.
طرح بيار شيفر من خلال الموسيقى الواقعيّة مفهوم الاستماع المختزل، متأثرًا بإدموند هوسرل، وهو الاستماع القائم بشكل واعٍ على تجريد الموسيقى من خلفيّتها الثقافيّة والتاريخيّة ومصدر الصوت والآلة بهدف تلقّي الموسيقى بطريقة أفضل والتماهي معها. لكن بيار بوليه وتلاميذ شيفر انتقدوا هذا المفهوم لاستحالة تطبيقه إلا على الموسيقى الواقعيّة، معتقدين أنّه من الطبيعي أن يقوم المستمع بالبحث عن مصدر الصوت، وبأن العمل الفني نتاج عوامل كثيرة تنعكس على طريقة استماعه، كما أن طريقة الاستماع هذه لا تتضمن نقدًا موضوعيًا. من هنا، لعلّ العديد من المستمعين يطبقّون مفهوم الاستماع المختزل بشكل غير واعٍ، وهكذا يكتفي البعض بالنقد الانطباعي للعمل، متجاهلين أهم عناصر العمل الجاد التي سنعمل على رصدها في هذا المقال.
في ظل ظهور حركة نقديّة عربيّة للموسيقى مؤخرًا (يمكن اعتبار معازف محاولة جادّة في هذا التوجّه، إضافة إلى محاولات في مواقع أخرى لم تتأسّس بعد، لكن هناك اهتمام كبير وبدأ الكتّاب يبحثون عن طرق مختلفة للنقد، وهذا المقال محاولة في نفس الاتجاه)، أصبحت هناك حاجة إلى الاجتهاد لطرح بعض المواضيع التي قد تساعد في العملية النقديّة وفتح مجال أوسع لها. فكثير من النقد الموسيقي يتحوّل إلى نقد أدبي لانصرافه عن الموسيقى نفسها وتقنياتها وصناعتها وإبداعها. هنا يغرق البعض في تحليل كلمات الأغاني، عاكسًا انطباعات شخصيّة بعيدة عن الموسيقى نفسها. من ناحية أخرى، قد يتحول النقد في سياق آخر إلى أدلجة للموسيقى من خلال الاكتفاء بالحديث عن علاقتها بالصناعة واستقلاليّتها وثوريتها، وباعتبارها وسيلة لمقاومة منظومة ما أو كيانات محتكرة. إن كان ذلك السياق مهمّ كجزء من النقد الموسيقي لا يمكن تجاهله، فاختزاله في الأيديولوجيا يسفر عن نقد غير موضوعي للعمل.
لا يسعى هذا المقال إلى وضع معايير للموسيقى الجيّدة أو السيّئة، بل إلى البحث عن الموسيقى الجادة وعناصرها بعيدًا عن رؤية أدورنو النخبويّة لها، والذي حصر الموسيقى الجادة في الأعمال الممتدّة عن الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة. من أجل الوصول إلى أهم عناصر الموسيقى الجادة، وهو الصوت الجديد للعمل الموسيقي، سنحاول توسيع نطاق مفهوم الأصالة ودور التكنولوجيا وعلاقتهما بالموسيقى المعاد إنتاجها، إذ قد تساعد إعادة الإنتاج في ظهور صوت جديد أو تحول دونه. ستتم معالجة ذلك من خلال التوقّف أمام بعض أفكار فالتر بنيامين في مقاله: العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيًا، الذي سنطبق بعضًا من نقاطه على الموسيقى.
“إن مكان وزمان العمل الأصلي هما اللذان يبقيان على أصالة ذلك العمل.” يرى بنيامين أن أصالة العمل الفنّي مرتبطة بمدى تجلّي الزمان والمكان الآنيين في العمل. إذ أن الموسيقى الأصيلة هي التي تعكس تاريخ العمل ومكانه الجغرافي وسياقه الثقافي. في نفس الوقت، يرى أيضًا أن المتلقي ينبغي أن يكون حاضرًا في الوقت الذي يخلق فيه هذا العمل الفني لكي يكون مكتملًا (من خلال العروض الحيّة مثلًا).
