fbpx .

الشيخ إمام والثقافة الشعبيّة

فيصل درّاج ۲۰۱۳/۰۱/۳۰

الثقافة الشعبيّة جسماً قلقاً عابراً للأزمنة

قد يحنّ إنسان، جاوز الخمسين، إلى أغنية ريفية، حفظتها أمة عن أمها حين كانت تلازمها، طفلة، في عملية الحصاد على هوامش القرية. والسؤال: ما الذي يجعل موظفاً، يعمل في مؤسسة ثقافية متقدّمة، يستذكر أغنية قديمة وهو يتذكّر، في لحظة شرود، أطياف أمه الراحلة؟ يقول الجواب البديهي المباشر: إن أسلافنا البعيدين يعيشون فينا، أو أنهم تركوا فينا أشياء حية بعد رحيلهم. أما الجواب النظري الذي يأتي به مثقفون محترفون فيقول: إنها قوة الثقافة الشعبية، التي تسكن في الوعي واللاوعي، والتي تمر على العقل دون أن تغادر “الوعي الجمعي”، الذي يتقاسمه الأحياء والأموات.

وقد يكون الجواب صحيحاً دون أن يكون واضحاً على الإطلاق، ذلك أن الثقافة الشعبية، أو ما يدعى بذلك، متعددة الطبقات، فيها مكان للطقوس والأساطير والحكايات الخارقة والقصص الغريبة وللأبطال الشعبيين وسيرهم، وفيها تلك المادة الحكائية الموحية، التي تحيل على ألف ليلة وليلة وعلى مآثر الشهداء العظام والقديسين وعلى قيم، مهما تعددت أشكالها، تظل نقيضاً للشر والفساد. كانت هناك صعوبة تأتي من تعددية القضايا والمستويات التي تنطوي عليها الثقافة الشعبية، فإن هناك صعوبة أخرى تأتي من التحولات الاجتماعية – الثقافية التي تهمّش وتقرض عالم الثقافة الشعبية، وتحولها إلى ثقافة مراوغة واضحة وجزئية الوضوح في آن، يمكن تأويلها وتوظيفها بأشكال مختلفة، كما أشار الشاعر الراحل توفيق زياد، ذات مرة.

يبدو الحديث عن ثقافات أخرى أقل صعوبة، حال الحديث عن ثقافة السلطة أو الثقافة الجماهيرية، على سبيل المثال. فثقافة السلطة هي تلك التي تنتجها وتوزعها أجهزتها التعليمية والإعلامية وتلقّن مستقبلها منظوراً محدداً إلى العالم، أما الثقافة الجماهيرية، فهي التي تساوي بين الثقافة والتجارة، وتعتبر السوق هو المرجع النقدي الأساسي. على خلاف هاتين الثقافتين، اللتين تردّان إلى قوى اجتماعية أساسية تتعهدهما وتستثمرهما، تبدو الثقافة الشعبية موروثاً، يحمي ذاته بذاته، بل موروثاً يفتقر إلى الاستقلال الذاتي، لأنه قابل للاستثمار من وجهات نظر متعددة، قد تحوّله إلى “فولوكلور تجاري”، أو يشتق منه بعضها حكايات ملحمية تدعو إلى التمرّد والثورة.

ومع أن الثقافة الشعبية تبدو جسماً قلقاً عابراً للأزمنة، فهي في أصولها الأولى إجابات عن حاجات دنيوية عملية، كأن يكون للحصاد طقوس خاصة به، وطقوس أخرى خاصة بالزواج والميلاد والأموات والزراعة وفصول العام الأربعة، أي أنها ثقافة حياتية تعكس الحياة في تنوعها وألوانها وتعارضاتها وإيقاعها، أو أنها ثقافة الملموس، التي تشرح العالم بالإشارات والرموز، لا بلغة المفاهيم المجردة. ولعل ارتباطها بدورة الحياة هو الذي يعطي المتخيّل دوراً واسعاً في صياغتها، معتمداً على الصور والرموز، ومتعاملاً مع واقع بصيغة الجمع، يقبل بالحوار والتحوّل والأنسنة.

