الاسطوانة يتسع لتسجيل مدته دقيقتين ثم أصبح ثلاث دقائق على أسطوانات قطرها عشر بوصات يمكن مده لثلاث دقائق ونصف إذا استخدم قطر ١٢ بوصة، فإذا كانت القطعة الموسيقية طويلة، سجلت على أكثر من وجه وأكثر من أسطوانة، بافتراض أن سرعة دوران الابرة على الاسطوانة هو ٧٨ لفة في الدقيقة، وبعد تجاوز الأسطوانات الشمعية الأولى المعروفة بالكوباية cylinders التي ظهرت أولًا، تطور الأمر إلى القرص أو الأسطوانات التي شاعت وصارت عملية تجارية سهلة التداول، فشاع رقم ٧٨ لفة لتسميتها رغم عدم وجود تقعيد ثابت لسرعة التشغيل فكانت السرعات في هذه الفترة تتباين ما بين ٧٤ الى ٨٢ لفة في الدقيقة فكانت شركة إديسون على سبيل المثال تطبع أسطواناتها بسرعة ٨٠ لفة بدل من ٧٨، ثم تطورت الأسطوانات لتسع زمنًا أطول على الوجه الواحد فظهرت أسطوانات التسجيلات الطويلة LP سنة ١٩٤٨، حين طبعت شركة كولومبيا تسجيلات كونشيرتو الكمان لمندلسون بعزف نيثن يلتسين.
قد يعرف خبير الأسطوانات أن هذه الأسطوانة ربما كتبت عليها السرعة المفضلة ويخمن أصلح جهاز لسماعها أو التكنولوجيا المستخدمة في التسجيل أو يرجع للكتالوج إن حالفه الحظ في العثور عليه ويلتقط بعض المعلومات المفيدة، لكن ليست هناك سرعة ثابتة تُسجل عليها كل الأسطوانات، فلدينا أقطار مختلفة من الأسطوانات، فضلاً عن التكنولوجيا المستخدمة للتسجيل وما يترتب عليها من اختيار الفونوغراف الأصلح وإمكانياته وتردد الكهرباء التي تشغله لو كان غير يدوي. هناك انطباع عام أن مهندسي الصوت والتقنيين كانت لديهم قواعد واتفاق عام على السرعات وتحري الدقة وجودة المنتج النهائي، لكن الأسطوانات المتوفرة لدينا لا تجعلنا نثق بهذا الانطباع، فمثلاً هناك قطع موسيقية تم تسريعها لكي تتسع على اسطوانة ثلاث دقائق ونصف. علينا أن نضع في اعتبارنا أيضاً ظروف عشرينيات القرن العشرين حين نتحدث عن تراث عصر النهضة المسجل مثلًا، ونفكر في إمكانيات الآلات الموسيقية والأوتار والتأثر بالجو وشروط الاستوديو المتوفرة وحساسية التسجيل والتقنية، والاحتياج لأكثر من وجه أسطوانة للعمل الواحد أو تسجيل أجزاء العمل في أوقات مختلفة، لنفرض مثلًا أن التخت يعزف سماعي ما ثم ينتهي الوقت مع نهاية الخانة الثانية فيُواصل التسجيل بعد التجهيز للوجه الآخر ويتبدل الدوزان قليلًا أو تتغير سرعة الإيقاع أو يتعدى ذلك وقت ما يتحمله وجها أسطوانة واحدة فنضغطه بالتسريع ليناسب صيغة تجارية يمكن تسويقها في شكل مناسب لمشترٍ يتوقع أن يسمع اسطوانات كاملة غير مجزأة.
لنتخيل أننا نستخدم جهازًا كهربائيًا فيه طريقة يدوية لاختيار السرعات أو سرعات محددة مسبقة يمكن الاختيار من بينها، ماذا لو كان الغراموفون، يعمل بشحن الزنبرك أو يدار باليد، هل سرعة الزنبرك ثابتة؟ لنتخيل حدود البوق الذي يخرج لنا الصوت، عمر استخدام الاسطوانة، التشويش وجودة التسجيل، جِدّة الإبرة وجهاز التشغيل والتقطيع والمشكلات التي تعرضت لها الأسطوانة والكسور والإصلاحات؟ ثم نقيس على ذلك ما شئنا من الأسئلة.