ما زال زمان ومكان العمل من العناصر التي تؤرّق المتمسكين بالمفهوم التقليدي للأصالة، بالإضافة إلى تشكيكهم في التقنيات والآلات الحديثة. هذا ما ينطبق على نظرية بنيامين من خلال نقده للتكنولوجيا وإعادة إنتاج العمل الفنّي بشكل تقني، إذ يقول: “حيّز الأصالة مغيب تمامًا عن مجال عملية إعادة الإنتاج التقنية.“، رافضًا وسائل التسجيل الموسيقيّة وصيغ الموسيقى المسجّلة التي تنتزع أصالة العمل من خلال إعادة إنتاجه بكميات ضخمة، ما يترتّب عليه استنساخ منتج موسيقي منعدم الأصالة. لذلك يرى الناقد الألماني أن أصالة العمل تكمن في عرضه الحي؛ وبذلك يضع يده على استحالة نقل الصيغ الموسيقيّة، أو بلغته: “إعادة الإنتاج بطريقة تقنيّة“، ونقل صوت المكان أو القاعة إلى غرفة المستمع: “رغبة جمهور اليوم في الاقتراب من الأشياء بشكل أكبر من ناحية المساحة ومن الناحية الإنسانيّة، تصاحبها رغبة مماثلة في التغلّب على تفرّد كل ما هو حقيقي من خلال قبول إعادة إنتاجه.” (وهي نفس الإشكاليّة التي تحدثنا عنها في مقال الموسيقى المسجّلة وسعيها إلى الكمال الذي نشر على جزئين: الأوّل، والثاني، وفي مقال علاقة المكان بتطوّر الموسيقى).
الموسيقى المسجلة هي وسيلة لمحاكاة العمل الأصلي وتمثيله، وتحويل بُعد المكان الأصلي للعمل إلى مكان افتراضي يحافظ على الهويّتين الشخصيّة والفنيّة لصاحب العمل وتاريخه. من خلال هذين الزمان والمكان الافتراضيين لا تصبح أصالة العمل مهددة. إذ أن عمليّة إعادة إنتاج العمل الأصلي واردة بأى طريقة، حتى إن لم يتم ذلك بشكل مضخّم باستخدام التكنولوجيا. في نفس السياق، يأتي نقد أدورنو لبنيامين في كتاباته الأخيرة عن الغراموفون، والذي يرى في التكنولوجيا وتسجيل الموسيقى آفاقًا واسعة تساعد في عملية الإنتاج نفسها. يعود ذلك إلى إمكانيّة الاستماع إلى الموسيقى عدّة مرات بتركيز أكبر وبمعزل عن أيّة عوامل خارجيّة، ليتيح هذا التكرار استماعًا متغيّرًا يثري العمليّة النقديّة، ومن ثم إنتاج الأصوات الجديدة. كما يرى أدورنو أن “امتلاك الموسيقى كسلعة أمر حتمي لا يجب الترفّع عنه، طالما أردنا أن نستمع إلى الموسيقى من دون وسيط“، ويكرّر نفس المعنى في كلامه عن الموسيقى الحيّة في مقال آخر بعنوان حول الاستخدام الموسيقي للراديوهات.
كما ذكرنا في مقال الموسيقى والتكنولوجيا، تستطيع أجهزة التسجيل والصيغ الموسيقيّة، مثل الشرائط الممغنطة والغراموفون والبرامج الرقميّة – وهي وسائل إعادة إنتاج بشكل تقني – إنتاج وخلق صوت جديد غير مسموع من قبل، وأنواع موسيقيّة جديدة وطرق جديدة للعزف. نرى مثالًا على ذلك في العيّنات الصوتيّة المستخدمة في موسيقى الهيب هوب والتريب هوب والموسيقى الإلكترونيّة، فمن خلال إعادة الإنتاج التقني للعيّنات الصوتيّة المسجلة مسبقًا يخرج عمل جديد (في فكرة أشبه بالكولاج في الفنون البصريّة)، وبهذا تسفر عمليّة إعادة الإنتاج التقنيّة عن إنتاج صوت جديد. ذلك بالإضافة إلى ظهور أدوار جديدة في عملية الإنتاج الموسيقي، مثل: المنتج الموسيقي ومهندس التسجيل، وهى كلها أدوار تضيف على إبداع صاحب العمل وتساعد على ظهور إنتاج حقيقي وصوت جديد. نستنتج من ذلك أن ما يهدد أصالة العمل ليست إعادة الإنتاج التقنية أو التكنولوجيا، بل محاكاة إنتاج صوت قديم.