في روايته التي لم تكتمل “العاشق” استعان غسان كنفاني بالثقافة الشعبية مرتين: مرة أولى حين جعل الفلاح الثائر يسير على الجمر ولا يصاب بأذى، تعبيراً عن علاقة سرية بين الفلاح الفلسطيني وبيئته، ومرة ثانية حين أَنْسَن الطبيعة كلها، فجعل بين الحصان وفارسه لغة مشتركة وجعل الأشجار والسهول تتواطؤ مع الفلاح المقاتل وتحجبه عن عيون أعدائه، تأكيداً للوحدة العضوية بين الإنسان والأرض. في الحالين كان هناك مجال للغريب والخارق والسحري، وكل ما يحيل على الثقافة الشعبية أو تحيل عليه، الذي يعثر على تجسيداته في الأدب والفن.

من أين تأتي العلاقة الوثيقة بين الآداب والفنون والثقافة الشعبية، أو لماذا تأخذ الثقافة الشعبية، التي هي حاضرة وغائبة معاً مكاناً في الآداب والفنون يتجاوز كثيراً حيّزها في الحياة المعيشة؟ تقوم الإجابة في الحرية الموزعة على الطرفين.

الشيخ إمام ذاكرة وطنيّة تستيقظ في لحظات اليقظة الشعبيّة

يقال: الفن ممارسة للحرية، ودعوة إليها، والفن يصوغ الواقع كما يجب أن يكون، والفن والحلم طريق إلى تخليق واقع جديد. أما الحرية في علاقتها بالثقافة الشعبية فتتجلى في أربعة وجوه على الأقل: فالثقافة الشعبية، في تواترها التاريخي، ثقافة لا مؤلف لها، بصيغة المفرد، فهي محصلة طويلة لتفاعل بين الإنسان والبيئة، وتدع مجالاً للحذف والإضافة، انطلاقاً من حاجات البشر الفعلية، وهي ثقافة مرنة تحتضن إمكانية التحويل والتبديل، وفقاً لأحوال السياق، كأن تأخذ الفلاحة في الفن التشكيلي المصري صوراً لا متناهية، أو أن تحتمل القدس أشكالاً متنوعة في الرسم الفلسطيني، والعنصر الثالث ماثل في المساواة.

ما العلاقة بين هذه المقدمة النظرية الموجزة والناقصة، ومغن مصري رحل قبل حوالي عشرين عاماً (1918- 1995) هو الشيخ إمام؟ تأتي من جماليات الثقافة الشعبية اللصيقة بروح الحياة القائلة بالتنوع والمساواة، ومن شهوة إصلاح العالم، التي لازمت فنانين رومانسيين يبحثون دائماً عن “البراءة الأولى”، التي يمحوها الظلم الاجتماعي بعامة، والقهر السلطوي بخاصة، بأقساط مختلفة.

ما الذي جعل من الشيخ إمام ظاهرة غنائية شبابية في ستينات وسبعينات القرن الماضي؟ ولماذا علا اسمه في  سياق وطني – سياسي وتراجع إلى حدود الاختفاء في سياق آخر؟ ولماذا يختفي الاسم حتى نظن أنه رحل، نهائياً، مع الزمن الذي جاء به، ثم يعود فجأة في لحظات اليقظة الوطنية الشعبية، كما لو كان حضوره مرتبطاً بطبيعة جمهوره أكثر من ارتباطه بأغنيته السياسية؟

تلوذ إجابات الأسئلة بالذاكرة الوطنية العربية، التي تستيقظ في لحظات المقاومة والهزائم، قبل أن تتوجه إلى شخصية الشيخ إمام وما يمثّله، سواء حملت الكثير من الموروث الثقافي الشعبي أم القليل منه. فعلى مستوى الشخص، كان في ذلك المصري الأعمى، الذي ولد عام 1918، ما يذكر بشيخ قديم يحسن تلاوة القرآن الكريم في لحظة، ويقدر على الانتقال إلى أغاني الأفراح والأتراح، في لحظة تالية. بل إن فيه، وهو يحمل عوده ويسير متباطئاً منحني القامة، ما يذكّر بمغن غريب يحجب عينيه الهامدتين بنظرة سوداء، جاء من بيئة فقيرة، ويحصل على رزقه عن طريق الغناء.