لو حالفنا الحظ الباهر ووقع في يدنا تسجيل مُسجل مباشرة من الاسطوانة، سيضيف ذلك إلى التعقيدات السابقة، إذ أننا لن نعرف السرعة الأنسب التي كانت مطبوعة على ملصق الأسطوانة، ولا نعرف ظروف التسجيل ولا تاريخه. نحن نجهل كل الظروف المتعلقة به من تقنية وعادات وتقاليد تسجيل، على أي سرعة أو أي فونوغراف، وكيف سُجل الصوت، والجهاز المستخدم للتسجيل، وما قوة الصوت الصادرة من الاسطوانة وأنواع الضجيج و التضخيم. التضخيم لم يكن موجودًا في الأسطوانات المبكرة، فلو وجدناه كيف سنتحقق من مصدره؟ هل تم تعديل الصوت قبل أن نصل إليه لنجرِ عليه تحريراً جديداً؟
سيسهل الأمر قليلًا، لو وُجد عازف اليوم لنسجله ونعيد سماعه من الاسطوانة بتقنياتها القديمة المحدودة وحسناتها وسيئاتها، لو أتيح لنا ذلك لأصبح من السهل الحكم على السرعة وجودة توثيق الصوت ولسَهُل علينا استخدام التقنيات الرقمية والبرامج المتوفرة اليوم لنصلح ما يمكن أن نلحظ خطأه مباشرة من المثال الحي، لكن المشكلة أننا نحكم اليوم على تسجيلات فنانين وآلات لم تعد متوفرة لدينا، لا نعرف تفاصيل الأوتار التي استخدموها ولا نوع الريشة أو القوس ولا كيفية جلوسهم وقربهم وبعدهم من بوق التسجيل، ولا نعرف كيف كانت رقة العزف أو خشونته وطبيعة ما توفر لهم من إمكانيات. ثم يبرز سؤال آخر، هل تغيرت أصوات الناس الآن عن أصواتهم في عشرينيات القرن الماضي؟ أكانت أصواتهم أغلظ أم أحدّ؟ كم بلغت أعمار المطربين والمطيباتية وقت التسجيل؟ هل اختلف صوت القانون اليوم عن الأمس؟ أو العود والكمان؟ هل نعرف ظروف الاستديو لنضعها في الاعتبار؟
إذا افترضنا أننا ندرس موسيقى غربية كلاسيكية أوروبية، من الممكن أن يتبادر للذهن أن الأمر أسهل. فالتردد لوتر لا المعياري هو 442 هرتز مثلاً وانتهت المشكلة، لكن التسجيلات، حتى الأوروبية الكلاسيكية منها، لا ضمانة أنها كانت على تردد موحد. عودة لموسيقانا، قد يختلف دوزان الآلات الشرقية التي كانت حسب مزاج وصوت المطرب الذي لا يتحكم فيهما صوت البيانو المرافق مثلاً، لذا كانت تنتهي تسجيلات مؤتمر الموسيقى العربية الأول في القاهرة ١٩٣٢، برنين تردد الآلات التي عزفت المقطوعة لكن ذلك حاله حال البيانو في الأوركسترا الأوروبية، فلو وضعنا في اعتبارنا ما يمكن أن يحدث من تسريع مؤثر على التردد أو غير مؤثر، ماذا عن استخدام مطرب طبقة مصورة من صوته؟ رغم ذلك هناك بعض الوسائل التي نحاول فيها تحديد سرعة تشغيل تقريبية بطريقة رقمية، تؤثر في السرعة فقط أو في الرنين أو كليهما؛ أو طريقة ملموسة، بطباعة ورقة عليها خطوط متراصة على دائرة نسلط عليها ضوء ونرى متى تستوي الخطوط في دائرة مرسومة لتظهر لنا السرعة المعقولة بافتراض أن السرعة تكون هكذا ثابتة دومًا ودقيقة وفي حدود ٧٨ لفة، كما يبدو في هذا الفيديو.
نحن أمام مشكلة حقيقية لعشاق هذا النوع من التسجيلات والذين يطيب لهم العناء والمشقة وطول الجدل وسعة البال في سبيل الاستمتاع بهذه النوادر والكنوز التي رغم علاتها ومشكلاتها لولاها لما استطعنا أن نتأكد من شخصية الموسيقى في تلك الأزمان لدى هذه الشعوب التي تعيش اليوم بموسيقى قد ترتبط بتلك المسجلة وقد تبدو لنا منقطعة تمامًا عنها، لا تمت لها بصلة بعد كل المتغيرات في المشهد الموسيقي التي حدثت في شتى الصعد النظرية والعملية والذوقية والإنتاجية والتجارية. هذه المعجزة التي حفظت لنا كنوز الماضي حين عجزت عن ذلك النوتة الموسيقية والسير المكتوبة والمتناقلة، لا تقدر بثمن.
ربما يكون من الحكمة أن نقارن بين تسجيلات قريبة جاءت بعد عصر الأسطوانة كتسجيلات الإذاعة و الوسائط الأحدث آخذين في الاعتبار، معرفتنا بصوت الآلات وصوت المغنين وكذلك الانتباه إلى آلية التسجيل من اللاقطة microphone أو التسجيل على سطح الأسطوانة ومقدار الحساسية والآثار الجانبية على المادة المسجلة. سنعرف أكثر لو انتقلنا إلى مرحلة التجريب بآلات التسجيل القديمة نفسها بعلاتها وبما يشابه قدر الإمكان ما كان متوفراً بالأمس من آلات وقطع موسيقية، ثم نقارنه بتسجيل عصري آخر لنرَ مواطن الاختلاف ونتعلم ونقترب أكثر. هي تجربة أخرى حريون بأن نخوضها لنستعد كنوز الماضي المسجلة على وسيط فريد رغم علاته.