من هنا بإمكاننا توسيع مفهوم الموسيقى الأصيلة لتشمل التعامل مع التقنيات الحديثة المتوفرة التي تساعدها على الإنتاج الجديد، بدلًا من التعامل معها بحرص أو الابتعاد عنها، فالعمل الأصيل باستطاعته أن يحتوي على صوت جديد من خلال التكنولوجيا. لكن من الواجب مراعاة السياق الزمني لمقال بنيامين، والذي يأتي كلامه في ثلاثينيّات القرن الماضي أثناء صعود الفاشيّة وفي فترة استوجبت “نقد التنوير“. لذلك لا عجب أنّه تعامل مع التقنيات الحديثة بحرص شديد، حيث يرى هو والجيل الأول من مدرسة فرانكفورت أن “الروح الفاشيّة والرأسماليّة هي المستفيد الرئيسي من إعادة التصنيع الضخمة للأعمال الفنية“، لذلك يتّسم كلامه بالراديكاليّة في ما يخص أصالة العمل وعلاقته بالمكان والزمان والتكنولوجيا بعكس كتابات أدورنو في نفس الموضوع في الستينيّات.
يقول بنيامين: “تفرّد العمل الفني مرتبط بشكل وثيق بكونه جزء لا يتجزأ من نسيج التراث، وهذا التراث في حد ذاته كائن حي ومتغير بصورة كبيرة“، وبينما يتمسّك “حماة الأصالة” بارتباط العمل الموسيقي الأصيل بزمن ماضٍ وبمكانه الجغرافي أو بيئته الثقافيّة، يُغفل أمر أن الأصالة شيء نسبي للغاية، بما أن الزمن والثقافة أمور متغيّرة حسب رأي بنيامين نفسه. إذ لا تنبع أصالة موسيقى سيد درويش من أنّها جزء من تراثنا الآن، بل نظرًا لفرديّتها وصوتها الجديد مقارنةً بما سبقه. فإذا سلمنا بفكرة ارتباط الأصالة بالزمن لن يمكننا اعتبار موسيقى المهرجانات أصيلة إلا بعد ١٠٠ عام، لكنها في الحقيقة تعد أصيلة الآن بالفعل كما سنوضح لاحقًا.
يقول أدونيس في نفس السياق “إن الأصالة ليست نقطة ثابتة في الماضي يجب أن نعود إليها من أجل تحديد هويتنا، بل هي القدرة المستمرّة على الحركة وتجاوز الحدود القائمة نحو عالم يقوم باستيعاب الماضي ومعرفته ليتطلع إلى مستقبل أفضل“. ينطبق هذا الكلام على بعد المكان أيضًا، فمع تطوّر التكنولوجيا والاتصالات أصبح الفنان أكثر انفتاحًا على أماكن وثقافات تختلف عن ثقافته وبيئته الأصليّة، وهو ما كان متاحًا من قبل لكن على نطاق أضيق. كما قلنا، تقوم التكنولوجيا المتمثلة في صيغ الموسيقى وطرق التسجيل والإنترنت بتحويل بعد المكان إلى مكان افتراضي يسهل على الموسيقي استيعابه. وبذلك، تتيح هذه المعطيات مجالًا ثقافيًا أوسع مما كان متاح من قبل ليقوم الموسيقي باحتضانه داخل وعيه وثقافته. ويضاف الصوت الناتج عن تلك العملية إلى الثقافة والمكان “الأصلي” للموسيقي، ما يفتح مجالاً أوسع للصوت الجديد، بجانب الاعتماد على التكنولوجيا.
لذلك نصل إلى نتيجة أن التمسّك بأصالة المكان والثقافة والزمن – وهي كلها أمور نسبيّة – بمفهومها الكلاسيكي هو بمثابة انغلاق موسيقي، أو على أفضل الفروض: تحويل الموسيقى إلى فلكلور لمحاربة المعطيات الثقافيّة المختلفة والتقنية المتاحة. يترتب على ذلك توقّف تطور حركة الموسيقى ووجود قالب واحد، ما يجعل لا مفر من استنساخ هذه الموسيقى “الأصيلة” في الأعمال “الجديدة“. يمكن التعامل مع الثقافات المختلفة أو التكنولوجيا بنفس منطق بنيامين في تعامله مع أسلوب الاقتباس. إذ ترى حنة آرندت في مقدمة كتاب إليومينايشنز لبنيامين أن الأخير يتعامل بسلاسة مع كل ما يقع في حيّزه الثقافي ويقتبس منه ليخرج في النهاية بفكرته الخاصة به، ولا يهدد ذلك أصالته بل يضيف إليها.
