.
1
“اسمعوا القول الفصل: أجمل ما تسمع الأذن سي عبده إذا غنى يا ليل وعليّ محمود إذا أذّن الفجر وأم كلثوم في إمتى الهوى، وما عدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب” (1)
بالسّمع عنه لا بالسماع منه، عرفتُ الشيخ عليّ محمود. في صيف عام 1998 قرأتُ اسم الشيخ علي مرتين لا يفصل بينهما سوى ليالٍ معدودات، الأولى في رواية نجيب محفوظ “خان الخليلي” والأخرى في كتاب كمال النجمي “تراث الغناء العربي“. سماعي عن الشيخ علي من خلال نجيب محفوظ أسكنه تلك المساحة من الذاكرة في رحاب ذلك البعيد الغائم الذي رغم كونه بعيدًا يُستدعى إلى الذاكرة بعفوية وعلى حين غفلة منا فيصير حميمًا قريبًا، لا تعرف كيف تشكله حواسك التي تخلط ما بين الواقع الذي كان ذكرى فصار متخيلًا والمتخيل الذي صار واقعًا. مثله مثل مئذنة جامع محمد أبو الدهب، التي ظننتها مئذنة الأزهر وقت أطلعتُ عليها صغيرًا من شباك بيت جدّتي، جدتي التي كانت حتى قراءتي لنجيب محفوظ وغيره من الأدباء الأفنديّة “ستي“، تلك الكلمة العاميّة التي لم تعد مستخدمة في لغتي الشخصية. مثل الزيارة الأولى للغوريّة التي كنت أنطق اسمها الغوريلا تأثرًا بأفلام عادل إمام وفؤاد المهندس، ومثل كل ذكريات الحي وحكايات أم الغُلام والمِطَاهر الذي يختنُ الأطفال عند جامع فاطمة النبوية، وتكية الدراويش الواقعة أسفل الجبل عند جامع أصلم، التكية التي لم تكن هناك أبدًا. وبائع البليلة الواقف صباحًا في مدخل ربعٍ مجاور لباب زويلة، الذي كان هناك ذكرى لكنه لم يعد أبدًا، أسكنته القراءة الأولى في حارة نجيب محفوظ المتخيلة، مع الحرافيش والفتوات والدراويش والتكايا.
في أيام بعيدة لم يتم إختراع مكبر الصوت بعد، يعتلي فيها الشيخ علي محمود مئذنة المسجد الحُسيني ليؤذّن كل فجر من مقام موسيقي مُختلف فيُسمع من باب الفتوح إلى بوابة المتولي؛ أما القراءة الثانية لاسم الشيخ علي محمود فجعلته ينتمي إلى ما لم أسمعه واشتقت لسماعه، الموسيقى التي يحكي عنها كمال النجمي، “تلك الموسيقى“، بحسب تعبير فادي العبد الله، “التي لا يشار إليها بـ“هذه“، هي دوماً “تلك“، على مسافة، وإن ضؤلت، فلا يحاصرنا صوتها إلا برفق، ولا يقتحم علينا عيشاً إلا ضيفاً غير ثقيل” (2)
إلى تلك الموسيقى ينتمي الشيخ علي محمود، الموسيقى التي سمعت عنها طفلًا ومراهقًا ولم أستمع لها إلا شابًا، عبر الإنترنت، الشبكة التي تقربنا للماضي البعيد الغائم وهي تسلبنا إياه وتستلبنا منه في ذات اللحظة، في تسجيل إذاعي لمحمود السعدني في برنامج “هؤلاء والقمر“، تسأله سامية صادق عن أي أغنية يصطحبها معه إلى القمر لتظل معه هناك طوال إقامته ولا يسمع سواها، فيجيبها هادئًا “إسطوانة لعمّنا الشيخ علي محمود“.