لكن إمام لم يأتِ به إلى “الغناء” فقره، ذلك أن الفقر وحده لا يطلق الصوت، ولم يشهره صوته، الذي كان مزيجاً من الحلاوة والخشونة، بل أتى به الغناء سياق وطني مهزوم والتحريض على مقاومة الهزيمة وصانعيها. ولعل موقفه مما هو وطني، في سياق ناصري تميّز بالنهضة والوعود والهزائم، هو الذي قاده إلى أغنية سياسية، تعبّر عن روحه المتمرّدة، وأخذ بيده إلى أغنية سياسية شعبية، تستجيب إلى مشاعر الشباب وعقولهم، ذلك أن أية ظاهرة ثقافة – فنية تولد من جمهورها، قبل أن ترتبط بشخص معين، سواء كان أعمى أم بصيراً.

اشتق الشيخ إمام أغنيته من مناخ ثقافي – سياسي، ترجمه أحمد فؤاد نجم، في كلمات تحريضية، ومن عود أتقن الشيخ العزف عليه، وحسٍ بضبط الإيقاع، تعلمه من الممارسة ومن شريك ثالث يدعى : محمد علي. أعاد السياق صهر هذه العناصر وأنتج منها أغنية أخرى، تختلف عن الغناء المسيطر والمباح، تدعى : الأغنية الشعبية – الوطنية التي لها كلام مختلف، وجمهور مختلف، ولها وظيفة لا يعترف بها القائمون على شؤون الغناء والتطريب. فبالإضافة إلى كلمات، أحمد نجم، استعان الشيخ، بأشعار نجيب سرور وسيّد حجاب وتوفيق زيّاد وزين العابدين فؤاد وغيرهم من “الشعراء” الذين يدعون أحزان العشاق وتنهيداتهم جانباً، ويتحدثون عن الخبز والكرامة والعدالة، وعما يهزم الإنسان العربي في معركة لم يذهب إليها، وعما يمكن أن ينصره لو كانت لديه قيادة رشيدة.

اعتماداً على شكل معين من الغناء، أقرب إلى المنشور السياسي، التقى الشيخ إمام بجمهور كان ينتظره، واعتماداً على سياق ثقافي – سياسي، أراد أن يوحّد بين الوطنية والحرية، التقى الجمهور بفنان شعبي كان يحتاج إليه. أعطى هذا التبادل معنى جديداً للإرسال والاستقبال، بالمعنى الفني، إذ الجمهور يستمع إلى فنانه ويحاوره، وإذ الفنان ينصت إلى جمهوره ويشتق منه الكلام، كما لو كانت الأغنية عملاً مشتركاً ينجزه الفنان وجمهوره معاً. أنتجت هذه الحالة، التي يشترك فيها التلامذة والشباب والمثقفون، كورساً موسعاً من نوع خاص، لا يقف وراء المغني في الإذاعة أو الحفلات العامة، بل يتوزع على البيوت وحلقات الشباب المتمرد والشوارع والمظاهرات أكان ذلك في القاهرة وبيروت، أو بين شباب فلسطينيين يحلمون بتحرير بلادهم.

كل شيء في هذه الأغنية السياسية، أو المسيّسة، كان بسيطاً وواسع الأحلام، فآلة العزف بسيطة والكلمات، لا تحتاج إلى شعراء كبار و”الصالة” مرنة متقشفة، لا تحتاج إلى مختص في التكييف أو الإضاءة. وراء كل ذلك كانت تتمدّد جمالية الأرواح، حيث الشيخ المغني الستيني يصبح شاباً وهو يغني للنيل وفلسطين، وجمهوره مزيج من القلوب الحارة والأيدي المصفقة، ولا أحد بين الشباب المتمرّد لا يستظهر فرحاً: “مصر يمّة يا بهية” أو “همَّ مين وإحنا مين”، أو “أنا الأديب الأدباتي”.

أنجز الشيخ في فنه ما يمكن أن يدعى بـ : الأغنية الأخرى، التي تنقد وتحرّض وتعلّم وتغني بشكل جماعي، بعيداً عن أغنية المطرب التقليدي الذي يقف بعيداً وينتظر التصفيق، ويلوذ مبتعداً حين ينهي “عمله”. وأنجز الذين ينتسبون إليه ما يمكن أن يدعى بـ : الجمهور الآخر، الذي لا يكترث بشكل المغني، ولا يحلم بصورة معه، بل يحمله إيقاع الأغنية إلى ما وراء الأغنية، إذ للبشر حقوق متساوية، وإذ فلسطين يحرّرها العقل والإرادة لا ثقافة التطريب والأدعية. وواقع الأمر أن في وحدة الأغنية الشعبية السياسية والجمهور، ما يشعر بأغنية لا مؤلف لها، بل يؤلفها الذين يغنونها بعقل بارد وقلب حار، ولا ملحن لها، فلحنها الحقيقي صادر عن اندفاع الجمهور وحماسه ورغبته في تحويل الكلمات إلى وقائع. لا غرابة أن تصبح أغاني “إمام”، في زمن مضى، جزءاً حميماً من “سهرات الشباب”، تخاطب العقل والقلب والجسد، وتخلق تلك الحالة المعنوية الأقرب إلى الحلم، التي تحرر الإنسان من حسبانه اليومي الموجع، وتوقظ فيه حلماً جماعياً أقرب إلى “المدينة الفاضلة”.