من هنا نستطيع القول إن الأصالة لا تكمن في الحفاظ على التراث أو على مكان وزمان العمل، بل في طرحها لصوت جديد. فإن الأصالة قادرة على استيعاب ما هو حديث من تقنيات وكل ما يقع في المجال الثقافي للموسيقي بطريقة حقيقيّة أو افتراضيّة من حيث البيئة والمكان والثقافة والطبقة، ليسفر هذا عن الموسيقى الجادة المتمثلة في الصوت الجديد. لكن العمل يفقد جديّته وأصالته عندما يُعاد إنتاج العمل الأصلي (الصوت الجديد) من قبل جهة لا تسعى إلى أيّة إضافة أو تطوير. لذلك يلزم الأمر توضيح أنواع إعادة الإنتاج وهل بامكانيتها أن تسفر عن صوت جديد أم لا.
يرى بنيامين في مقاله أن “أي عمل فني قابل دائمًا لإعادة إنتاجه من حيث المبدأ. فأي منتج من صنع الإنسان يستطيع آخرون محاكاته. فالتلاميذ يصنعون نسخ مطابقة أثناء ممارستهم للحرفة، والمعلمون كذلك من أجل نشر أعمالهم، وأخيرًا هناك أيضًا طرف ثالث يصنعها سعيًا للربح.” قد ينتج عن إعادة إنتاج العمل موسيقى مطابقة للعمل الأصلي، فيخرج منتج مسلٍّ يستكمل العمل الأصلي، وقد يضيف إليه الموسيقي صوته الخاص أيضًا. لكن مع تكرار إعادة الإنتاج ومع تراكم محاولات تغيير العمل الأصلي ينشأ الصوت الجديد، خصوصًا في حالة تعامل الفنان مع تقنية حديثة. مثل في حالة تطور البانك روك إلى بوست بانك وموسيقى الموجة الجديدة في الثمانينيّات، والتطور الذي طال موسيقى الروك والسايكدلك روك، والذي أدى إلى نشأة البروجرِسيف روك، وأيضًا مثل نشأة البوست روك من خلال كثرة وإعادة إنتاج البريت روك. هناك نوع آخر من إعادة الإنتاج يحاول إعادة إنتاج العمل الأصلي فيقوم بتشويهه، ويسفر ذلك عن موسيقى مبتذلة، نجد محاولات هاني شاكر لإعادة إنتاج موسيقى عبد الحليم توضح شكل العمل المبتذل. تخرج كثيرٌ من المحاولات التي تعيد إنتاج الهيب هوب في البلدان العربيّة بأعمال مشوهة أيضًا تموت مع الوقت بطبيعة الحال.
أما الإنتاج الحقيقي أو العمل الجاد فالذي يحتوي على عناصر الأصالة التي أعدنا تعريفها لتنتج هذا الصوت الجديد. نستطيع طرح العديد من الأمثلة مثل في موسيقى الهيب هوب، وهى موسيقى تعكس الثقافة القادمة منها وتعاملت مع التقنية الحديثة المتاحة وقتها وقامت بطرح صوت جديد عن طريق توظيف العينات الصوتية. فتجربة بيلا بارتوك وإيجور سترافينسكي مع الموسيقى الفلكلوريّة أنتجت صوتًا جديدًا يختلف عن أعمالهما السابقة وأعمال الموسيقيين الآخرين في نفس الفترة.
تندرج موسيقى ستيف رايخ تحت هذا التصنيف أيضًا. إذ تعتمد موسيقى رايخ التقليليّة، بشكل أساسي، على قواعد الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، وبشكل أساسي على الكاونتربوينت كونترابنط سنتربوانت: وجود خطَّي لحن أو أكثر بالتوازي بشكل منسجم، وهو أسلوب فترة الباروك أي القرن السابع عشر في أوروبا.. يمزج رايخ بين هذه الموسيقى وبين تقنيات عزف الموسيقى الأفريقيّة والجاملان بآلات غربيّة، وبالاعتماد بشكل أساسي على التكنولوجيا، لينتج عن ذلك صوتٌ جديد أبعد ما يكون عن الموسيقى الواقعيّة والموسيقى المسلسلة التي سبقته.