2
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1215″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”style”:”float: right; “,”typeof”:”foaf:Image”}}]
“خلياني بلوعتي وغرامي“، شعر بهاء الدين العاملي
كان الاستماع الأول للشيخ علي محمود ناقصًا، لم يُذع البرنامج التوشيح كاملًا واكتفى بأول ترديد للأبيات، من دون الترديد الثاني. لكن حتى ذلك الترديد الناقص كان كافيًا للدخول إلى عالم الشيخ علي محمود، الذي لا تُسعف المعلومات المتناثرة على الشبكة إلا في التعريف الأولي بحياته لا بصوته. فقد وُلد علي محمد في عام 1878 حسب الويكيبيديا العربية (أو عام 1880 بحسب مصادر أخرى) (3) في درب الحجازي بالجماليّة، “وعندما فقد بصره في مرحلة الطفولة، إتجه إلى حفظ القرآن في مكتب الشيخ أبوهاشم الشبراوي الملحق بمسجد الأشرف أينال المعرف بمسجد أم الغلام، ثم أخذ علوم القرآن وأحكام التجويد عن الشيخ مبروك حسنين في الأزهر الشريف، وتلقى مبادئ الفقه على يد الشيخ عبدالقادر المازني” (4) وتُوفيّ في 21 ديسمبر 1943، – وهو ما يجعل ذكر نجيب محفوظ له في رواية منشورة عام 1946 بمثابة وداع ولو من طرفٍ خفي-.
سجّل الشيخ علي محمود “خلياني ولوعتي وغرامي” على أسطوانات شركة أوديون بصحبة البطانة على طريقة الإنشاد. وسجّل الشيخ أبو العلا محمد نفس الأبيات مُلحنة بلحن آخر مختلف، ما يمنحنا فرصة، تندر في حالات أخرى لا يوجد فيها سوى تسجيل يتيم، للمقارنة ما بين اللحنين. إذ يغنّي الشيخ أبو العلا مُحمد على طريق القصائد المُغناة، من مقام الحُجاز، بعد فرشة من التخت للدخول في قالب المقام. ولا ينتقل الشيخ أبو العلا إلا حين يردد “إن من ذاق نشوة الحب يَوْمًا لا يبالي بكثرة اللوام“، ويبلغ درجة الجواب في مد الألف من “يبالي” ليعود ويكررها بطريقة مُختلفة، في حين يكتفي التخت بإكمال الجملة أو قول المَرَدات.
يُنشد الشيخ علي محمود الأبيات نفسها على مقام الراست، باختلاف في بعض الكلمات وترتيب الأبيات، على طريقة التوشيح الديني بصحبة البطانة، بتقسيم الأبيات ما بينه وبين بطانته. ولا يكمن الاختلاف ما بين الشيخين في اختيار المقام فقط، بل في اختلاف الأسلوبين تمامًا: ففي التوشيح تفرش البطانة للشيخ علي قرار ينطلق منه ليبدأ إنشاد “خامرت خمرة المحبة عقلي” من جواب البطانة لا من قراره الخاص، ثم يكررها ثانية من جواب مختلف، ليعود ويسلم البطانة القرار عند “جرت بين أضلعي وعظامي“، باختلاف الكلمات ما بينه وبين الشيخ أبو العلا محمد الذي يغني البيت “وسرت في مفاصلي وعظامي“. ويستخدم الشيخ علي مخارج الحروف استخدامًا فنيًا واضحًا في نطقه “أضلعي“، ووقوفه على حرف الضاد، بينما ينطق الشيخ علي محمود “بَيْن” “بِين” ممالة إلى المد كأنها عامية مصرية أو ربما على طريقة إمالة قراءة ورش المشهورة بين القراء المصريين باسم القراءة السابعة، وهو يتكئ على هذه الإمالات ليبلغ درجة القرار بعد جواب، وهي طريقة في الإنشاد جودّها الشيخ علي محمود وبلغ بها ما لم يبلغه أحد من معاصريه، إذ ينطق البيت الآخر “إن من ذاق نشوة الحب يُومًا لا يبالي بكثرة اللوام” بنفس الإمالة، بضم الياء لا فتحها، ليستعرض صوته مرتين في بلوغ قرار منخفض بعد جواب مرتفع، ثم يكرر نفس البيت بإيقاع مختلف عن المرة الأولى.