الأغنية السياسيّة، والتجارة التي تغتصب شكل الفن

يقال في الفلسفة: “لا يصبح الإنسان إنساناً إلا بالسياسة”، أي بمعرفة الفرق بين العادل وغيره، ويقال على مقربة من الفلسفة: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، في إشارة إلى ما تشتهيه الروح. ربما كان في الفضاء الذي كانت تشعله “أغاني إمام” قران سعيد بين وعي سياسي ينشد العدل، ونزوع روحي ـ معنوي إلى كسر القيود وتعطيل الأقفاص والطيران إلى “عالم آخر” نظيف، واسع الأرجاء ومتقشف الأثاث.

ليست المدينة الفاضلة، في التعريف الأخير، إلا عالم الحرية والكرامة، الذي يتراءى في أغنية شعبية – جماعية تغاير كلياً “الطرب الاستهلاكي”. فإذا كانت الأغنية الشعبية تعبيراً عن خبرة متراكمة، ، تعرف وتحلم بأكثر مما تعرف، وتظل مشدودة  إلى القيم، فإن الفن الجماهيري، يبدأ بالبيع والشراء، ويوطّد الذوق الذي يساعد على البيع والشراء، وقد تمتد سطوته، أحياناً، إلى درجة تعطّل الذوق السليم، وترمي على الفن الحقيقي بأشكال مختلفة من العزلة والاغتراب. إنه تجارة، لها شكل الفن، تقوم غالباً على الإعلان والصورة والريع، ولا تعبأ بمعايير الفن بقدر ما تحتفي بالإعلان وبصور المعلـَن عنه.

ولعل الإعلان، الذي يغتصب موقع الفن، أو الفن المختصر إلى إعلان مبهر الألوان، الذي صعد في العقود الأخيرة صعوداً مدوياً، هو الذي جعل الشيخ إمام جزءاً من ماضٍ بعيد، ارتبط بهزيمة حزيران 1967 المنسية والرد عليها. ولا غرابة أن تأفل صورة هذا المغني مع أمور كثيرة آفلة، ليست آخرها الحس الشعبي السليم والتحزب السياسي، وألا تظهر، بشكل موسمي، إلا في مناسبات وطنية، أو في حيّز ضيّق يبحث عن التسييس أو يميل إليه.

فقد كان في أغنية إمام، كما في الثقافة الشعبية بعامة، بعد “كرنفالي” شعبي يحتفي بالبهجة والحياة، لا يتأتى عن الأغنية بقدر ما يأتي عن تفاعل الجمهور معها. وكان فيها أيضاً صورة للشعبي – الوطني، الذي يحتفي بالبطولة لا بـ “الأبطال”، فإن احتفى بالأبطال فلأنهم يجسدون الإرادة الشعبية المقاتلة التي تتجاوز الأفراد الحرية. يتراءى ذلك، على سبيل المثال لا أكثر، في أنشودة “أنا رحت القلعة وزرت ياسين”، حيث ياسين فرد من أغفال البشر، إنسانيّته مما يطمح إليه وقيمته من ذاته لا من الألقاب التي أسبغت السلطة عليه، وكذلك أنشودة “الحمام” التي توكل حفظ “السلام” إلى قروي بسيط جاء من قرية مصرية مهجورة. وما يقال عن الشعبي – الوطني يقال عن الوطني ـ القومي، الذي لباه الشيخ في أغان كثيرة عن فلسطين ليست آخرها مخيم “تل الزعتر”، الذي هو “ياسين” آخر، لم يسجن هذه المرة، بل أعدم وحرم من “نعمة القبر” أيضاً.