تعد بعض أعمال أم كلثوم وعبد الوهاب التي يعتبرها البعض غير أصيلة خير مثال على الصوت الجديد، وذلك لاعتمادها على ألحان شرقية لكن من خلال إعادة توزيع وكتابة موسيقاها بشكل جديد متأثر بالموسيقى الغربية، ويختلف تمامًا عن القوالب العربية الكلاسيكيّة. يذكر كاي ديكينسون في مقدمة كتابه ما بعد الحداثة العربية The Arab Avant-Garde أن مؤتمر الموسيقى العربيّة الذي استضافته القاهرة عام ١٩٣٢، ودُعي إليه موسيقيون غربيون كان له فضل كبير في الصوت الجديد لموسيقى أم كلثوم وعبد الوهاب بعده.، وأن أعمال صلاح رجب تعد أعمال جادة لأنها لم تعد إنتاج الجاز كما هو، بل قامت بطرح صوت جديد لموسيقى الجاز يعتمد على الإيقاعات والمقامات الشرقيّة بلا أي تشويه لنوع الجاز. كما ينطبق ذلك على موسيقى حليم الضبع الذي نجد في أعماله مزجًا بين الموسيقى المسلسلة والمقامات والإيقاعات الشرقيّة والأفريقيّة.
نجد أيضًا في موسيقى كينج كريمزُن صوتًا جديدًا بمعدّل كل عقد، وفي موسيقى ديفيد بايرن كل بضعة أعوام. من الممكن أن يكون هذا الصوت الجديد هو صوت المنتِج الموسيقي، مثل الموسيقى التي يقوم بإنتاجها براين إينو؛ حيث يقوم بالتعامل مع الاستوديو بطريقة مختلفة عن باقي المنتجين الموسيقيين متبعًا نهجه الخاص، ومن الممكن رصد صوت إنتاجه من خلال طريقة توزيعه وتحريره ومزجه للآلات. جميع هذه الأعمال الموسيقية التي ذكرناها لها صوت مميز ما يدل على أصالتها.
يمكننا القول إن موسيقى المهرجانات التي ظهرت في العقد الأخير تعدّ عملًا جادًا باختلافها التام عن الهيب هوب العربي الذي يعد معظمه إعادة إنتاج مشوهة، وإذا سلّمنا بتأثّر موسيقى المهرجانات الواضح بعناصر الهيب هوب، ويظهر ذلك من خلال طريقة الغناء والرقصات ووجود النبطشي الذي يعد دوره أشبه بالـ إم سي، لكن لم ينتج عن ذلك موسيقى هيب هوب عربيّة، بل اعتمدت بشكل أساسي على الموسيقى الشعبية والتعامل مع التكنولوجيا بشكل مختلف عن موسيقيي الهيب هوب، من خلال مؤثرات الصوت، ومؤثر الأوتوتيون، والإيقاعات. نتج عن ذلك عمل جاد ذو صوت جديد قام بنقل الموسيقى الشعبيّة إلى منطقة أخرى. فالمهرجانات لم تقم بمحاكاة أو تشويه الهيب هوب، ولم تبق أسيرة الموسيقى الشعبيّة بقوالبها التقليديّة.
بمرور عدة سنوات على نشأة هذه الموسيقى الجادة، بدأت تظهر بوادر لطرح صوت جديد داخل هذه الموسيقى من خلال دمج موسيقى المهرجانات بأنواع موسيقية أخرى، أو إنتاجها بشكل مختلف موسيقيًا. لكن كما ذكرنا في مقال تناقضات الموسيقى المستقلة، فإن السوق بإنتاجه الضخم متمثلًا في الإعلانات وفي أفلام محمد السبكي أو في بعض أشكال الإنتاج البديل، على سبيل المثال ١٠٠ نسخة، يقوم بإعادة إنتاج هذه الموسيقى لما تحظى به من قبول جماهيري في مصر والخارج. وبهذا يُعاد إنتاج هذا الصوت الجديد وتكراره دون الإضافة إليه. فدور الإنتاج الجاد، وهو القادر على إنتاج صوت جديد، له نفس أهمية دور الفنان الجاد.