3
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1216″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
“جدّد الوصل قد عدمتُ رقادي“
ينشد الشيخ علي محمود، في تسجيلاته التي سجلها لأسطوانات أوديون أو تلك التي سجّلتها الإذاعة المصرية، بطرق عديدة، إما منفردًا وإما بصحبة البِطانة و/أو الموسيقى. ومن مقام الهزام سجل الشيخ قصيدة “جدّد الوصل قد عدمت رُقادي” بإنشاد منفرد دون صحبة آلة موسيقية أو بطانة. وفي أدائه للقصيدة ينطق الشيخ علي محمود “جدّد” بالجيم القاهرية غير المُعطشة، ويميل ألف المد في “البعاد” مرةً وحين يكرر البيت ثانية لا يميلها، وفي البيت الثاني “أنت قصدي وبغيتي ومرادي لا تحارب بناظريك فؤادي” يُميل مد الياء، في زخرفة صوتية يبلغ معها قرار صوته كما لو كان يؤدي جوابًا مقلوبًا، ثم يعود ليطلق لصوته عنان التفريد عند ياء المد في “يا مريض الجفون“.
مستعينًا بأحكام تجويد القرآن، يستخدم الشيخ علي محمود في إنشاده أحرف المد استخدامًا فنيًا، فحروف المد “تُسمى حروف مد ولين لامتدادها في لين وعدم كلفة” (5)، وخاصة حين يميل ياء المثنى ليجعلها ياء مد مُظهرًا لينها واستخدامات علي محمود في إنشاده تتنوع ما بين بلوغ الجواب عند المد بالألف، أو الانتقال من درجة ركوز مقام إلى درجة ركوز مقام عند إمالة الواو، أو الهبوط الساهي كما لو كان يؤدي جوابًا مقلوبًا عند مد الياء أو إمالتها.
4
يتمتّع الشيخ علي محمود بأفضليّة على من سبقوه، لمعاصرته نشوء سوق المعنى، بحسب تعبير بندكت أندرسون في “الجماعات المتخيلة“، في الثلاثينيّات. وهي النشأة التي أعقبها حكايات التأسيس للهويّة المصريّة، والتي استلزمت أن يكون للأمة ملحّن قومي، مثل سيّد درويش، ومقرئ قومي مثل الشيخ محمد رفعت، ومنشد مؤسس لفن الإنشاد الديني مثل الشيخ علي محمود.
ولأنّنا لا نملك تسجيلات لمن سبقوه مثل الشيخ أحمد ندا أو الشيخ منصور بدار، ونملك تسجيلات معدودة غير كافية للشيخ اسماعيل سُكر، فستبقى قضية التأسيس بلا حسم. خاصّة وإن تسجيلات الحملة الفرنسيّة في كتاب “وصف مصر” للإنشاد الديني في القرن الثامن عشر أو وصف إدوارد لين في “المصريون المحدثون” لإنشاد القرن التاسع عشر تحفظ لنا تدوينًا وصفيًا لطريقة المحاورة والتقسيم ما بين المنشد والبطانة. وبعض ذاك الموصوف ظل دون تغيير حتى زمن قريب، مثل وصف نشيد العودة من موكب الطواف، الموصوف في المجلد الثامن من وصف مصر، لترديد لفظ الجلالة “الله” من قبيل الدراويش في زفة المولد، وهو إيقاع يبدأ ببطء ثم يتسارع جدًا ثم يخفت في النهاية. وهو الإيقاع الذي ظل معمولًا به في الموالد حتى اقتبسه سيّد مكاوي في “الليلة الكبيرة“. ولأن حكايات التأسيس تتداخل مع حكايات تأسيس الأمة، يُحكى أن، في حكاية شبه أسطوريّة والعهدة على الرواة، إن الشيخ علي محمود أنشد توشيح “السعد أقبل بابتسام” احتفالًا بعودة سعد باشا زغلول من المنفى، ولأن الحكاية من حكايات التأسيس، سواء تأسيس الإنشاد أو تأسيس الأمة، فهي مثل حكايات أخرى، لا يُمكن نفيها ولا يمكن إثباتها.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1217″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