متكئاً على موروث ثقافي شعبي يسبق سيد درويش ويمر ببيرم التونسي ولا ينتهي بسيد حجاب أعطى الشيخ إمام: الأغنية الأخرى، التي تنقد وتعلّم وتقاوم، وأعطوه الذين أقبلوا عليه: الجمهور الآخر. غير أن الآخر، أي الجديد، على صعيد الأغنية والجمهور معاً، لم يكن قوي الأركان، ولم يكن بإمكانه أن يكون قوياً في إطار ثقافة العادات وأغنية العادات والمعايير التي ترى في الجديد، دائماً، تطاولاً يجب قمعه، خاصة حين يمس التطاول السلطة السياسية وما يمثلها في مجال “الغناء والطرب”.

أتت الصعوبة الأولى التي واجهت “الأغنية السياسية” سواء ارتبطت بالشيخ إمام أو بغيره، من الصعوبة المستمرة التي تلازم مصطلح : “الثقافة الشعبية”. فهذا المصطلح في نصفه الأول لا يثير صعوبة تذكر، فالثقافة هي الثقافة سيّان إن كانت منهجاً في الحياة أو اختصرت إلى شؤون القراءة والكتابة، كما أنه في نصفه الثاني لا يطرح مشاكل كثيرة، فالشعبي هو البسيط والأدنى والخام وغير الأكاديمي، … غير أن الصعوبة تأتي من المصطلح في عنصريه، ذلك أن الثقافة المسيطرة تعتبر الثقافة مرتبة اجتماعية، مقصورة على النخبة وما يشبه النخبة، وترى تالياً في الثقافة الشعبية نتاجاً سوقياً لا يجوز أن تسبغ عليه صفة الثقافة: إنها ثقافة العوام أو ثقافة الدهماء، أو ما ينقض الثقافة بشكل عام. لا يكون الفنان ، والحالة هذه ، إلا فرداً من النخبة، إن لم يكن نخبة النخبة، أي ذلك “العبقري” الذي يفسّر بذاته لا يفسّره غيره.

في هذا التصوّر الذي لا يعترف بالثقافة الشعبية لا تكون أغنية إمام إلا فولكلوراً ساذجاً أو مادة تمتع العوام. والمرفوض هو ليس الأغنية بذاتها، فناً كانت أو بعيدة عنه، بل منظورها للعالم، الذي ينقض وينقد ويحرّض ويحض على المقاومة. يختصر التصوّر التقليدي، القائم على التراتب، الثقافة الشعبية، إلى حيز “الفئات السفلى” الفقيرة، ناسياً أنها محصلة لخبرة ومعاناة قديمتين، وأنها ثقافة متعددة الطبقات منفتحة على الحياة وتحيل على حاجات الإنسان المادية والمعنوية. إنها الشعبي المحدود السلطة الذي لا يحرسه أحد، في مقابل الجماهيري الواسع السلطة، أو أنها ثقافة الناس العفوية في مقابل ثقافة السلطة.

يكشف النظر إلى عناوين أغنية الشيخ إمام ومواضيعها عن الأسباب التي وضعتها خارج الغناء التقليدي: “اصح اصح طال النوم، ألف باء محو الأمية، يعيش أهل بلدي، نبات الأنفوشي، بوتيكات، الحزب الجديد، قاضي المظالم، يا مصر قومي، شرفت يا نيكسون، هوشي منه، جيفارا مات، سليمان خاطر، يا فلسطينية، فاليري جيسكار دستان، طلع الصباح، ….”. قادت هذه العناوين الشيخ إلى السجن عدة مرات في زمن عبد الناصر وزمن السادات أيضاً.

تتعيّن أغنية الشيخ إمام بياناً نقدياً عن الفروق الاجتماعية، ومنشوراً سياسياً تحريضياً يستنهض الشعب، ويقاوم ثقافية التبعية، وتذكيراً بقيم المقاومة، والمقاومين، والتزاماً بالكفاح القومي والأممي، … تجمع هذه الأبعاد بين التربية والنقد الساخر، إذ السخرية الناقدة في ذاتها موقف من العالم، وهناك المتعة الصادرة عن غناء جماعي” تتضاءل فيه المسافة بين المغني والجمهور … وهي إضافة إلى هذا كله تربية ممتعة تعتمد على الشفهي والكلمة العامية البسيطة التي تجد لذاتها مرادفاً في أرجاء الحياة.

*تم الاستناد على هذه الدراسة في محاضرة ألقيت بدارة الفنون بعمّان 2012.

المزيـــد علــى معـــازف