لذلك فإن الإنتاج المستقل، مثل في الأعمال التي يتم إنتاجها بشكل تعاوني أو ذاتي collective/DIY أو الإنتاج البديل عن الشركات الضخمة والدولة، قادر على طرح صوت جديد أكثر من شركات الإنتاج الضخمة لأنه أكثر حريّة ومغامرة ولا يخضع لقواعد وقوالب السوق. من هنا تنشأ مقاومة لآليات السوق واحتواء شركات الإنتاج، مع العلم أن هذا الاحتواء قد تقع فيه الشركات البديلة، لكن على نطاق أصغر. لا يعني ذلك أن الشركات الضخمة غير قادرة على إنتاج أعمال جادة، مثل في حالة البيتلز وغيرهم. كما أن هناك أشكال بديلة للإنتاج تعتمد على الشركات الضخمة في التوزيع فقط، حيث لا تتدخل الشركات الضخمة في المنتج نفسه. هذه الكيانات الضخمة إذًا قد تخلق فرصة للإنتاج الجاد بشكل غير مباشر من خلال الصراع معها، فإن لم تنجح في احتواء الموسيقى الجادة فإنها تحاول التفاوض معها وهو ما يؤدي إلى تغيّر موازين القوى.
يظهر ذلك أيضًا من خلال التكنولوجيا ومواقع الإذاعات على الإنترنت وبرامج التسجيل الرقميّة التي جعلت الموسيقيين لا يبالون بالتسجيل في الاستوديوهات الكبيرة، ولا يتصارعون من أجل الوصول إلى الشركات الكبيرة. بذلك، فإن الأدوات التي يتيحها النظام الرأسمالي قادرة على خلخلته، حتى وإن بذل قصارى جهده لاحتوائها، إذ تبدو هناك دائمًا ثغرة وبدائل في أي نظام (نستثني من ذلك الأنظمة الفاشية) من الممكن استغلالها للحصول على موسيقى جادة. رغم أن برامج التسجيل الرقمية والمواقع الموسيقية مثل آي تيونز وساوندكلاود تؤدي بدورها إلى تضخم في الإنتاج، ولكن كما قلنا فهي تتيح أيضًا فرصة أكبر للتجريب وظهور صوت جديد من خلال الإنتاج الصغير والمستقل.
كل هذه العوامل التي طرحناها لها نفس أهمية النقد التقني للموسيقى، وهي تختلف عن النقد على أساس كلمات الأغاني الذي يحول الموسيقى إلى نص أدبي، والنقد الذي يحول الموسيقى إلى أيديولوجيا. لا يقع هذا النهج الموضوعي في ثنائية الجيّد / السيء والانطباعات الشخصيّة، بل ينتج جدل ونقاش حول جدية العمل. من خلال إعادة صياغة مفهوم الموسيقى الأصيلة والموسيقى الجادة القادرة على طرح الصوت الجديد يُفتح مجال يضاف إلى استماعنا ومن ثم تقييمنا للموسيقى.
يقع على عاتق الناقد الموسيقي، أو المستمع الذي يقوم بدور نقدي، إبراز الصوت الجديد من عدمه من خلال ما ذكرناه، وعن طريق بحثه عن العلاقات التي تربط العمل المعني بأعمال وأصوات سابقة وبالتكنولوجيا المتاحة والمكان والزمان والثقافة والبيئة الحقيقيّة أو الافتراضيّة للموسيقى، يتضح في النهاية إذا كان العمل مُعاد إنتاجه، وقدر إضافته للموسيقى، وإذا ما كان إنتاجًا وإبداعًا حقيقيًا، وعملًا جادًا بالفعل.
المراجع:
والتر بنجامين – العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكية.
الموسيقى المعتمدة على العينات الصوتية وممارسة بنجامين للاقتباس.
أدورنو عن الموسيقى في عصر قابلية إعادة إنتاجها التكنولوجية.
الاستماع من خلال الضجيج: جماليات الموسيقى الإلكترونية التجريبية لـ جونا ديمرز.
الضجيج: الاقتصاد السياسي للموسيقى لـ جاك أتالي.
مجموعة مؤلفين : مدرسة فرانكفورت النقدية – جدل التحرر والتواصل والإعتراف.