“السعد أقبل بابتسام“، أداء الشيخ علي محمود بصحبة البطانة
يسمح توشيح “السعد أقبل بابتسام“، وبغض النظر عن الحكاية المذكورة، بالتأمّل في طريقة أداء الشيخ علي محمود بصحبة البطانة. فالأداء يبدأ جماعيًا ثم ينفرد الشيخ بترديد نفس البيت مرة أخرى ويعلو ويبلغ ذرى الجواب ويعود ليناول بطانته البيت مرة ثالثة ليؤدوه بصورة مختلفة، وفي هذه الطريقة من الأداء يقوم المنشد باستعراض قدرته على التفريد وخاصة في منطقة الجواب وجواب الجواب، وتقوم الطريقة كذلك على الحوار القائم على محاورة أفراد البطانة وإصابتهم بالحيرة، بحيث يعجزون، في بعض الأحيان، عن التقاط درجة المقام من الشيخ علي محمود فيقوم هو بإكمال الحرف أو النغمة، وهي طريقة لا نعرف على وجه الدقة منشئها، لكنها تتردد في كافة الفنون الجماعية القائمة على الحوار بين مغني فرد وجماعة مغنية، وفي ثقافات إسلاميّة متعددة، ويمكن حتى أن نلمحها في أداء القوالي الباكستاني الشهير نصرت فاتح علي خان وجوقته.
5
لا تتوقف حكايات الشيخ علي محمود وأساطيره عند حكاية إنشاده لدى عودة سعد باشا زغلول من منفاه. فعمّار الشريعي في تسجيل من برنامج (غواص في بحر النغم) يحكي نقلًا عن الشيخ مصطفى اسماعيل، أن أنفاس الشيخ علي محمود، إذا أنشد، كانت تشبه وابور السكة الحديد. ويحكي محمود السعدني عن قصة حب بين الشيخ ومقرئة اسمها كريمة العدلية، “كانت تعشق صوته وطريقته الفذة في الأداء، وكان هو يفضل الاستماع إليها ويفضل صوتها على أصوات بعض القراء، وكثيرًا ما كانت تصلي الفجر في الحسين في الركن المخصص للسيدات لكي تتمن من سماع صوت الشيخ علي محمود وهو يرفع أذان الفجر بصوته الذي ليس له مثيل“. (6)
وإذا كانت تلك الحكايات تقع في باب ما لايثبت صدقه أو كذبه فإن تأثير الشيخ علي محمود على جمهوره مثبت ومسجل في أكثر من تسجيل، من بينها تسجيل لليلة المولد النبوي الشريف، تحتفظ به الإذاعة المصرية، بدأه الشيخ بترتيل أبيات من “التعطيرة الشريفة” ثم أعقبه بإنشاد قصيدة “أدخل على قلبي المسرة والفرح” ثم أنشد بصحبة البطانة “أضاء النور وأنقشع الظلام” ليعود وينشد منفردًا بيتًا واحد لا غير، “لك الصباح وضيء منك إذ شرف الوجود مجيء” أسكر به السميعة بأدائه الذي ليس له مثيل، ونسمع في الخلفية صيحات مثل “والنبي كمان” و“يمد لك النبي زيادة” بل وربما هتف أحدهم قائلًا “يا نهار اسود“
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1212″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
“لك الصباح وضيء“
وأداء الشيخ علي محمود في ترديد “لك الصباح” أداءً فنيًا عجيبًا، إذ يرددها كل مرة من جواب مختلف، ثم يصل إلى ذروة التطريب حين يقطع مد “لك الصباح” قبل أن ينطق الحاء وينطلق ببقية المد من الجواب إلى جواب الجواب. وزيادة في العجب، ينشد الشيخ علي محمود “لك الصباح” المقطوعة كأنها “لك الصبا” من مقام الصبا نفسه، وهو ما استدعى صرخات حقيقية لا مصطنعة، من سميعة استبد بهم الوجد طربًا.
6
يروى محمود السعدني في كتاب “ألحان السماء” عن الشيخ محمد الصيفي أنّه قال “هذا الرجل – يقصد سيد درويش– أحدث انقلابًا في فن الموسيقى، وهذا الرجل – يقصد علي محمود– أحدث انقلابًا آخر في فن الموشحات“. وإذا كانت فترة التكوين في حياة الطرب والإنشاد للأمة المصرية تجمع حكايات كثيرة متخيلة، لكنها أيضًا شهدت لقاءً حقيقيًا غير متخيل، في توشيح “إن ميلاد الرسول المصطفى“، التوشيح الوحيد الذي لحنه سيد درويش، وأداه الشيخ علي محمود بصحبة البطانة.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1213″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
“إن ميلاد الرسول المصطفى“، تلحين سيد درويش
والتوشيح، على الرغم من حمله لاسم سيد درويش، لا يحمل تجديدًا فارقًا، ويعتبره عشاق تفاريد الشيخ علي محمود موشحًا سيئًا. إذ حاول سيد درويش، المؤمن بجماعية الأداء، قلب الأدوار ما بين المنشد والبطانة. ففي التوشيح لا يصبح صوت الشيخ علي محمود البطل بل يعلو أداء البطانة عليه، وربما كان ذلك تأثرًا برغبة سيد درويش في إضفاء جماعية الغناء مقابل فرديته على مجمل ألحانه الأخرى.
7
لا نعرف مدى صحة حكايات الشيخ علي محمود مع أهل الغناء الآخرين، ولا نستطيع إن نجزم بصحة ما إذا كان محمد عبد الوهاب، استلقى تحت دكة الشيخ طفلًا أم لا، أو ما إذا كان راجع ألحانه الأولى على مسامع الشيخ أم لا (7). ولا نستطيع كذلك تأكيد صحة ما إذا كانت أسمهان غنت موشح “يا نسيم الصبا” بحضرة الشيخ وأحمد حسنين باشا أم لا، لكننا نعلم أن محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش في جلسة خاصة دندنا هذا الموشح. ونعلم أن تلميذ الشيخ علي محمود، زكريا أحمد شارك في إعداد اللحن (8) الذي يُعد بمثابة ذروة الأداء الطربي العابر للأجناس للشيخ علي محمود. فالموشح يعتبر جسر بين الغناء الطربي والتواشيح الدينية، وسجّله الشيخ علي محمود الموشح على إسطوانات أوديون بصحبة كمان سامي الشوا.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1214″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
“يا نسيم الصبا تحمل سلامي“، شعر الشيخ محمود بن عبد الله الشهال
يبدأ اللحن، أو لنقل فرشة الأداء –فالشيخ علي محمود ينتقل من مقامٍ إلى آخر بيسر وسلاسة–، من مقام الحُجاز. يبدأ الشيخ الإنشاد من درجة الجواب عند ياء النداء في “يا نسيم الصبا“، لترد عليه كمان سامي الشوا، بغناء نفس الكلمات كأنها البطانة، فهنا تكتفي الكمان الشرقي ذات الصوت الشبيه بالكمنجة الفارسيّة، بترديد مردات الشيخ علي محمود، على عكس أداء القصائد المُلحّنة. فالكمان، أو القانون في تسجيلات أخرى للشيخ، ليس سوى خلفية موسيقيّة تؤدي المَرَدات، أو بالأحرى تلتقط من صوته اللحن ولا يلتقط هو من لحنها. ثم يعود الشيخ إلى ترتيل “ثم بلغهمُ تحايا مُحبِ خلفوه ينوح نوح الحمام“، مع التركيز في النطق على مخارج ألفاظ بعينها يعرفها السامع الخبير بقراءة القرآن: فهو يظهر الحاءات المتتالية في “ينوح نوح الحمام” بقواعد الإظهار نفسها المتبعة على نحو “ولتصنع على عيني” في سورة طه، ثم يرتكز الصوت إرتكازٍ خفيف في “لعل الزمان” الأولى، ليعاود التفريد بتكرارات مختلفة، وينوّع بها في بلوغ درجة الجواب وجواب الجواب مرة بين مد الألف في “الزمان” ومرة أخرى في إمالة الواو نحو المد في “يومًا“. وتكرار المدين المتتالين نوعٌ من التطريب المبهر لا يقدر عليه سوى صوت مقتدر مثل صوت الشيخ علي محمود، فهو يبلغ بأحد المدين الجواب حينًا ليعاود الهبوط الساهي بالمد الثاني نحو القرار، أو العكس، وتارة أخرى يبلغ بالمدين الجواب ثم جواب الجواب. بلغ الشيخ علي في أداء هذا الموشح قدرة عجيبة في إظهار فنيات الصوت المُفرد، درجة تصبح معها كل الكتابة عن عبقرية هذا الأداء مجرد ماء قراح يكسر الصهباء الصافية ويعكر لذة الُسكر الناتج عن السماع.
8
وتكتشف في لحظة يقظة من نشوة السُكر إذ يستبد بك صوت الشيخ طربًا، إن الكلام عن الشيخ يقصر ولو طال، والكتابة عنه لا تكفي ولو كثرت وفاضت، خاصة لو كانت هناك رحلة شخصيّة مع صوت الشيخ علي بدأت بالسماع عنه وانتهت بخروج من حضرته في وضعٍ أشبه بالمريد. أفضّل صوته عن صوت الجميع، وأضعه في مكانة تطريب لن يبلغها أحد سواه، هي سدرة منتهى الوجد والطرب والسُكر الحادث عن شرب الحُب، مثلي كمثل سامع تدرج في السماع حتى صار سميعًا، يسمع عن الشيخ فيتسمع أخباره وحكاياته ثم يستمع إلى صوته فيسمع إليه حتي يسمع منه، فلا يسمع دون الصوت سواه. ويظن أن الشيخ ينشده وحده، والسميعة أيضًا من حوله، ألوفًا لكنهم أحاد، كل سميع يظن الشيخ ينشده وحده، والشيخ يصدح بصوته وحده، من دون أن يدر بهم. يسمع نفسه بنفسه ولنفسه، والسماعون من حوله يألفون الصوت والصوت يألف صيحاتهم ويؤلفها، ويستبد بهم الوجد هاتفين “والنبي خليك معانا” والشيخ في مكانه لم يبرح، ويهتفون بآهات الحزن وصيحات الفرح وصوت الشيخ نديًا، بين بين، لم يفرح ولم يترح، ويستبد بهم السُكر فيرددون للشيخ بيتًا ردده سابقًا لهم “يا من أعيذ جماله بجلاله حذرًا عليه من العيون تصيبه” ويسرحون معه كالطير السارح ثم يختمون قولهم بالتصديق على قول عبد العزيز البشري “إن صوت الشيخ علي محمود من أسباب تعطيل حركة المرور في الفضاء، لأن الطير السارح في سماء الله لا يستطيع أن يتحرك إذا استمع إلى صوت الشيخ” (9)
(1) نجيب محفوظ، خان الخليلي.
(2) فادي العبدالله، عن تلك الموسيقى http://www.ma3azef.com/node/220
(3) نبيل حنفي محمود، علي محمود إمام القراء من المنشدين http://ahramonline.org.eg/articles.aspx?Serial=642600&eid=1434
(4) د. محمد صلاح الدين بك: “الشيخ على محمود. فقيد الفن والموسيقى“، الراديو المصري، العدد 466، نقلًا عن المصدر السابق.
(5) محمود خليل الحُصري، أحكام قراءة القرآن الكريم، المكتبة الإسلامية ودار البشائر، 1999.
(6) محمود السعدني، ألحان السماء، طبعة دار أخبار اليوم، 1994.
(7) محمود السعدني، نفس المصدر.
(8) نبيل حنفي محمود، مصدر سابق.
(9) شكري القاضي، عباقرة التلاوة في القرن العشرين، كتاب الجمهورية، 1998.